“احبطونا كثيرًا ورددوا على مسامعنا كلمة “مستحيل” مرارًا، لكننا تحدينا أنفسنا وأثبتنا لهم العكس.. فرضنا أنفسنا على المجتمع رغم جميع الاعتراضات، كما لم ننتظر من أحد أن يعطي أحلامنا وطموحاتنا الموافقة، وأصرينا على الوصول لما نريده بغض النظر عن الظروف”. بهذه العبارات تحدثت، عبير الهركلي، عن تجربتها في تأسيس وقيادة فرقة “سوا” كأول فريق في العالم لرقص الدبكة الشعبية على كراسي متحركة في قطاع غزة.
لكن قصة نجاح الهركلي المختصرة، لا تكشف تمامًا عن واقع ذوي الإعاقات في غزة، فما بين العنف المجتمعي والنفسي والاقتصادي، تتضاعف معاناتهم مع وجود الحصار والاحتلال الإسرائيلي الذي يزيد حياتهم تعقيدًا وصعوبةً، ولا يستثنيهم من أهدافه في تحطيم معنويات سكان هذه المدينة، بل على العكس، ساهم مؤخرًا، بشكلٍ ملحوظ، في زيادة أعدادهم وتسديد كل منافذ النجاة عليهم.
الصورة الكاملة عن الإعاقة في غزة
يصادف يوم 3 ديسمبر/كانون الأول من كل عام اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، واحتفالًا بهذا اليوم، شارك العشرات من الأشخاص المعاقين في سباق الماراثون للكراسي المتحركة في مدينة خان يونس، في جنوب القطاع، لإيصال رسالة للمجتمع مفادها بأنهم من الأشخاص الفاعلين في العالم وقادرين على الوصول إلى أهدافهم في مختلف جوانب الحياة، كغيرهم من الناس.
إعاقة التواصل هي الأكثر انتشارًا بنسبة 25.3%، تليها الإعاقة الحركية بنسبة 25.1%، ثم التذكر والتركيز بنسبة 19.7%، وأقلها السمع بنسبة 13.2%.
وعلى لافتات كُتِب عليها: “لا أريد عطفكم.. أريد عدلكم”، وأخرى مثل “الإعاقة لا تلغي الطاقة.. الإعاقة لا تعني العجز” ينزل ذوو الإعاقات إلى شوارع القطاع، مطالبين المجتمع والحكومة بحقوقهم في العمل، نظرًا لأن التقديرات الرسمية تشير إلى أن 90% من الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة عاطلون عن العمل، مما يجعلهم، هم وأسرهم، يعتمدون إلى حد كبير على المساعدات النقدية والمعونات التي تقدمها وزارة التنمية الاجتماعية.
رغم أن القانون الفلسطيني رقم 4/1999 يضمن لهم توفير فرص التدريب المهني والتأهيل والتشغيل، بحيث تلزم المادة العاشرة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية على استيعاب ما لا يقل عن 5% من ذوي الإعاقات بين عدد العاملين بها، مع جعل أماكن العمل مناسبة لاستخدامهم، إلا هذه المعايير على ليس لها أثر على أرض الواقع.
الاحتلال يضاعف مأساة ذوي الإعاقات
تقدر وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية أن أكثر من 130 ألف شخص في غزة يعانون من نوع من الإعاقة، حيث تعد إعاقة التواصل هي الأكثر انتشارًا بنسبة 25.3%، تليها الإعاقة الحركية بنسبة 25.1%، ثم التذكر والتركيز بنسبة 19.7%، وأقلها السمع بنسبة 13.2%.
تختلف أسباب الإعاقة ما بين العوامل الوراثية والبيئية، لكن نسبة كبيرة من هؤلاء الأشخاص ذوي إعاقة بسبب جرائم الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المستمرة على القطاع، وخاصةً في عدوان عام 2014. ففي تلك السنة، تعرضت جمعية “الحق في الحياة”، أول جمعية اهتمت بأطفال التوحد ومتلازمة داون، للدمار بعد 22 سنة من العمل على تأهيل ذوي الإعاقات على العمل والاندماج المجتمعي، ووصلت الخسائر إلى مليوني دولار أمريكي.
يضاف إلى ذلك، تأثير انقطاع الكهرباء المتواصل على هؤلاء الأشخاص، ولا سيما الذين يعتمدون في تحركاتهم على الأجهزة الكهربائية، فمثلًا يواجه ألف و 200 شخص معاق قيودًا شديدة على الحركة بسبب عدم قدرتهم على شحن البطاريات أو الأجهزة، عدا عن افتقار الأسر للقدرة المالية لتغطية النفقات اللازمة لتوفير هذه الأجهزة أو استبدالها بحسب الحاجة.
