لأولِ مرةٍ في التاريخ، تدشن روسيا “صنبورًا مفتوحًا” من الغاز الطبيعي من حقول سيبريا الشرقية إلى الحدود الصينية عبر أنبوب “قوة سيبيريا” أو “Power of Siberia” الذي جرى التفاوض عليه لمدة 10 سنوات تقريبًا. وعلى الرغم من أن المشروع لا يزال في بدايته، إلا أنه يعد أكبر صفقة في هذا العقد بالنسبة لصناعة النفط والغاز. عدا عن كونه بوابة موسكو نحو السيطرة على سوق الغاز العالمي، ومفتاحها الاقتصادي الأقوى لكسب اعتبارات دبلوماسية واستراتيجية جديدة.
تمتلك روسيا 20% من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، وتمثل 17.3% من الإنتاج العالمي للغاز، حيث توفر حوالي 21% من واردات أوروبا من الغاز. وبما أن الأسواق التركية والصينية سريعة النمو ومتعطشة للغاز، فإن روسيا لا تخلق لديهما تدفقات جديدة فقط من الغاز وإنما تضيف بعدًا إستراتيجيًا لمواقعهم على الخريطة الجغرافية والسياسية.
المشروع الروسي-الصيني: خطوة سياسية دبلوماسية أم اقتصادية؟
في الوقت الذي أعلنت فيه إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حربًا تجارية على الصين من جهة، وفرضت عقوبات متتالية ضد روسيا من جهة أخرى، سارعت كلتا الدولتين في البحث عن بدائل جديدة، وبما أن خصمهما واحد، اجتمعا على طاولة واحدة وحرصا على عقد اتفاقيات اقتصادية لخدمة مصالحهم وحماية أنفسهم من السياسات الأمريكية التي لا تتردد أبدًا في ضرب اقتصاداتها.
عام 2014، وقعت مجموعة “غازبروم” الروسية للغاز والعملاق الصيني “سي إن بي سي”، اتفاقية تقدر قيمتها بأكثرِ من 400 مليارات دولار ومدته 30 عامًا تقريبًا، وهو واحد من 3 مشاريع أنابيب غاز أخرى. ومن المخطط أن يمتد خط الأنبوب على مسافة أكثر من ألفي كيلومتر، وخلال السنوات المقبلة، سوف يبلغ طوله أكثر من 3 آلاف كيلو متر. عمل عليه قرابة الـ10 آلاف شخص على مدى 5 سنوات وفي ظل ظروف بيئية قاسية، حيث وصلت درجات الحرارة في هذه المناطق إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر.
وعلى الرغم من أن الصين لديها انشغالات واهتمامات اقتصادية كبيرة في مجال الطاقة النووية، حيث تسعى إلى بناء 32 محطة بحلول عام 2050، إلا أنها ستظل بحاجةٍ إلى الغاز الطبيعي لدفع اقتصادها إلى الأمام، وفي هذه الناحية، كانت روسيا الخيار التجاري الأمثل لإشباع حاجتها الضخمة من الطاقة، إذ من المفترض أن ينقل الأنبوب نحو 8 مليار متر مكعب سنويًا أي 9.5% من الغاز المستهلك في الصين.
تعرض هذا التقارب لانتقادات مختلفة، وكان منها أن تكلفة بناء المشروع خيالية، ولن يحقق الفوائد الاقتصادية المرجوة وسيبقى واجهةً شكلية ودبلوماسية بين البلدين.
وبالنسبة إلى الأهداف الروسية، قال محللون في وكالة “ستاندرد آند بورز” إن الأنبوب الجديد “هو أحد مشاريع الطاقة التي طال انتظارها في آسيا”، على اعتبار أنه يحقق الرغبة الروسية بالتقرب من آسيا في مواجهة الشركاء الغربيين الذين توترت العلاقات معه منذ بدء النزاع الأوكراني. ففي عام 2014، ضمت موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية، الأمر الذي أثار استياء الدول الأوروبية ودفعها إلى فرض سلسلة من العقوبات عليها.
