في جمالية التراث السوري وفلكلوره العريق طريقٌ طويلٌ من الفن الجميل، حيث وضعت سوريا بصمةً واضحةً عبر أغانيها المتعددة وموشحاتها المختلفة، فالمتجوّل في البلاد يرى ألوانًا شتّى من أغنياتٍ متعددة، فمن موسيقى جبل العرب إلى الأغاني الشامية الرقيقة، وصولًا لفن أهل الجزيرة، مرورًا بالقدود الحلبية التي تطرب السامعين، وما بينهما من أهازيج ومواويل لمطربين أطربوا الناس بأصواتهم.
وليس غريبًا وجود كل هذه الألوان الغنائية في هذا البلد الذي اكتشف فيه أول لوح كُتب عليه بالنقش المسماري كلمات أول مقطوعة موسيقية في العالم، وإضافة إلى ذلك يقول علماء الآثار إن سوريا أبدعت بإنتاج الآلات الموسيقية المتنوعة لعزف الألحان، ومن هذه الآلات قيثارة تشبه الطوق تقطعه عارضة شدت إليها الأوتار، والأعواد التي تطورت حتى وصلت لشكل العود العربي الحالي ذي الطابع الشرقي.
ومع تعاقب الأزمان على سوريا، كان الغناء يتطور ويتأثر بالحضارات المتعاقبة عليه، مثل الرومان والأرمن، وذلك حتى مجئ الفتح الإسلامي، إذ أن الآراء الإسلامية المتضاربة بشأن الغناء بين ما هو حلال أم حرام جعلته يتراجع نوعًا ما، إلى أن جاء الأمويون وأدخل خلفائهم الغناء ليتطور بعدها، وفي أواخر العصر العباسي حينما استولى بنو حمدان على الموصل وحلب وجعلهما مراكز ثقافية، حيث كان ديوان سيف الدولة في حلب يعج بالشعراء والموسيقيين كالمتنبي وابي نصر الفارابي وأبو فراس الحمداني وغيرهم.
ومع قدوم العثمانيين إلى البلاد، تأثرت سوريا بالمولوية والأناشيد الزهدية والروحية، وعندما جاء عهد السلطان سليم الأول عكف الناس عليها، إذ كان السلطان من أوائل الحكام الذين اهتموا بالموسيقى والغناء الدنيوي.
جدير بالذكر أن السلطان سليم كان موسيقيًا ومشجعًا عليها، وفي منتصف القرن الـ 18 ازدهر الغناء في البلاد، إلا أنه مع تطور كتابة الأغاني وانتشار المؤلفين والمعلمين، وإنشاء المسرح الغنائي لأبو خليل القباني، اهتز مجتمع دمشق الذي يعتبر محافظًا لإلغاء فكرة هذا المسرح مما دفعه للذهاب به إلى مصر، كما شهدت البلاد هجرةً موسيقية لبعض المؤلفين والملحنين، بحسب كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا” لكاتبه حسان عبّاس وصدر عن منظمة اليونيسكو.
في بدايات القرن الـ 20، شهدت سوريا حركةً موسيقيةً جديدة ومن خلال تأسيس أندية موسيقية غنائية استطاعت إثبات وجودها 1914، إذ يعد الموسيقي “شفيق شبيب” أول من أسس في دمشق نادياً للموسيقى باسم نادي الموسيقى الشرقي، ومثله فعل توفيق فتح الله الصباغ في عام 1927 الذي أنشأ ناديًا وضم إليه الكثير من الموسيقيين.
أما فيما يتعلق بالقرن المنصرم، فقد تطورت الفنون الغنائية في سوريا تباعًا، لتشمل كل المحافظات والمدن ويصبح لكل واحدة منها لون خاص بها. ومع بداية القرن الحالي، طفى على الواجهة الغنائية في البلاد لونٌ دخيل وغريب، ولا يمثّل سوى النظام السياسي الذي طرحه في دمشق وروج له بين الناس. في هذا التقرير، نوجز أبرز الألوان الغنائية السورية الأصيلة، وكيف أُهملت على حساب بعض الفنون الهابطة.
