شكلت التظاهرات الشعبية التي شهدتها الساحة العراقية من مطلع أكتوبر الماضي، إحدى أكبر المشاكل التي واجهتها إيران في العراق منذ العام 2003، خصوصًا وأنها أصبحت مستهدفة بصورة مباشرة من قبل المتظاهرين العراقيين، سواءً من خلال الشعارات المرفوعة والتي نددت بالدور الإيراني السلبي في العراق، أو من خلال إحراق القنصلية الإيرانية في مدينتي النجف وكربلاء، وهو مايشير إلى مدى التحدي الذي بدأ يواجهه النفوذ الإيراني في العراق.
جاءت استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي لتزيد من حجم هذه التحديات، خصوصًا وأن إيران بذلت جهودًا كبيرة في جمع تحالفي “سائرون والحكمة” للخروج بخلطة سياسية تزيد من هيمنة إيران بعد انتخابات 2018، وتريح الجنرال قاسم سليماني من جبهة مشتعلة تتواجد فيها الولايات المتحدة الأمريكية سياسيًا وعسكريًا، وعلى الرغم من نجاح إيران في تحقيق ذلك الهدف، إلا أن الذي لم يكن بالحسبان هو الرأي العام العراقي الذي كان مغيبًا عن فكر صانع القرار في إيران، انطلاقًا من فرضية أن هذا الرأي العام مسيطر عليه من قبل الأحزاب والجماعات المسلحة التابعة أو المرتبطة بإيران، ومن ثم هو يدخل في خانة تحصيل الحاصل لا أكثر.
راهنت إيران منذ البداية على الحلول الأمنية في قمع هذه التظاهرات، وهو ماعبرت عنه الكثير من الممارسات والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين، الذين وجدوا في هذه التظاهرات تقويضاً للمشروع الإستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، ولعل هذا كان من أبرز الأسباب التي حولت مجرى هذه التظاهرات من جانبها المطلبي المطالب بتحسين الخدمات ومحاربة الفساد والتوزيع العادل للفرص، إلى مظاهرات سياسية تريد استعادة الوطن وإزالة الطبقة السياسية وإنهاء النفوذ الإيراني في العراق.
يبدو أن إيران تعمل حاليًا على إعادة فرز صفوف حلفائها داخل الساحة العراقية، ومحاصرة القوى التي توصف بازدواجية التحالفات من دون الدخول معها في مواجهة واضحة قد تنجر إلى ميدانيّة، وذلك في إطار معركة يمكن تسميتها “تصفية الحسابات” مع هذه القوى التي عمّقت جراح الحكومة على الرغم من أنها شريكة فيها وبعضها صاحب الحصة الأكبر والأكثر تأثيراً فيها، وإيصال رسالة واضحة لها بأنها لا يمكن أن تكون وتبقى شريكة في المغانم وتتنصل من المسؤولية في الأزمات، وأن زمن دفع الأثمان هي وكل القوى الملتزمة معها قد أزف، ولا يمكن أن تتحمل التبعات وحدها وتتحمل مسؤولية ما قاموا به من عمليات فساد ونهب وتخريب تحت شعار التحالف معها.
تحدثت صحيفة “خراسان” الأصولية عن إحتمال عودة التنظيمات الإرهابية مرة أخرى للعراق، لإستهداف المناطق الشيعية بدلاً من المناطق السنية كالسابق
إذ عمل المتظاهرون في العراق صراحة وبالصوت المرفوع الربط بين الفساد والتبعية لإيران، بل في تحدٍ صارخ؛ جرى إحراق صور للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وقد أشعلت هذه الأفعال ردًا فوريًا، فعمدت أجهزة الدولة العراقية الخاضعة للنفوذ الإيراني والفصائل المسلحة الموالية لطهران إلى قمع وحشي للمتظاهرين، صاحبه إطلاق الاتهامات لسائر أجهزة الدولة ومؤسساتها، المصابة بقدر أقل من الاختراق الإيراني، بتنفيذ “انقلاب” يستهدف الحكومة الشرعية (المدجّنة إيرانيًا)، وهو مادفع الحكومة العراقية نتيجة الضغوط الدولية إلى إصدار التقارير الاستقصائية حول الممارسات القمعية، فإن ذلك لا يشكل أي وازع لمنع تكرارها، بل تبدو بغداد والمحافظات الجنوبية مقعدة نتيجة العجز أمام استمرار القناصين والتشكيلات المسلحة الموالية لإيران بتعريض المتظاهرين بشكل شبه يومي للقتل والأذى.
وليس هذا فحسب، بل سعت إيران ومنذ الساعات الأولى لقبول استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، إلى البحث عن خيارات ومرشحين جدد، مقبولين من قبل المتظاهرين وغير بعيدين عن الفلك الإيراني، وهو ماقد يجعل عملية تسمية مرشح جديد لرئاسة الوزراء تأخذ وقتًا طويلاً، إلا إذا كان للمتظاهرين كلام آخر، فهم بالمجمل ليس لهم إلا خيارين لا ثالث لهما، إما الاستمرار في الضغط وصولاً إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، ورفض أي حلول ترقيعية يقدم عليها مجلس النواب، أو الذهاب باتجاه الضغط لاختيار شخصية من خارج الطبقة السياسية وبصلاحيات كاملة، تأخذ على عاتقها إيجاد قانون جديد للانتخابات، وقانون آخر لمفوضية الانتخابات ومن ثم التوجه نحو الانتخابات المبكرة، وهي خيارات تواجه الرفض الشديد من مجلس النواب وإيران معًا، لما لها من تداعيات كبيرة قد تعصف بمجمل المشهد السياسي الحالي الذي صاغته إيران وأحزابها في العراق بعد عام 2003.
ويبدو أن إيران لازالت تجد في نظرية المؤامرة أداة تصحح فيها وضعها السياسي في العراق، إذ قال الدبلوماسي الإيراني السابق فريدون مجلسي، بأن الأوضاع في العراق بعد استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، لن تنهي المظاهرات رغم التطور السياسي الذي حدث، وأضاف في مقاله بصحيفة “آفتاب يزد” الإصلاحية أن الأوضاع ستزداد سوءاً، “ لوقوف مؤيدي السعودية والرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وراء المتظاهرين الشباب”، وتوقع تكرار التجربة السورية التي آلت إلى العنف المستمر للآن في حال لم يسارع المسؤوليين بالحد من النفوذ العسكري في البلاد ودعم الجيش بشكل كامل، إضافة لتخطي المشكلات الحالية وتفاهم جميع الأطراف لحلها بشكل جماعي.
وفي السياق ذاته تحدثت صحيفة “خراسان” الأصولية عن احتمال عودة التنظيمات الإرهابية مرة أخرى للعراق، لاستهداف المناطق الشيعية بدلًا من المناطق السنية كالسابق، تقرير الصحيفة استبعد عددًا من الأسماء كمرشحين لخلافة عبد المهدي، وأبرزهم نوري المالكي، حيدر العبادي، هادي العامري، فالح الفياض، رشيد العزاوي، عبد الحسين عبطان، علي الدواي وابراهيم جعفري، وردّت الصحيفة استبعادها توليهم رئاسة الحكومة، إلى الخلافات التي تطرأ حولهم بين الأحزاب السياسية العراقية، إضافة لرفض المرجعية الدينية لهم.