طالما شكلت العشائر فاعلًا مهمًا في التحولات الاجتماعية والسياسية في سوريا، منذ أواخر العهد العثماني وحتى نشوء الدولة السورية الحديثة في ظل الانتداب الفرنسي وما تلاها في عهد الاستقلال.
إلا أن هذا الدور غاب تدريجياً عن المشهد السوري -كما غاب دور كل شيء تقريبًا- في ظل حكم نظام البعث وعائلة الأسد، ليشهد انتعاشاً مؤقتاً مع انطلاقة الثورة السورية في عام 2011، ربما لتعطش أبناء العشائر لتفعيل دورها، أو لسعي المشيخة التقليدية لها للتواجد مجددا على خارطة التأثير السوري، حيث احتفظت بعض العشائر ببيوت مشيختها كقيادة رمزية وإن لم تمارس دور تمثيل حقيقي لأبنائها؛ فظهرت عدد من التشكيلات العسكرية والسياسية الثورية المبنية بشكل أساسي على المكون العشائري، وهو ما دفع نظام الأسد للتركيز على ولاء المشيخة التقليدية له عبر عدد من المؤتمرات واللقاءات التلفزيونية، كما فعل تنظيم داعش ذلك لاحقاً بمؤتمرات البيعة من مشايخ العشائر في المناطق الخاضعة لسيطرته، وهو ما فعلته قسد والدولة التركية لاحقاً في رعاية كيانات سياسية تمثيلية للعشائر.
إلا أن دوراً حقيقياً لأي من العشائر لم يبرز حتى أواسط العام الجاري (2019)، إبان الحراك الشعبي في منطقة “الجزيرة” بريف دير الزور الشرقي على الضفة الشمالية الشرقية لنهر الفرات وريف الحسكة الجنوبي- والذي عادت فيه العشيرة إلى الواجهة مجدداً بقيادات تنتمي لعوائل المشيخة التقليدية، وبفاعلية ملحوظة في التنظيم والتأثير.
جميل الهفل قبل الثورة وخلالها وأثناء سيطرة داعش
ينتمي جميل رشيد الهفل (في الستينات من عمره) إلى بيت المشيخة “الهفل” من فرع البوكامل في عشيرة العكيدات، ومنذ تولي ابن عمه خليل الهفل ابن “عبود جدعان الهفل” لمشيخة العشيرة وجميل يعتبر أبرز منافسيه داخلها على المشيخة، وفيما تتواجد مضافة “خليل الهفل” في “بلدة ذيبان” التي تشكل مع ريفها ناحية في منطقة “الجزيرة” على ضفاف الفرات، يتخذ جميل رشيد الهفل من قرية “مويلح” التابعة لناحية “الصور” مقراً لمضافته.
جاءت الثورة السورية لتعزز الانقسامات داخل بيوت المشيخة التقليدية للعشائر في محافظة ديرالزور، فانحاز القليل من شيوخ العشائر إلى الثورة، فيما فضل كثير منهم البقاء إلى جانب النظام، أما جميل الهفل فقد سجل موقفاً متذبذباً!
دعم نظام الأسد مشيخة “عبود الهفل” ومن بعده ابنه “خليل” بمنحهما مقعداً في مجلس الشعب، إلا أنه كان يرضي جميل الهفل بأدوار محلية يستطيع من خلالها تعزيز مكانته لدى أبناء العشيرة في منطقته.
جاءت الثورة السورية لتعزز الانقسامات داخل بيوت المشيخة التقليدية للعشائر في محافظة ديرالزور، فانحاز القليل من شيوخ العشائر إلى الثورة، فيما فضل كثير منهم البقاء إلى جانب النظام، أما جميل الهفل فقد سجل موقفاً متذبذباً!
الاجتماع في قرية مويلح قبيل اقتحام قوات الأسد لدير الزور رمضان 2011
فبعد ظهوره باتصال هاتفي على قناة “وصال” في برنامج الشيخ “عدنان العرعور” معلناً وقوفه إلى جانب الثورة، عاد ليجتمع ببشار الأسد مع وفد من الفعاليات الأهلية لمحافظة ديرالزور، ليعود مرة أخرى مستضيفاً في قرية مويلح مطلع شهر آب عام 2011 عدداً من شيوخ ووجهاء العشائر والناشطين من ديرالزور قبيل اجتياح جيش الأسد للمحافظة، فيما يفترض أنه اجتماع لتقرير إعلان المقاومة المسلحة ضد قطعات الجيش التي تتحرك لاقتحامها؛ وهو ما ترك رد فعل سلبي تجاهه لدى ثوار المنطقة الذين طردوه من تشييع الشهيد “فاروق الهفل” في مدينة ديرالزور أواسط شباط عام 2012.