جبل العرب وفهد بلّان
يمثّل “جبل العرب” ومركزه محافظة السويداء، حالةً فريدة بالغناء السوري، ويبرز لون ما يُسمى بـ “الجوفية”، وتحمل هذه الألحان خصوصية المنطقة وأهلها، إلا أن الجوفية لم تنشأ في هذا المكان، إنما وفدت إليه من شبه الجزيرة العربية ولكن تطورت فيه، إذ أنها أتت بلحن وحيد وميزة صحراوية، فعمل الفن الجبلي على خلق ميزة في الألحان “الجوفية”.
يقول الباحث الموسيقي ناصر يقظان عن الموسيقى الجبلية: “الجملة الفنية أو الموسيقية للأغنية الجبلية في “جبل العرب” ذات بنية تركيبية غير معقدة، بل من نوع سهل ممتنع يحمل هوية خاصة، وهناك مثال واضح في تاريخ الغناء العربي، وهو أن القسم الأكبر من أغاني الراحل فهد بلان هي أغانٍ تراثية محلية، معظم جملها الموسيقية نابعة من موسيقى جبل العرب”.
ويبرز “مطرب الجبل” فهد بلان الذي وُلد في السويداء، ووصل بشهرته إلى الكثير من الدول العربية، حيث نشأ بلان في حالة فقيرة وعمل فلاحًا مع أبيه، إلا أنه وخلال عمله كان يسلي نفسه بالغناء ويتجمع من حوله للاستماع لصوته.
بدأ مشواره الفني من إذاعة حلب إلى حين تعرفه بالملحن عبد الفتاح سكر، الذي لحن له الأغنية المشهورة “واشرح لها” والأغنية التي لاقت قبولًا واسعًا “لاركب حدّك يالموتور”، كما غنى “بعبع الأغنية العربية” كما لقبه الكثيرون أغنية “ما قدرش على كده” من ألحان فريد الأطرش، وأنجزها بلهجة مصرية فيها لكنة أهل السويداء، ثم انتقل بلان إلى مصر، إلا أن صوته الجبلي ظل ملازمًا له لحين وفاته في دمشق.
غناء وادي الفرات
يمتاز اللون الغنائي الفراتي بالجمالية الشعرية وعذوبة ألحانه، عدا عن أنه يجعل الأغاني راقصةً، إذ أنها تدعو سامعها للتحرك والتمايل معها، كما أنها تمتاز ببساطة كلماتها للتعبير عن جميع الحالات التي تعتري الإنسان من حزن وفرح، إلا أن هذا الفن الأصيل لم يجد الدعم الكافي لكي يصل إلى الشهرة التي ينبغي أن يكون عليها.
ولهذا النوع من الغناء عدّة ألوان، مثل النايل والسويحلي والعتابة واللكاحي والموليا التي تعتبر من أهم أنواع الغناء الشعبي في وادي الفرات، وتصدر الموليا نتيجة للهموم والمتاعب فتسلي قائلها ومن يسمعها.
يشير الباحث سعيد حمزة إلى أنه “لكل لون غنائي فراتي مناسبته الخاصة التي يغنى فيها، فالعتابا الفراتية بلونيها الفراقيات والهواوي تغنى في الأفراح والأحزان، والنايل يغنى في الأحزان فقط، والسويحلي والمولية الفراتية والممر والبوردانة واللالا تغنى في الريف والمدينة بجميع المناسبات الاجتماعية، وجميعها تعبر عن الطقوس الاجتماعية والإنسانية لسكان وادي الفرات بشكل عام”.
القدود الحلبية
لحلب وقصتها الغنائية جماليةٌ مختلفة، إذ تُعرف المدينة بمدرستها الخاصة في الغناء الذي يدرس عالميًا، ذكرناه سابقًا في “نون بوست” في تقرير كامل يتحدث عن هذا اللون المشهور من الموسيقى والغناء، وتشتهر القدود الحلبية عالميًا، فمنذ الزمن العثماني تطور هذا الفن ليصبح مستقلًا بكل مافيه، كما أن ذائقة أهل المدينة السمعية والأذن الفنية ساعد في ظهور القدود والأغاني في المدينة كما ساعد على ذلك ظهور الإذاعة في أوائل خمسينيات القرن الماضي.
