تتمتع الجزائر بتنوع ثقافي كبير، ما جعل كلّ منطقة منها تُعرف بنمط موسيقي معيّن اشتهرت به منذ زمن بعيد، من ذلك منطقة السهوب التي تعرف بالموسيقى البدوية، تلك الموسيقى التي تنبثق من عمق المجتمع وتساهم في تنظيمه وتعمل على الحفاظ عليه وحماية تراثه، في هذا التقرير لـ “نون بوست”، سنتعرف سويًا على هذا النمط الفني ونغوص في بعض تفاصيله.
هوية بدو الجزائر
نعني بالموسيقى البدوية، ذلك الفن الفلكلوري الذي يتميز بأدائه ولحنه ولباسه التقليدي وآلاته الموسيقية الخاص، ذلك الفن الذي حجز لنفسه مكانًا في قلوب الجزائريين طوال عقود عدّة، وذاع صيته في كل ربوع البلاد إلى أن تخطاها إلى المغرب وتونس وليبيا وفرنسا ودول عدّة.
ولهذه الموسيقى البدوية أدوار طقوسية واجتماعية تنبثق من عمق المجتمع البدوي وتساهم في تنظيمه وتعمل على الحفاظ عليه وحماية تراثه، فقد التصقت بالحياة الاجتماعية لسكان البادية فسارت جنبًا إلى جنب مع الإنسان هناك، حاضرة في كلّ مناسباته، تزيد في سعادته وفرحه، وتخفّف عن ألمه وحزنه.
يحمل هذا الفنّ في طيّاته معانٍ وأفكار اشتهر بها المجتمع البدوي منذ القدم، معانٍ وأفكار تختلف وتتنوع حسب المواضيع، كما حملت عادات وخرافات ومعتقدات متنوعة عرفت واشتهرت بها البادية الجزائرية، حتى أصبحت بمثابة الهوية لتلك المنطقة، التي يجهلها الكثير.
تعتمد معظم الفرق الموسيقية في الغناء البدوي على آلتين موسيقيتين بسيطتين من أجل إبداع ألحان شجية رائعة تسر المستمعين وتبهجهم وهما البندير والقصبة
وغالبًا ما تكون الأغاني البدوية، عنوان فرح وسرور، فهي تثير الإحساس بالسعادة والابتهاج، وهي في المناسبات السعيدة كالملح في الطعام، لا تغيب عن أي مناسبة، فما إن تبدأ الآلات الموسيقية الخاصة بها في إصدار أصواتها العذبة حتى تعمّ الفرحة وتشاهد الجمع يرقصون على وقع تلك النغمات.
ويتميّز هذا النوع الموسيقي الشهير بإيقاعاته الصاخبة مرة والهادئة أخرى حسب الغرض منها، وتنوّع قوالبه مثل الشعر الملحون والنائلي والسوفي الذي تكون عبر العصور وتناقلتها الأجيال جيلا عن جيل، ليكون بمثابة هوية سكان البادية.
وينتشر هذا الفنّ في العديد من المناطق الجزائرية كالجلفة والأغواط (وسط) والبيض والنعامة (جنوب غرب) ووادي سوف (جنوب) وفي صحراء تبسة والنمامشة على الحدود الجزائرية التونسية، أين تعيش عائلات ومجموعات من البدو، وتحاول تطويع الطبيعة والتعايش مع المناخ المتقلب صيفاً وشتاء للبقاء.
ووفق أرقام غير رسمية، تضمّ الجزائر قرابة 600 ألف من البدو الرحّل يجوبون العديد من المناطق في البلاد التي تعرف بالسهوب، لأجل الماء والكلأ وتربية المواشي. كثيرون من بينهم يعيشون في عالم آخر لا علاقة له بالمجتمع الجزائري العادي إذ لم يتأثروا بتطورات الحياة لابتعادهم عن المدينة.
البندير والقصبة
تعتمد معظم الفرق الموسيقية في الغناء البدوي على آلتين موسيقيتين بسيطتين من أجل إبداع ألحان شجية رائعة تسر المستمعين وتبهجهم وهما البندير والقصبة، ونعني بالبندير تلك الآلة الإيقاعية الموسيقية ذات الجلد الواحد.
لهذه الآلة دور رئيسي في ضبط الإيقاع الموسيقي، يعتمد عليه في الكثير من انماط الموسيقى خاصة الموسيقى البدوية والشعبية، ويتم الضرب عليه في الأفراح والأعراس، ويتم استخدامه من طرف النساء والرجال على حد سواء.
يتكون البندير من إطار خشبي مستدير على شكل أسطواني، يتراوح قطره من 40 سم إلى 60 سم حسب المناطق، ففي الشمال يكون صغيرا بينما في الجنوب يكون كبيرا، ويتم كساءه بجلد أحد الحيوانات الأليفة وإن كان يفضل استخدام جلد الماعز لمتانته ورقته، ويتم تمديد الجلد بحيث يشكل قاعدة الأسطوانة، ويمتد تحت الجلد على طول القطر وتران أو ثلاثة أوتار من مصران الماعز المجفف بشكل متواز بهدف إحداث اهتزازات صوتية رنانة عند الضرب عليه.
