تحاول القوى الكبرى الساعية نحو الريادة والتفوق أن توجد لنفسها العديد من مصادر القوة المختلفة، ومن خلال بحثها الدائم عن الأوجه الكثيرة والمتغيرة لتلك القوة، فإنها لم تعْدم أن تجد نفسها أمام عدد كبير من الأدوات والآليات التي يمكن أن تستخدمها لزيادة نفوذها.
إلى ذلك، فقد تعددت المفاهيم التي تناولت مصطلح القوة الناعمة؛ إلا أنها تكاد في معظمها تجمع على أنها مصدر من مصادر إكراه الفرد على فعل سلوك معين، وقد يختلف معي القارئ في كونها قوى ناعمة وفي نفس الوقت تجد من بين خصائصها عنصر الإكراه، وما حدا بالمختصين إلى ذكر اشتمال القوة الناعمة على هذه السمة أنه يتم التأثير في الآخرين بصورة غير مباشرة تحملك على تبني أفعال وسلوكيات معينة، وفي تسعينيات القرن الماضي بدأ جوزيف ناي وكيل وزارة الدفاع الأمريكية بتطوير ذلك المفهوم إلى القدرة على التأثير في الآخرين من خلال الاحتواء والجاذبية لا من خلال الضغط والإكراه غير المباشر.
فقد توصل إلى أن هناك طرقًا أكثر فاعليّة يمكن أن تؤتي ثمارها على المدى البعيد حيث يقول: “جدار برلين اخترق بالتليفزيون والأقلام والسينما قبل زمن طويل من سقوطه عام 1989″، فالجرافات والمعدات التي أسقطته لم تكن لتبدأ عملها لولا أنها تبنت تلك الفكرة من خلال ترويج السينما الغربية لهذا الحدث وأهميته في تدعيم الاستقرار والأمن لتلك المنطقة المهمة من العالم.
صناعة التصورات
مرت هوليوود عبر تاريخها بمجموعة من المتغيرات في نظرتها لمختلف الأحداث والقضايا التي تشغل بال المهتمين بالشأن العام، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل إنها انبرت منذ البداية لتدافع عن وجهات محددة وتتخذ موقفًا ثابتًا لا يتغير تجاه بعض الموضوعات، ففي بداية عهدها كانت هوليوود عبر جهات إنتاجها الفني من الإستديوهات تحمل موقفًا مبدئيًا سلبيًا عن العرق الأسود والأقليات وكذلك المرأة، ومن المعروف أن هذه الآراء كانت تحت تأثير الأحداث الدائرة ولا تكاد تنفصل عنها بحيث يمكننا القول إنها ناتجة عنها، فصورة الرجل العربي كانت منذ البداية تحمل اتجاهًا واحدًا، وهو أنه باذخ الثراء مُغبر الوجه يعيش في الصحراء على ما تسعفه قواه أن يصطاده أو يقتنصه ولا يمل من شن الحروب والغارات على القبائل والأفراد لسبيّ النساء وأخذهن رهينة.
كان ذلك الحال قبل عام67 وما شهده من هزيمة عربية على يد “إسرائيل”، إلا أن الحال تبدّل بعد ذلك إلى ما هو أقبح وأفجع نتيجة انتصار العاشر من رمضان وما نتج عنه من انتصار عربي وتأثير لعبة النفط وتخفيض الإنتاج العربي وتأثر القوى الكبرى وقتها من ذلك الاتجاه العربي القومي المساند لحقوقهم المشروعة.
معظم الأفلام تتعمد كيل الصفات والتهم التي تكاد تغطي وتشمل كل محتوى الإنتاج ما عدا قليل من الإطارات والتزيين الخفيف ليظهر في النهاية وكأن هناك طرحًا متساويًا لكل الآراء
فأخذت السينما الأمريكية على عاتقها تبني وجهات نظر التعصب الأعمى تجاه الصراع العربي الإسرائيلي والانحياز ضد العرب وقضاياهم العادلة، ففي فيلم أمريكي من إنتاج عام 1915 يحمل اسم “العرب” جاءت فيه قصة ابن شيخ عربي يهوى مهاجمة القافلات التي تمر على الطريق وسلب ما فيها من أموال وبضائع، وكان أبوه بدوره رجلًا قويًا يأبى على ابنه أن يسلك اتجاه اللصوص وقطاع الطرق، فقرر معاقبته بأن يبيع حصانه المفضل فباعه لتاجر، واستثمره الأخير ببيعه أيضًا لرجل تركي، وفي النهاية استقر ذلك الجواد عند “ماريا” المبشرة الغربية، ولما وصل إليها الابن ليسترد جواده أذهله جمالها ووقع في حبها، إلا أنه وجد نفسه أمام خيار التقرب من “ماريا” والهروب معها وإتمام زواجه منها وخسارة أبيه وأقربائه، أو تركها لحال سبيلها وتحمل مشقة بعده عنها، بطبيعة الحال فإن توقف الأمر عند هذا الحد وكانت هذه الرؤية من ضمن تصورات وأفكار كثيرة فلا حرج في ذلك.