برع الكثيرون في الغناء الحلبي منذ القدم حتى اليوم، وكان في الغالب، يُلزم من يتقن هذا النوع من الغناء أن يتخرج من المساجد والزوايا الصوفية، فإما أن يستمر بالغناء الديني أو يتحول إلى غيره. ومن أشهر من غنّى بهذا اللون، صبري المدلل وحسن حفار وصباح فخري وأديب الدايخ، وكل واحد منهم برع في مجال معين وله جمهوره الواسع، كما أن شهرتهم تخطت الحدود السوريّة ليصلوا إلى العالمية، حتى أصبحت أغانيهم جزءًا من التراث العرابي والثقافي.
التراث الغنائي الساحلي وتشويهه
يرتبط التراث الساحلي في مدينتي طرطوس واللاذقية بأغاني البحر والتغني به، مثل “يا محلى الفسحة يا عيني” و “هالأسمر اللون”، وهي من أشهر ما أصدره الغناء في هذا اللون التراثي الأصيل، إلا أن قلةً من السوريين يعرفون أن هذه الأغاني تنتمي لأرض الساحل، واختلف العلماء عن تاريخ نشأة الغناء في مدن الساحل السوري ليذهب البعض إلى أن فترة نشوءه كانت قبل الميلاد وأرجعها البعض للعصر العباسي، كما رجح آخرون أنها تعود لزمن الحضارات القديمة مثل الآرامية، والجدير بالذكر أن ما بدأنا به التقرير عن اكتشاف أول مقطوعة موسيقية في العالم كان في مدينة أوغاريت الساحلية.
أثر جبرائيل سعادة بالمسيرة الموسيقية والغنائية في مدينة اللاذقية الساحلية، والذي يعد واحد من أشهر وأكبر العارفين بالموسيقا في المنطقة، ونشر الثقافة الموسيقية في مدينته وجمع الفنانين في منزله وعمل على تلحين بعض القصائد، كان أشهرها “أمواج اللاذقية”، ومن بعدها “يا مرحباً بالقمر” للمؤلف سعيد عقل، ومن أبرز المطربين في الفن الساحلي هو الفنان خليل صفطلي الذي يذكر جبرائيل سعادة عنه أنه “صنع فنه”.
إلا أنه ومع تولي بشار الأسد سدة الحكم، تم التسويق لفن “هابط” كما يقول الفنان السوري نعمان حاج بكري، مضيفًا أن “النظام السوري سوّق لنفسه عبر مجموعة من المطربين المحسوبين على جماعته”، علمًا أنه في فترة ما قبل 2011 كانت الحياة تعجّ بالأصوات التي اعتمد النظام طرحها بين الناس، إذ أنه وفي كل مكان تسمعها، في المواصلات العامة والطرقات والمقاهي والمطاعم والتلفزيون والراديو، حيث كان يرتبط هذا الفن بما يعرفه السوريون بـ “الكراجات” وهي أماكن اصطفاف وسائل النقل العامة، وهذا كله ضمن سياسة ممنهجة لمحو أي تراثٍ سوري أصيل مقابل الترويج لفن خرج من الأماكن التي خرجت منها العائلة الحاكمة حتى ولو كان هابطًا.
من جهته يقول الباحث في التراث عامر أندرون، أنه “عندما بدأ هذا اللون في الظهور تفاجأ السوريون وأكثر من تفاجأ هم أهل الساحل الذين انصدموا باللون الجديد”، مضيفًا أن “المشكلة في هذا الموضوع أن السلطة تبنت أمثال علي الديك وأذينة العلي، وهذا الأمر كان يخرّش الأذن الموسيقية لأهل الساحل”، مشيرًا إلى جهود النظام السوري في تصدير إنتاجات هؤلاء المطربين للخارج، وتلميع صورتهم، وتدمير أي صوت حقيقي يزمز للتراث.