ومع سيطرة تنظيم داعش على الشرق السوري، التزم عدد من شيوخ العشائر-ومنهم جميل الهفل- منازلهم متجنبين الشأن العام ومتجاوبين مع سلطة التنظيم، وهو ما كافأه التنظيم بمنحهم دوراً وسيطاً من خلال بعض أمرائه لمتابعة قضايا أبناء العشيرة، فحضر “جميل الهفل” جلسة صلح رعاها التنظيم بين أبناء عشيرة “البو عزالدين” وعشيرة “البوكامل” من سكان “الشحيل”، احتفاظاً من التنظيم له بمكانته الرمزية.
ما بعد داعش
بعد سيطرة قوات قسد مدعومة بالتحالف الدولي على منطقة “الجزيرة” من محافظة ديرالزور، استأثر المكون الكردي ممثلاً بوحدات حماية الشعب بحكم المنطقة، مع دور هامشي للمكون العربي رغم تواجد كتلة عسكرية وازنة ضمن قوات قسد منه، ممثلة بمجلس ديرالزور العسكري، وبعشرات المجموعات والكتائب العربية المنضوية داخل التشكيلات المختلفة لقوات قسد، فتتابعت الانتهاكات بحق المكون العربي، دافعة الأهالي إلى احتجاجات واسعة بدايات العام الجاري واجهتها “قوات قسد” بحملات اعتقالات في هجين والشعفة والباغوز، ليستضيف “جميل الهفل” في مضافته في “مويلح” أواسط شهر نيسان اجتماعاً لوجهاء العشائر طالبوا فيه قسد بالإفراج السريع عن المعتقلين خلال أيام، وفي حال لم تتجاوب قيادة قسد مع مطالبهم فسيتم تشكيل وفد من العشائر لمقابلة قوات التحالف الدولي في قاعدة حقل العمر النفطي، إضافة إلى سحب المقاتلين من أبناء العشائر المنضمين إلى قوات قسد.
شكلت هذه الحادثة بداية سلسلة من الأحداث ستدفع بالعشيرة إلى الواجهة مجدداً، فللمرة الأولى تجد المشيخة التقليدية نفسها ممثلة لحراك أبناء العشيرة الشعبي ومطالبهم، وهو تماماً ما حرص “جميل الهفل” على تأكيده خلال الشهور اللاحقة.
صعود نجم جميل الهفل
أواخر شهر حزيران من عام 2016 توفي “خليل الهفل” شيخ عشيرة العكيدات، ليبادر عدد من أبناء العشيرة إلى عقد البيعة لابنه الشاب “مصعب الهفل” خلفاً لأبيه في مجلسين أحدهما في دولة قطر -التي يقيم فيها مصعب- والآخر في ريف ديرالزور الشرقي، وسط غياب لموقف “جميل الهفل” من البيعة والذي يبدو أنه لم يكن موافقاً عليها كما لم يكن موافقاً على بيعة والده “خليل” من قبله.
لذلك وبعد استضافة “جميل الهفل” وجهاء العشائر للمطالبة بالمعتقلين بأسبوع؛ ظهر “مصعب الهفل” في فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي معيناً أخاه “ابراهيم الهفل” –الذي يقيم في بلدة ذيبان- شيخاً بالإنابة للعشيرة، ونافياً نفياً قاطعاً أن يكون لشيخ العشيرة ممثل آخر، في إشارة واضحة إلى الدور المتنامي ل”جميل الهفل”.