على صعيد آخر، تمنح هذه الشراكة العلاقات الروسية الصينية بعدًا دبلوماسيًا وديًا، وذلك بعد عقود من الريبة والبرود، إذ قال الرئيس الصيني، شي جينبينغ إن “تنمية العلاقات ستكون أولوية للسياسة الخارجية بين البلدين”، في إشارة إلى انفتاح الطرفين على أي اتفاقيات مقبلة. ولكن رغم التفاهم المتبادل بين موسكو وبكين، إلا أن هذا التقارب تعرض لانتقادات مختلفة، وكان منها أن تكلفة بناء المشروع خيالية، ولن يحقق الفوائد الاقتصادية المرجوة وسيبقى واجهةً شكلية ودبلوماسية بين البلدين، ليس أكثر.
بخلاف ذلك، رأى البعض أن التكلفة الاقتصادية لا تعتبر عائقًا أو ثقلًا على الاقتصاد الروسي، لأن هذه الاتفاقية ستفتح الأبواب الاقتصادية مع الصين، ويعني ذلك المزيد من الاستثمارات والصفقات وبالتالي مضاعفة حجم التدفق التجاري الثنائي إلى 200 مليار دولار في غضون 10 سنوات. رغم أن الفائدة الاقتصادية الأكبر قد تعود إلى الصين التي تعتبر أكبر مستهلك ومستورد للطاقة في العالم، وإنتاج الغاز الروسي من حقولها المحلية سوف يكون أقل سعرًا، وبالتالي ستنخفض التكاليف الاقتصادية المسجلة عليها.
وإلى جانب جميع المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية، يقول ألكساندر جابويف، الخبير في العلاقات الصينية-الروسية في مركز كارنيجي بموسكو، إن خط أنابيب “قوة سيبيريا” بعث برسالة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حول العلاقات الوثيقة بين بكين وموسكو، مشيرًا إلى قدرة الصين على ممارسة الضغط من أجل خفض أسعار الغاز العالمية. كما أضاف جابويف قائلًا: “على المدى الطويل، سيكون غاز خط الأنابيب، قليل التكلفة، من روسيا في منافسة مع الغاز الأمريكي”. وبالتالي، ستساعد هذه التطورات على تقوية موقف بكين في المحادثات التجارية مع واشنطن.
المشروع الروسي-التركي: تعزيز المصالح الاستراتيجية
تعد تركيا واحدة من الزبائن التقليديين لوريثة وزارة الغاز السوفيتية، “غازبروم”. إذ اشترت من روسيا 387 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي منذ 1987، وبذلك فهي تأمن ما نسبته 55% من احتياجاتها من الغاز الروسي الطبيعي، ونظرًا لتاريخ العلاقات القديمة في هذا المجال، فهو من أكثر الملفات الاقتصادية أهمية وحساسية بين البلدين.
والآن، تعتبر تركيا جزء من مشروع “السيل التركي” أو “تركستريم” الذي سيكون جاهزًا في الأسابيع القادمة، وتحديدًا في كانون الثاني/يناير المقبل. سينقل الأنبوب 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، بطول 930 كيلو متر وبعمق أكثر من كيلومترين تحت مياه البحر الأسود. وسيغذي أنبوب الغاز الأول تركيا، بينما سيصل الخط الثاني من تركيا إلى أوروبا لتغذية دول جنوب شرقي وجنوبي أوروبا، وخاصةً اليونان وإيطاليا.
تم الاتفاق عليه مع شركة خطوط الأنابيب الحكومية التركية، بوتاس، عام 2014، أي قبل أن تتعكر الأجواء بين موسكو وأنقرة على إثر تحطم المقاتلة الروسية في أواخر 2015. ولكن مع اضطراب علاقات أنقرة بالاتحاد الأوروبي والناتو، رأى أردوغان أن “روسيا مصدر مهم للغاز الطبيعي، ودولة صديقة نثق بها و يمكن التعاون معها على المدى الطويل”.
