إذا كنت مولعًا بالقراءة وسرد الحكايات وتحديدًا أدب الواقعية السحرية الذي اشتهرت به القارة اللاتينية فحتمًا قرأت اسم المترجم صالح علماني مذيلاً على إحدى الروايات من قبل؛ ذلك الاسم الذي بمجرد رؤيته تدرك أنك لا محالة ستفتح تلك الرواية وتغرق في عالم من السحر والجمال؛ ترجمته للروايات جعلتنا دوماً نتساءل أيهما يتسرب إلينا حين نقرأ عملًا مترجمًا؛ هل هي المادة الأصلية أم النص المترجم؟ في روايات “الحب في زمن الكوليرا” و”ليس للجنرال من يكاتبه” و”خريف البطريرك” و”اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة” هل كنا نقرأ ماركيز أم علماني؟ من تسربت لنا لغته الخاصة؟ من سحرنا بالبناء اللغوي وجمال الأسلوب والاستعارات الشعرية؟
أثناء القراءة ندرك أن ما يجعلنا لا نترك الرواية من بين أيدينا هي اللغة قبل أي شيء آخر قبل البناء السردي والحبكة فبسبب اللغة ننفعل ونتأثر، مع علماني ندرك بما لا يدع مجالًا للشك أن المترجم هو من يجعل العمل الأدبي الأصلي ممتعًا وناجحًًا، مسيرة طويلة جدًا من النجاحات العظيمة والترجمات المبهرة التي وصلت إلى أكثر من 100 عمل مترجم بين قصة ورواية وشعر انتهت بالأمس مع وفاة المترجم الفلسطيني صالح علماني في إسبانيا عن عمر يناهز الـ70 عامً، وبعد الحديث عن النهاية لنرجع إلى البداية ونحكي قصة بداية علماني مع الترجمة وما هو سرّ علاقته القوية بأدب القارة اللاتينية بداية من ماركيز؟
في البدء كانت رواية مائة عام من العزلة
هناك، في برشلونة وأثناء دراسته للصحافة بعد أن هجر الطب، انخرط صالح علماني في المناخ الثقافي الإسباني، وفي أحد الأيام أهداه أحدهم رواية “مائة عام من العزلة” للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز ومن هنا بدأت مسيرة علماني مع الترجمة، إذ سحره عالم الواقعية السحرية في رواية ماركيز بلغتها المشبعة بالجمال والشعر لينكب على ترجمتها؛ إذ بدأ بأول فصلين منها وذلك قبل أن يهملها وينشغل عنها ولكن ماركيز يصمم على جذبه مرة أخرى فيعود إليه وينتقل بعدها إلى باقي أدب أمريكا اللاتينية.
في عام 1948 هُجّر عمر علماني ابن مدينة ترشيحا من فلسطين مع الآلاف من أبناء شعبه في تلك الرحلة التي ستطول كثيراً وكأنها مائة عام من العزلة ليستقر به المقام في سوريا
عبر ترجماته الإبداعية تعرفنا على الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو والأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيز، والبيروفي خورخي ماريو بيدرو بارغاس يوسا مبدع رواية “حفلة التيس” وإيزابيل الليندي وإدواردو غاليانو، وخوان رولفو، وغيرهم الكثير من أبرز كتاب القارة اللاتينية، وإليه ندين بالفضل لإثراء مكتباتنا بأكثر من رف كامل، ترجماته تصب جميعها في مسار واحد وتندرج تحت مشروع ثقافي بدأه منذ قرابة ثلاثة عقود ومن أشهر ترجماته “عشت لأروي” و”ابنة الحظ” و”عشر نساء” و”في امتداح الخالة” و”رسائل إلى روائي شاب” و”أنيس حبيبة روحي” و”صورة عتيقة”.
مسيرة صالح علماني: الطب والصحافة ثم الترجمة
في عام 1948 هُجّر عمر علماني ابن مدينة ترشيحا من فلسطين مع الآلاف من أبناء شعبه في تلك الرحلة التي ستطول كثيرًا وكأنها مائة عام من العزلة ليستقر به المقام في سوريا، وفي فبراير 1949 رُزق عمر علماني بطفله صالح في مدينة حمص السورية، وخلال عام 1970 سافر صالح علماني إلى مدينة برشلونة الإسبانية من أجل دراسة الطب ثم تركه لدراسة الصحافة ولكنه صمد لعام واحد فقط إذ انقطعت به السبل بعد اندلاع حرب أكتوبر 1973 ولم يستطع دفع مصورفات الدراسة فاضطر للعمل بعدئذ في الميناء لفترة اختلط حينها بقاع المجتمع وعاش حياة المشردين.