لكن معظم الأفلام تتعمد كيل الصفات والتهم التي تكاد تغطي وتشمل كل محتوى الإنتاج ما عدا قليل من الإطارات والتزيين الخفيف ليظهر في النهاية وكأن هناك طرحًا متساويًا لكل الآراء، ففي حقبة الستينيات أُنتج فيلم” لورانس العرب” وكان يحمل كثيرًا من المغالطات التاريخية التي تلوي عنق النصوص وتخالف الوقائع الثابتة والمستقرة، وكان أن رفضت بعض الدول العربية وقتها عرضه على أراضيها، ومع هذا فقد استطاع أن يحصد أكثر من خمس جوائز أوسكار عام 1962.
ورغم أن حقبة السبعينيات لم تخل من فيلم “الرسالة” والثمانينيات من فيلم “عمر المختار أسد الصحراء” على يد المخرج المصري العالمي الأستاذ مصطفى العقاد وما أحدثاهما من طفرة في الإنتاج العربي السينمائي ودفاعهما عن وجهة النظر العربية، فإنه وبانتهاء الحرب الباردة ودخول مرحلة السلام بين العرب و”إسرائيل” لم يتوقف الإنتاج الهوليوودي الذي ينادي بمواجهة العرب باعتبارهم خطرًا على إرساء دعائم السلام والأمن بمنطقة الشرق الأوسط، وكانت تلك العينة من الأفلام هي السائدة بحيث رسّخت عند الجمهور الأمريكي تلك الصورة المقولبة والجاهزة التي خرجت من رحم تصورهات مشوّهة لا تتفق مع الواقع.
عنصرية وتحامل
حفل التاريخ الأدبي بالعديد من الكتابات التي تتحدث عن المحاباة والعنصرية بداخل الإنتاج السينمائي الأمريكي، وقد جاء ذلك إما لأسباب مباشرة تتعلق بالحروب القديمة بين العرب من جهة والصليبين من جهة أخرى، وأسباب غير مباشرة تتعلق بجهات التمويل التي يقع عليها دفع أجور ولوازم عمليات الإنتاج من البداية إلى النهاية، فمن يدفع المال هو من يرسم الخطوط العريضة للاتجاهات والأفكار المطلوبة، ففي كتاب “العرب الأشرار في السينما: كيف تشوه هوليوود أمة Real Bad Arabs: How Hollywood vilifies a people يتحدث الدكتور جاك شاهين وهو إعلامي أمريكي النشأة والمولد عن التشويه والتزييف المقصود والمنظم لبعض الشعوب والأعراق داخل السينما الأمريكية، حيث أتى بذكر بعض الأدلة التي تشير إلى ذلك المفهوم المطروح، فيقول إن الفترة التي لحقت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر شهدت وقوع العديد من جرائم الكراهية ضد العرب المسلمين على وجه التحديد، والقولبة والتحامل على أحد الأعراق أو الأجناس أو الشعوب من شأنه أن يضر بمئات الأسر من النساء والأطفال والرجال والشيّب.
عند الانتقال إلى قضية اليابانيين بالتحديد نجد أن الفيلم الأمريكي” Captaine America: the first Avenger، يتناول مغالطات تاريخية فجّة لا تكاد تستقيم مع الحقائق المثبتة
لقد عانى الروس واليابانيون والصينون من العنصرية في عرض وجهات النظر التي تخالف أفكارهم ورؤاهم، فالرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان الذي أصدر أوامره بإلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي كان قد أعطى الضوء الأخضر إبان فترة حكمه باعتقال جميع الأمريكيين من ذوي الأصول اليابانية وإيقافهم في معسكرات اعتقال جماعية، ليس لغرض إلا التنكيل بهم نكاية في اليابان وإمبراطورها الحاكم إيسوروكو ياماموتو وسياساته التي كانت تعارض المصالح الأمريكية وكان من بينها شن البحرية الإمبراطورية اليابانية غارة على قاعدة بيرل هاربر، ما أسفر عن خسائر كبيرة من الطائرات والقتلى في صفوف الجيش الأمريكي ليتم إعلان الحرب ضد اليابان.
وذات الرئيس الأمريكي هو الذي خطّ بيده رسالة إلى خطيبته عندما كان في فترة شبابه ليقول فيها: “أعتقد أن كل إنسان مساوٍ لأخيه الإنسان، طالما كان أمينًا ومحترمًا، وليس زنجيًا أو يابانيًا أو صينيًا…”.