كانت أكثر من 80% من واردات أوروبا الغازية من روسيا تعبر عبر الأراضي الأوكرانية، وهو ما كان يضيف بعد استراتيجي وجيوسياسي لكييف، بسبب قدرتها التفاوضية مع جيرانها، لكن الآن لم يعد لها تأثير على المصالح الروسية
مشيرًا إلى عزم حكومته في بناء علاقات اقتصادية أكثر قوة وثباتًا مع موسكو، مضيفًا بأن تركيا حققت زيادة بنسبة 30% في حجم التبادل التجاري بين البلدين العالم الماضي، والهدف الحالي هو الوصول إلى 100 مليار دولار. ومن ناحية أخرى، تنتظر أنقرة أن يرفع هذا المشروع قيمة وارداتها من الغاز بنسبة 49% بحلول 2035.
أما فيما يتعلق بالتطلعات الروسية، فلا شك أن موسكو أرادت تقزيم دور أوكرانيا في المنطقة، إذ كانت تجني حوالي 3 مليارات دولار سنويًا من رسوم نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، كما كانت أكثر من 80% من واردات أوروبا الغازية من روسيا تعبر عبر الأراضي الأوكرانية، وهو ما كان يضيف بعد إستراتيجي وجيوسياسي لكييف، بسبب قدرتها التفاوضية مع جيرانها والبلدان الموردة والمستهلكة بحجة أن الغاز يمر عبر أراضيها، لكن الآن لم يعد لها تأثير على المصالح الروسية. إلى جانب ذلك، سوف تعزز الشراكة مع تركيا، حلف روسيا مع إيران.
لكن رغم الاضطرابات السياسية التي وترت العلاقات بين روسيا وأوروبا، إلا أن الأخيرة لا تزال أولويةً بالنسبة للاقتصاد الروسي الذي يبحث عن أسواق وزبائن جدد، بالمقابل، تخشى الدول الأوروبية من انقطاع الإمدادات في فصل الشتاء، كما حدث سابقًا. ونظرًا لتلك الحاجة المتبادلة، فكما ذكرنا آنفًا، سوف يمتد إحدى خطوط المشروع، المُسمى بأنبوب “نورد ستريم 2″، عبر بحر البلطيق. ويفترض أن يصل إلى ألمانيا دون المرور بأوكرانيا. بلغت كلفة بناءه 9.5 مليارات يورو، وهو ممول بنصفه من “غازبروم” والنصف الثاني من الشركتين الألمانتين “وينترشال” و”أونيير”، إضافة إلى الشركة الإنجليزية الهولندية “شيل”، والمجموعة الفرنسية “إنجي”، والنمساوية “أو أم في أر”.
اعتراضات غربية
أثار هذا المشروع غضب الولايات المتحدة، ففي وقت سابق من هذا العام، هددت السلطات الأمريكية بفرض عقوبات على الشركات التي تشارك في تأسيس خط الأنابيب، خوفًا من تشديد قبضة روسيا على إمدادات الطاقة في المنطقة، وتقليل حصتها من السوق الأوروبية المربحة. إذ قال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إن خط الأنابيب المملوكة لشركة “غازبروم” الروسية قد يحول ألمانيا “رهينة” لروسيا، محذرًا إياها من ارتكاب خطأ فادح.
بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فيرى أن هذا المشروع الضخم يشكل تهديدًا بزيادة ارتباط دول أوروبا الشرقية والوسطى بروسيا. ولا سيما أنه لا يتوافق مع معايير القانون الدولي، ولكن بنهاية المطاف صرحت الدنمارك بأنها منحت تصريحًا لجزء من خط أنابيب “نورد ستريم 2” المقرر إنشاؤه بالقرب من جزيرة بورنهولم في بحر البلطيق، وأضافت أن الأمر يستغرق شهرًا حتى يدخل التصريح إلى حيز التنفيذ، وذلك بعد شهور من التأخير. إذ كانت الخلافات بين دول الاتحاد وروسيا، كفيلة بإحباط المشروع كاملًا. يذكر أن نشطاء البيئة كان لديهم أيضًا موقفًا سلبيًا تجاه هذه الاتفاقية، فقد اعترضوا على المشروع على اعتبار أنه ضار بالبيئة لاستخدامه الوقود الأحفوري.