استمرت احتجاجات أهالي ريف ديرالزور الشرقي في منطقة الجزيرة من العرب على حكم قسد وإجراءاتها التعسفية، مخلفة حالة من التوتر بين الطرفين وصلت ذروتها يوم الخميس في 9 أيار، حين ارتكبت قوات قسد مدعومة بطيران التحالف الدولي مجزرة في قرية الشحيل راح ضحيتها تسعة من أبناء العكيدات، ليعقد وجهاء العشيرة اجتماعاً طارئاً بعدها بأربعة أيام في القرية المنكوبة، مصدرين بياناً تلاه “جميل الهفل” طالبوا فيه بالإيقاف الفوري للاعتقالات التعسفية، وإخلاء المخيمات خصوصاً من النساء والأطفال والشيوخ، وإطلاق سراح المعتقلين بتقارير كيدية.
إلا أن أهم ما جاء في البيان هو مطالبتهم قوات التحالف الدولي بتسليم إدارة المناطق العربية لأبنائها كما هو الحال بالنسبة للأكراد، وضم غرب الفرات إلى شرقه بعد طرد الميليشيات الإيرانية والروسية منه، معربين عن استعدادهم للتعاون مع قوات التحالف الدولي في هذا المسعى بما يملكونه من مؤهلات عسكرية وسياسية وأمنية وإدارية.
الاهتمام الدولي
جاء البيان الذي أصدرته عشيرة العكيدات جريئاً في مطالبه، ومتجاوزاً سلطة قسد بتوجيهه مطالبه مباشرة إلى التحالف الدولي، وهو ما أثار ردود أفعال متباينة، ففي الوقت الذي فضلت فيه قيادة قسد التزام الصمت وتجاهل البيان، أسرع التحالف الدولي إلى احتواء الموقف عبر حليفه السعودي، ليقوم وزير الدولة السعودية لشؤون الخليج “ثامر السبهان” بزيارة مفاجئة إلى ريف ديرالزور الشرقي أواسط حزيران من العام الجاري، التقى فيها مع ممثلين عن التحالف الدولي مسؤولَي الإدارة المدنية في ديرالزور التابعة لقسد، إضافة إلى عدد من شيوخ العشائر في المنطقة، واعداً بدور أكبر للعشائر في المستقبل القريب.
كما قام وفد أمريكي ضم “جيمس جيفري” المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، والسفير الأمريكي “وليم روباك”، و”بلاك ميران” قائد الجيش الأمريكي في سوريا والعراق، بعقد اجتماع في حقل العمر النفطي مع مسؤولَي الإدارة المدنية المشتركة في ديرالزور ومع ممثلين عن العشائر هما “حاجم البشير” عن عشيرة البكارة و”جميل الهفل” عن عشيرة العكيدات، واللذان أكدا على مطالب البيان الصادر في شهر أيار إبان مجزرة الشحيل، متلقين ردوداً إيجابية من الوفد الأمريكي.
لم تعجب الاستجابة الأمريكية الواسعة مع حراك العشائر قوات قسد، فعمدت إلى مضايقة “جميل الهفل” باعتقال ابنه “عبداللطيف” في شهر تموز بتهمة إيوائه لمنتسبين إلى “تنظيم داعش”، لتعود سريعاً للإفراج عنه بعد ضغط عشائري في المنطقة، وتدخل من التحالف الدولي لم يتم التأكد من حدوثه، إلا أن المؤكد أن “جميل الهفل” أصبح قائداً فعلياً لكثير من أبناء العكيدات، تخشى قوات قسد من تنامي دوره.
جميل الهفل “رئيس مجلس قبيلة العكيدات”
تميز “جميل الهفل” عن كثير من شيوخ العشائر ببقائه في منطقة تواجد أبناء عشيرته طوال الأعوام السابقة، وتحت سلطة مختلف الأطراف التي تعاقبت سيطرتها عليها، بدءًا بنظام الأسد ومروراً بالجيش الحر وجبهة النصرة وتنظيم داعش وانتهاءً بقوات قسد.