تغيرت حياة صالح علماني بعد قراءة رواية “مائة عام من العزلة” حيث أصيب بصدمة عجيبة من غرائبيتها، ليس هذا فحسب ففور انتهاء علماني من قراءة أدب ماركيز قرر تمزيق روايته الأولى وقال “أن أصبح مترجمًا جيدًا أفضل من أن أكون روائيًا فاشلًا”.
بعد عودته إلى سوريا ترجم علماني رواية “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” وذلك في عام 1979 وقد حققت حينها ترجمة الرواية حضورًا قويًا في الوسط الثقافي وكتب عنها الكثيرون إذ اعتُبرت إبحارًا في المساحة المجهولة لأدب الواقعية السحرية ومن حينها انطلق علماني بقوة في عالم الترجمة.
عمل صالح علماني بوكالة الأنباء الفلسطينية ثم مترجمًا في السفارة السورية في كوبا، وبعد عودته من كوبا عمل بوزارة الثقافة السورية وتحديدًا في مديرية التأليف والترجمة وعمل كذلك في الهيئة السورية للكتاب وذلك حتى بلغ سن التقاعد خلال عام 2009.
في أحد قاعات مركز المعارض بأبو ظبي حيث كان يقام معرض أبو ظبي الدولي للكتاب في دورته ال22 خلال عام 2012 قال علماني بأن سر لغته الدافئة والمتمكنة التي يترجم بها يعود إلى طفولته المبكرة فوالده عمر علماني كان حكاءً بارعاً بالفطرة وفي صغره كان علماني يسهر هو وأطفال الجيران ليستمعوا إلى قصص والده وحكايته المذهلة
بعد عام 2011 طالب خمسة من كتاب أمريكا اللاتينية البارزين الحكومة الإسبانية بمنح صالح علماني حق الإقامة في إسبانيا تقديرًا لجهوده العظيمة في ترجمة أعمالهم للغة العربية ووافقت الحكومة الإسبانية على الطلب في عام 2016، كما مُنح علماني جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في 2015 وجائزة جيرار دي كريمونا الأدبية وسبقهما وسام الثقافة والعلوم والفنون في عام 2014 الذي منحته له السلطة الفلسطينية.
كيف يترجم صالح علماني
في جلسة حوارية له ضمن فعاليات مهرجان مسقط قال علماني بأن الترجمة هي اللي اختارته وليس العكس وأضاف علماني بأنه لا يترجم عملًا روائيًا قط ما لم يقع في حبه من البداية حيث سبق ورفض بعض الأعمال لأنها لم ترق له واعتذر عن ترجمتها، وفي حديثه عن تقنيته الترجمية ذكر علماني أنه يبدأ بالقراءة الاستطلاعية للعمل ثم يعاود القراءة مرة أخرى وبعدها يترجم فصلاً أو فصلين وذلك قبل أن يعود لقراءة العمل من جديد ويظل هكذا في رحلة ذهاب وعودة بين القراءة والترجمة تصل لحد الإجهاد ولا يترك علماني العمل الذي بين يديه حتى يشعر بسلاسة القراءة حينها فقط يصل إلى الحالة المرضية لترجمته النهائية.
يضيف علماني أن من ضرويات عمل الترجمة الأدبية فهم السياق الثقافي والتاريخي للعمل المترجم وذلك من أجل فهم الإيحاءات والمعاني الملتبسة، والحقيقة أن الصعوبات التي واجهت علماني في الترجمة لم تكن في اللغة الإسبانية ولكن كانت في اللهجات الأمريكية اللاتينية التي تختلف من بلد لآخر ولكن علماني استطاع التغلب على تلك العقبة حيث أنه عاش في تلك البلاد؛ تعرف على شعوب القارة اللاتينية وحكاياتهم وخرافاتهم وأحوال معيشتهم وموسيقاهم واطلع على تاريخهم، كل هذا ساعده كثيرًا في فهم اختلاف ثقافات الشعوب اللاتينية متعددة الأعراق التي تميل –على حد وصف علماني- إلى الحياة شبه الفوضوية وعدم الصرامة.
وفي إحدى قاعات مركز المعارض في أبو ظبي حيث كان يقام معرض أبو ظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 22 خلال عام 2012 قال علماني إن سر لغته الدافئة والمتمكنة التي يترجم بها يعود إلى طفولته المبكرة، كون والده عمر علماني كان حكاءً بارعًا بالفطرة وفي صغره كان علماني يسهر هو وأطفال الجيران ليستمعوا إلى قصص والده وحكايته المذهلة.