ويتم حفر ثقب دائري في الإطار الخشبي للبندير قطره حوالي 3 سم، يستخدم للإمساك به من طرف ضارب متخصص يدخل الإبهام في ذلك الثقب ويمسك الطبلة بشكل عمودي، ويضرب بالأصابع الأخرى واليد الأخرى في نفس الوقت على الجلد ليحصل على النغمات الواضحة والخفيفة حسب الموضع على حافة البندير أو وسطه.
يعتبر الغناء البدوي مدرسة قائمة بذاتها، لها رموزها وإعلامها الذين عملوا على تطويرها وإثرائها، من أمثال بالشيخ عبد القادر الخالدي(1896ـ1964)، الذي خلّد بصمته في هذا المجال طيلة فترة عيشه
عادة ما يتم تزيين البندير بزخارف ورسوم تستخدم فيها الحناء أو ملونات طبيعية، ويعتبر رسم يد مفتوحة على جلد القاعدة رسما منتشرا للاعتقاد بقدرته على دفع شرور العين والحسد وكل بندير لا يوجد فيه رسم اليد يعتقد أنه معرض للتمزق لا محالة.
أما القَصْبَة، فهي آلة نفخ موسيقية تصنع قصبتها من نبتة القصب، تتميز القصبة بصوتها العميق والحزين الدال على الشجن والشكوى، وتنتشر في كل نواحي الجزائر دون استثناء، وتصنع القصبة من أنبوب أجوف مفتوح من الجانبين، تخترقه (6) ثقوب وأحيانا (7) أو (8) بالنسبة للقصبة الأوراسية، تكون مقسمة إلى مجموعتين متساويتين في الأبعاد، ويتم تزيينها بزخارف ملونة جميلة ورسومات هندسية بديعة، ويكون فمها مدققا بشكل مائل لتسهيل خروج الصوت.
للقصبة أو ما تُعرف محليا بـ(الغايطة) سحر وبريق يجعل منها سيدة أدوات الأغنية البدوية الذائعة الصيت محليا، فهي أداة لا يمكن الاستغناء عنها، إذ أنها تُسرع في الإيقاع وتحرك الحضور وتجعل من الحفل أكثر قيمة، وهو ما يجلب المتفرجين كونها مصدرا للمتعة والفرح.
تتم عملية العزف، عن طريق مسك العازف بالقصبة بطريقة مائلة، ويقوم بالنفخ في حافتها العليا حيث يتكسر الهواء فتصدر صوتا يتحكم فيها من خلال إغلاق أو فتح الثقوب وعبر تغيير زاوية النفخ بالشفتين. ويختلف طول القصبة من منطقة إلى أخرى، ويتراوح بين 40 سم و85 سم، ويتحكم طول القصبة في نوع العزف، لذا نجد نوعين من القصبة، الخماسي والثلاثي.
أعلام الأغنية البدوية
يعتبر الغناء البدوي مدرسة قائمة بذاتها، لها رموزها وإعلامها الذين عملوا على تطويرها وإثرائها، من أمثال بالشيخ عبد القادر الخالدي(1896ـ1964)، الذي خلّد بصمته في هذا المجال طيلة فترة عيشه. اشتهر الخالدي بالقصائد الغزلية، وعلاقته مع محبوبته المسماة ”بختة” والتي كتب فيها ما لا يقل عن خمسين قصيدة مختلفة، شكّلت إحداها إحدى أهم نجاحات الشاب خالد.
كما نجد حدة بقار، التي تعرف بأنها أيقونة الغناء البدوي الجزائري وأحد رموز الأغنية التراثية البدوية الأصيلة، التي اشتهرت وذاع صيتها في سوق أهراس الجزائرية، ما بين سنوات 1940 و2000، والتي لا تزال أغانيها محفوظة في تراث الأغاني الشاوية البدوية.
غنت حدة ضد المستعمر الفرنسي، ودعمت الثورة التحريرية وكفاح الثوار بالقاعدة الشرقية، وجسدت ذلك في مجموعة من الأغاني “الجندي خويا”، و”دمو سايح”، التي قيل انها رثاء للمناضل والثوري الجزائري “عباس لغرور”. و”يا جبل بوخضرا”، وهي أغنية عن الجبل الذي شهد حريقا كبيرا في عشرينات القرن الماضي جراء البدء في استغلال مناجم الحديد من المستعمرين.
ضمن هذا الفن، اشتهر أيضا الشيخ بورقعة، وأسمه الحقيقي هو مساعدية أحمد بن محمد، من مواليد عام 1903 بمشتة النعشة عرش أولاد ضياء بلدية عين الزانة، وهي إحدى بلديات سوق أهراس، وقد غلب عليه لقب بورقعة منذ حداثة سنه نتيجة ارتدائه للباس المرقع بسبب فقره، من أشهر أغانيه يا خوي مريض والقلب مكدر.