وعند الانتقال إلى قضية اليابانيين بالتحديد نجد أن الفيلم الأمريكي Captaine America: the first Avenger، يتناول مغالطات تاريخية فجّة لا تكاد تستقيم مع الحقائق المثبتة، فيحكي قصة مقاتل أمريكي من أصل ياباني يشترك مع زميله الأمريكي في الخدمة بقوات النخبة الأمريكية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى على أحد أن الهدف من تصدير تلك الصورة بالتحديد هو إيصال رسائل مبطنة إلى الجمهور بشكل عام وفئة الشباب والمراهقين بوجه خاص الذين يعتمدون على العروض السينمائية لاكتساب المعارف والخبرات، مفادها أن الوحدة الأمريكية بين جميع الأعراق خلال الحرب العالمية كانت السمة الرئيسية، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بينما لا توجد معسكرات اعتقال لليابانيين ولا لغيرهم ممّن اعتبروا – سرًا – من الأعداء، وفي نفس الفيلم نجد أن أمريكا انتصرت في تلك الحرب بفضل الجهود والتضحيات الأمريكية فقط، ولم يتم الإشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى الاتحاد السوفييتي سابقًا ودوره الكبير بتقديم أكثر من 15 مليونًا من أبناء شعبه لينحسر الخطر النازي الذي كان يحيط بهم في تلك الفترة.
التنين الصيني داخل الحلبة
رغم أن الصين تلعب اليوم دورًا مهمًا على الساحة الدولية، فإن حضورها السينمائي لا يزال ضعيفًا وتأثيرها يكاد يكون محدودًا مقارنة بعملاق الصناعة السينمائية “هوليوود”، وقد تنبه لهذ الأمر المسؤولون الصينون ممّا دفعهم إلى عقد العديد من الندوات وحلقات النقاش الرسمية في سبيل دفع عجلة الصناعة السينمائية الصينية إلى الأمام، ففي اجتماعه مع ممثلين سينمائيين ومندوبين عن كبرى شركات الإنتاج الصينية أقر chao wang المسؤول الكبير بوزارة الإعلام الصينية بأن الانتشار الدولي للسينما الصينية لا يزال في بداية عهده، حيث تحقق الأفلام الأمريكية أرباحًا كبيرة جراء عرض أفلامها داخل الصين بينما على الجهة الأخرى فإن السينما الصينية تواجه مشاكل كثيرة في النجاح والتفوق.
فلقد سحبت شركات الإنتاج الصينية فيلمها Asora من الأسواق نتيجة الإقبال الضعيف على شباك التذاكر ممّا تسبب في خسارة فادحة للجهات المنتجة، فقد بلغت تكلفة الإنتاج الضخم أكثر من 750 مليون يوان في حين كانت إيراداته أقل من 50 مليون يوان، واتجهت الشركات التي تعاونت في إنتاج الفيلم إلى إعادة إنتاجه وتغيير بعض الأفكار والرؤى في سبيل إنقاذه، وفي حالة فشل تلك الفكرة فإنها بذلك تكون قد منيت بأكبر خسارة سينمائية في تاريخ السينما الصينية.
وتحاول الصين الآن تنظيم العملية السينمائية من خلال مجموعة من الإجراءات تتمثل في ضبط أجورالممثلين نتيجة التهرب الضريبي واستياء الشارع من الأجور الباهظة التي يتقاضاها الممثلين، وتقضي الخطة المقترحة بأن ات يزيد أجر أي ممثل في الفيلم عن 4% من القيمة الإجمالية للتكلفة الفعلية للإنتاج، وكان مقدم برامج في إحدي القنوات الصينية نشر ما وصفه بأنه عقد الممثلة السينمائية فانغ بينج ين الذي جاء فيه أن أجرها في العمل يتخطى حاجز المليون دولار، ووصفتها وقتها مجلة “فوربس” بأنها من بين الخمس الأوائل الأعلى أجرًا في العالم.
تتفوق الصين على الولايات المتحدة في عدد دور عرض الأفلام السينمائية، ففي عام 2016 امتلكت الصين 41 ألف دور عرض لتصبح بذلك أول دولة في التاريخ تتجاوز أمريكا في أعداد صالات دور العرض، ولقد تحقق ذلك نتيجة التشجيع الحكومي الكبير لشركات الإنتاج على الدخول في ذلك السوق، كذلك فإن ما لمسته شركات الإنتاج من أرباحٍ ضخمة من الأفلام المعروضة خلال السنوات السابقة دفعها لضخ المزيد من الاستثمارات كشركة “علي بابا” و”واندا”.
أخيرًا، إن السينما الأمريكية ليست مطالبة بتقديم الصور المضيئة عن الشعوب، ولا أن تجاملها بذكر المحاسن والفضائل مع تجاهل ما قد يتصفون به – وهي سمة في كل الشعوب – من سلبيات، بل المطلوب أن تكون الصورة على قدر من التوازن الذي يتيح للمشاهد أن يكوّن انطباعات سليمة تصوّر الإنسان كما هو، بفضائله وزلاته، وتستخرج أفضل ما فيه من صفات الخير وحب الغير ومبادئ الإنسانية، التي هي الصفة المشتركة بين جميع الشعوب على اختلاف انتماءاتها، ومن هنا جاءت فلسفة السينما لتأخذنا إلى عالم آخر، عالم أفضل ما فيه هو الإنسان!