جميل الهفل زعيم قبيلة العكيدات
وفي كل تلك المراحل حافظ “جميل الهفل” على رمزيته كشيخ محلي، من خلال لعبه دور الوساطة لحل المشاكل التي يواجهها أبناء عشيرته مع السلطات المتعاقبة، ملتزماً -عموماً- بخط أبناء عشيرته ومطالبهم، ومبتعداً عن تبنّي مواقف تخالف توجهاتهم، فمثلاً عندما كانت الحكومة التركية والجيش الوطني تعلن عن عمليتها العسكرية “نبع السلام” وسط تخوف من انسحاب أمريكي من المنطقة ودخول قوات نظام الأسد وحلفائه إليها، توجه وفد من شيوخ عشيرة العكيدات ووجهائها في شهر آب إلى مدينة ديرالزور الخاضعة لسيطرة نظام الأسد قادماً من مناطق سيطرة قسد، وعلى رأسهم “ابراهم خليل الهفل” الذي فوضه أخوه مصعب سابقاً بقيادة العشيرة بالإنابة، حيث التقوا هناك بقيادات أمنية تابعة لنظام الأسد إضافة إلى قائد القوات الإيرانية في المدينة، وذلك للتنسيق معهم في حال انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه قرى وبلدات ريف ديرالزور الشرقي الخاضعة لسيطرة قوات قسد تشهد مظاهرات أسبوعية رافضة لدخول قوات النظام وحلفائها الإيرانيين والروس إلى مناطقهم.
ليلتزم “جميل الهفل” موقف أبناء عشيرته مبتعداً عن مواقف مشابهة، رغم انتشار أخبار تفيد بتواصله مع القوات الروسية لتنسيق دخولها إلى المنطقة بعد انسحاب التحالف الدولي، وهو ما نفته عدة مصادر محلية.
للمرة الأولى يُعلَن عن منصب رسمي لجميل الهفل في عشيرة العكيدات، كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن بنى هيكلية تنظيمية وتمثيلية داخل العشيرة، دون أن تسجل أي اعتراضات على ما جاء في البيان من قبل شخصيات أو أطراف أخرى في العشيرة.
ومع تأكيد “ترمب” انسحاب قوات بلاده من سوريا –الذي تراجع عنه لاحقاً- وحديث قسد عن تسليم مناطقها للقوات الروسية والإيرانية، أرسل السفير الأمريكي “جيمس جيفري” رسالة إلى العشائر العربية في الرقة وديرالزور أواسط تشرين الأول، مطمئناً إياهم أن القوات الأمريكية والتحالف الدولي ملتزمون بحمايتهم وحماية مناطقهم، ليعقد “جميل الهفل” بعدها بيومين اجتماعاً في مضافته في مويلح لعدد من وجهاء العكيدات لكن هذه المرة بمسميات مختلفة.
فقد جاء في بيان مصور أن الشيخ جميل الهفل “رئيس مجلس قبيلة العكيدات” قد دعا إلى اجتماع ل”مجلس القبيلة والهيئة العليا” فيها لمناقشة كافة التطورات التي تحدث في المنطقة، واتخاذ موقف موحد للقبيلة تجاهها، حيث اتفق المجتمعون على دعوة “مجلس شورى قبيلة العكيدات” المكون من أكثر من “400عضو” لاجتماع موسع في الأيام القادمة لمناقشة التطورات واتخاذ التدابير اللازمة.
للمرة الأولى يُعلَن عن منصب رسمي لجميل الهفل في عشيرة العكيدات، كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن بنى هيكلية تنظيمية وتمثيلية داخل العشيرة، دون أن تسجل أي اعتراضات على ما جاء في البيان من قبل شخصيات أو أطراف أخرى في العشيرة.
لم يعقد حتى الآن اجتماع “مجلس شورى قبيلة العكيدات” الذي أعلن البيان المصور عنه، وتراجعت القوات الأمريكية عن قرار انسحابها من شرق الفرات، بل قامت ببناء قواعد عسكرية جديدة بعضها في ريف ديرالزور الشرقي الغني بالنفط الخام، ومع رفض عدد كبير من أبناء العكيدات للقاء “ابراهيم خليل الهفل” بشخصيات أمنية من نظام الأسد في ديرالزور، إضافة إلى توتر العلاقات بينه وبين القوات الأمريكية بعد تنفيذ الأخيرة لعملية أمنية في بلدة ذيبان راح ضحيتها اثنان من أبناء عمومته في مواجهة معها، تبدو حظوظ “جميل رشيد الهفل” كبيرة بقيادة عشيرة العكيدات، وذلك بعد تمكنه من حشد عدد كبير من وجهائها حوله وتفعيل دورها محلياً، وما حظي به من علاقة جيدة مع القوات الأمريكية في المنطقة، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام “جميل الهفل” للعب دور هام في التطورات المستقبلية التي يمكن أن تشهدها المنطقة.