يفرض عصر المادة والسرعة الذي نعيش فيه حاليًا أسلوب حياة استهلاكي، لا نُفرق فيه بين الكماليّات والضروريات، ولم نعد حتى نفكر في قراراتنا الشرائية، إذ أصبحت عملية التسوق عادة شبه يومية، فقد ازداد هوسنا باقتناء المزيد من الأشياء مع انتشار الإعلانات التسويقية في كل مكان. وبذلك، ليس من المستغرب أبدًا أن مسألة الادخار والتوفير أصبحت فكرة مهملة، لا تتسق مع نمط حياتنا ووتيرتها السريعة.
ولكن من جهة أخرى، وإن لم نعي ذلك بعد، فإننا في لعبة مستمرة من شد الحبل بين رغباتنا التي تجذبنا لإشباعها، وبين أموالنا التي تحاول لفت انتباهنا إلى أولوياتنا والتزاماتنا. في أحيان أخرى، قد نبتعد، بنية مقصودة، عن التفكير بحياتنا المالية وسلوكياتنا الاستهلاكية، تجنبًا للضغط النفسي الذي يصاحب التفكير بكيفية سداد الأقساط وتأمين أنفسنا بعد التقاعد وغيرها من الالتزامات المالية، إلا أننا إذا واجهنا هذا الواقع وحددنا أهدافنا ووضعنا خطة مدروسة وعملية، فلن يعد التفكير في تلك المسألة أمرًا مرهقًا ومرعبًا.
ومنذ البداية، ستساعدنا هذه الآلية على مواجهة الأزمات المفاجئة وستزيد شعورنا بالأمان المالي وتقربنا من أهدافنا الشخصية، ولتحقيق ذلك كله، لا بد أن نحدد 3 أولويات غير قابلة للتفاوض أو الإغفال بتاتًا:
الأولوية الأولى: تخصيص مبلغ احتياطي للطوارئ
يجب أن يكون لدينا مدخرات كافية للتكاليف غير المتوقعة، رغم أن هذا الهدف ليس مغريًا أو محفزًا كثيرًا، إلا أنه في غاية الأهمية لأنه إذا لم تكن لدينا القدرة على سداد نفقاتنا في تلك الحالات الحرجة، فيمكن أن تقضي التكاليف المفاجئة على أهدافنا الأخرى، وتدفعنا للاقتراض أو الاستدانة، ما يعني بكلمات أخرى المزيد من الضغوط المالية.
وبالعودة إلى عبارة “مدخرات كافية”، فإننا نعني بالتحديد ادخار مبلغ كافي لتغطية نفقات 6 أشهر تقريبًا، بحيث توفر لنا الحماية الكاملة من أي مسؤوليات غير محسوبة أو منتظرة. ويشمل ذلك، الحالات الطبية والتنقلات المفاجئة وخسارة الوظيفة.
الثانية: سداد القروض ذات الفوائد العالية
تتمثل هذه الخطوة في سداد الديون ذات الفوائد المرتفعة مثل بطاقات الائتمان وقروض السيارات والطلاب. تنطوي أهمية هذا الموضوع على أن التأخر أو التباطؤ في سداد الدفعات يدفعنا إلى إهدار المزيد من الموارد المالية، وبالتالي تقييد الميزانية وتأخير الخطط المالية.
الثالثة: توفير مدخرات التقاعد
عادةً، ما تأتي مسألة التقاعد في ذيل قائمة الأولويات المالية، وننفق أموالنا على احتياجاتنا الحالية، خاصةً لو كنا نعتقد بأننا لدينا ما يكفي من الالتزامات المالية والمصروفات الشهرية. ولكن رغم أننا نتصور بأنها سوف تزيد من ضغوطنا المادية الآن أو أنها لا تناسب إمكانياتنا المالية لأن دخلنا الشهري محدود أو متوسط، إلا أن توفير مبالغ صغيرة، بانتظام، سوف يمنحنا راحة مادية لاحقًا بعد أن نكون قد جمعنا رصيدًا كبيرًا من المال في نهاية المطاف. وكلما أسرعنا في الادخار، كلما زادت فائدتنا الاقتصادية.
على سبيل المثال، افترض أن عمرك 22 عامًا وترغب في التقاعد عند سن 62 عامًا. إذا ادخرت 3 آلاف دولار سنويًا لمدة 40 عامًا، في إحدى صناديق أو برامج التقاعد، وعلى افتراض أن متوسط العائد السنوي هو 10%، فسوف يصبح لديك أكثر من 1.4 مليون دولار بفعل المبالغ المودعة والأرباح المركبة بحلول الوقت الذي تريد التقاعد فيه. لكن إذا تأخرت في الادخار لمدة 10 سنوات وبدأت عند سن 32 عامًا، فستحصل على أكثر من 550 ألف دولار عند التقاعد.