بصفة عامة، أدت الحروب الثلاث التي تعرضت لها غزة خلال السنوات الماضية إلا وقوع الآلاف من الجرحى والمصابين، من بينهم ما لا يقل عن 600 شخص أصبحوا في عداد ذوي الاحتياجات الخاصة. وتكمن المشكلة الحقيقية بأن هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى رعاية صحية ونفسية دائمة، سواء في المستشفيات أو المنازل، وبعض الحالات تستلزم توفير خدمات مثل إعادة تأهيل وبرامج علاج طبيعي ونفسي، وهو ما يصعب توافره في مدينة محاصرة منذ 13 سنة تقريبًا.
عوائق على مختلف المستويات
توضيحًا للواقع، أصدرت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية ورقة عمل بعنوان: “تردي أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة”، في محاولة للفت الأنظار نحو هذه الفئة المهمشة على جميع الأصعدة، إذ تشير الورقة إلى أزمة نقص المستلزمات الطبية والأدوات المساعدة التي تسهل حركتهم اليومية. فقد بينت دراسة استقصائية أعدتها الشبكة أن نسب النقص وصلت إلى معدلات مرتفعة جدًا، حيث بلغ العجز الكلي نحو 82% لدى المنظمات التي شملتها الدراسة، مشيرةً إلى نقص حاد في الموارد منذ فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع.
كما أضافت أن الأزمة تفاقمت حدتها خلال أحداث مسيرة العودة الكبرى، وارتفاع أعداد الجرحى والإعاقات الناجمة عنها، مما استهلك الكميات المتوفرة من الأدوات المساعدة. ونظرًا لهذه الكارثة الإنسانية ناشدت الشبكة الوزارات الحكومية والسلطات الدولية بضرورة رفع الحصار واحترام القانون الدولي الإنساني.
تبين الإحصائيات أن 35.7% من الأطفال الفلسطينيين في غزة لا يذهبون إلى المدرسة. تنسب غالبية الأسر هذا الوضع إلى نقص الدعم وصعوبة النقل والعوائق المادية التي تمنعهم من الانضمام إلى في المنظومة التعليمية.
تبين الإحصائيات أن 35.7% من الأطفال الفلسطينيين في غزة لا يذهبون إلى المدرسة، و44% منهم فقط مسجلون في نظام التعليم.
ولا داعي للذكر أن البيئة المحلية ليست مناسبة لحركتهم، على سبيل المثال أفاد 34.7% من الأفراد ذوي الإعاقة الحركية أنهم بحاجة إلى مواصلات موائمة حتى يستطيعون الوصول لأماكن العمل، يليهم الأفراد ذوي الإعاقة البصرية بنسبة 31.7% ، و17.6% من الأفراد ذوي الإعاقة السمعية.
الأكثر سوءاً من ذلك، أن غالبيتهم لم يلتحقوا أبدًا بالتعليم، إذ تبين الإحصائيات أن 35.7% من الأطفال الفلسطينيين في غزة لا يذهبون إلى المدرسة، و44% منهم فقط مسجلون في نظام التعليم. تنسب غالبية الأسر هذا الوضع إلى نقص الدعم وصعوبة النقل والعوائق المادية التي تمنعهم من الانضمام والاندماج في المنظومة التعليمية.
في نفس الخصوص، صرح المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” بغزة، عدنان أبو حسنة، إن وكالته تتجه نحو إنهاء عقود “البطالة الدائمة” الممنوحة لمؤسسات المجتمع المدني، ومن بينها إذاعة “فرسان الإرادة”، الإذاعة الناطقة باسم الأشخاص من ذوي الإعاقة في قطاع غزة. حيث يعمل فيها نحو 25 موظفًا، من بينهم 10 من ذوي الإعاقة، وذلك ضمن التقليصات المالية التي تنفذها الوكالة.
كانت هذه الإذاعة واحدة من محاولات ذوي الإعاقات للنجاة من التهميش والإهمال، إلا أن الظروف المالية والسياسية في البلاد أبت أن تبقي صوتهم مسموعًا، ومع ذلك لم تكن هذه المحاولة الوحيدة لهم، فرغم ضعف الإمكانيات، أسسوا فرقة رقص شعبى، واتقنوا حرف يدوية، وشاركوا في مسابقات السباحة والركض، وافتتحوا مدارس خاصة بهم، كنوع من التحدي والإصرار على الاندماج في المجتمع.