أما إذا كنت تفكر في إدخار أموالك في حساب بنكي اعتيادي، دون الاستعانة بصناديق التقاعد، فينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أن أموالك تفقد قيمتها مع مرور الزمن بسبب التقلبات السياسية وظروف السوق والتغيرات الاقتصادية التي تطرأ على العالم مثل التضخم. ولذلك يعد استثمار مدخراتك في البرامج التقاعدية أكثر الخيارات المالية صوابًا على المدى الطويل.
إدارة المصروفات
بمجرد أن ننتهي من تحديد أولوياتنا، نتوجه الآن إلى تنظيم مصروفاتنا، وهي من الأمور الشخصية جدًا التي لا يمكن إدارتها أو تحديدها من خلال نظريات اقتصادية أو معادلات حسابية. حيث يوجد مجموعة من السلع والخدمات التي لا يمكننا الاستغناء عنها، ولكن بالنسبة لأشخاص آخرين، فيمكنهم بكل سهولة ومرونة التخلي عنها.
مثلًا، قد تكون واحد من الأشخاص الذين يتبعون نظامًا غذائيًا صحيًا في حياتهم، وتشتري طعامًا عضويًا أو طازجًا بشكل مستمر، رغم ارتفاع أسعار هذه المواد، ولكنك على أي حال لا تستطيع التخلي عن خياراتك الصحية واستبدالها بالأطعمة المتجمدة أو المصنعة. وفي هذه الحالة، يُمكنك النظر إلى نفقات أخرى أقل أهمية من نوعية الطعام، للعمل على تقليصها وإدراجها تحت قائمة الكماليات، ربما مثل نفقاتك على فواتير بنزين ومرآب السيارة. كما من المهم أن تتذكر بأن جميع النفقات قابلة للتفاوض والتغيير.
وبصفةٍ عامة، لكي تستطيع إدارة مصروفاتك والسيطرة على نفقاتك، لا بد أن تحدد أهدافك من هذه العملية، إذ لديك فرصة أعلى في الإنجار بنسبة 95% إذا كتبت أهدافك وراجعتها باستمرار وبانتظام، حتى وإن كانت تحتوي على طموحات ترفيهية مثل السفر حول العالم، أو شراء جهاز إلكتروني باهظ الثمن، لأن تلك الأهداف تشجعك على الوصول إلى الأهداف الأخرى والتي قد تكون أكثر جدية مثل شراء منزل أو سيارة. مع ضرورة الانتباه إلى أن هناك أهداف حالية وأهداف يمكن أن تنتظر بضع سنوات لإدخالها على الميزانية وتحقيقها.
من المهم أيضًا، أن تحدد أهدافك ماليًا، لكي تجعلها قابلة للقياس والمقارنة مع الوقت. والأهم من ذلك، جعلها تبدو قابلة للتحقق. لنجرب مثالًا، فليكن هدفنا شراء منزل؛ إذن يجب أن نطرح هذه الأسئلة على أنفسنا، حتى نتمكن من حساب المبلغ الذي نحتاج إلى توفيره كل شهر:
ما هو السعر المقدر لشراء المنزل؟ 100 ألف دولار أمريكي.
هل سأدفع نقدًا أم لدي قرض عقاري؟ نقدًا.
كم ستكون دفعتي الأولى؟ 20٪ أو 20 ألف دولار.
متى أريد شراء منزل؟ 3 سنوات.
وبذلك، فإن المبلغ الذي علينا توفيره شهريًا = 555$ (20.000 دولار/ 36 شهر)، وعندما نقوم بهذه الحسبة في كل مرة نحدد بها أهدافنا المالية، مع اختلاف بعض الأسئلة، فإننا نحفز أنفسنا على الادخار عندما نرى أننا اقتربنا من غايتنا، وفي الوقت نفسه، قد نكتشف أن زياراتنا اليومية إلى ستاربكس أو مقاهي القهوة الأخرى تكلفنا سعر المنزل الذي لطالما أردنا شراءه وأن الجهل فيما يتعلق بأولوياتنا وأهدافنا المالية ليس نعمة وإنما نقمة يمكن تجنبها إذا حاولنا أن نجري حسابات فكرية سريعة كل شهر.