وتتوالى تداعيات الاتفاق التركي الليبي بشأن تحديد الحدود البحرية بين البلدين، الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في ظلّ ما أحدثه من صدى مدوٍ في منطقة الشرق الأوسط، أثار حفيظة عدد من الدول على رأسها اليونان وقبرص ومصر.
ويعود التأثير الواضح للاتفاق إلى تقاطع المنطقة الممتدة من جنوب غربي تركيا إلى شمال شرقي ليبيا والتي شملتها مذكرة التفاهم، مع منطقة تطالب اليونان وقبرص حالياً بأحقيتهما فيها، ويجري العمل فيها كذلك على خطط لخط غازٍ مستقبلي يربط حقول الغاز الواقعة شرقي المتوسط بالأسواق الأوروبية.
تأتي هذه الخطوة في وقت تواصل فيه السفن التركية بحثها وتنقيبها عن الغاز في تلك المنطقة، بينما يرى البعض أنها ستؤدي إلى مزيدٍ من التصعيد في التوترات بين هذه البلدان، التي لها مطالب متضاربة بشأن أحقية كلٍّ منها في تطوير موارد الطاقة شرقي البحر المتوسط، حسبما ورد في تقرير موقع Al-Monitor الأمريكي.
وبينما تتمسك أنقرة بأحقيتها في الاتفاقية، جغرافيا وتاريخيًا، صرح المتحدث باسم الحكومة اليونانية أن رئيس الوزراء سيجتمع مع الرئيس التركي اليوم الأربعاء في محاولة لتخفيف النزاعات حول التنقيب عن الطاقة، لافتًا إلى أن الاجتماع سيجري على هامش قمة الناتو في لندن، آملا أن يتيح “تمهيد الطريق أمام شكل جديد من احترام القانون الدولي، وعلاقات حسن الجوار بين البلدين”.
حق سيادي لتركيا
عاود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجديد التأكيد على أن الاتفاق المبرم بين بلاده وليبيا بشأن تحديد النفوذ البحري في البحر المتوسط حق سيادي لكلا البلدين، وإن أنقرة لن تناقشه مع أحد، مشيرًا خلال مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة قبيل توجهه إلى العاصمة البريطانية لندن لحضور قمة زعماء دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أن الاتفاق ربما يشكل إزعاجًا حقيقيًا لفرنسا، “لكننا نؤكد أن الاتفاق المبرم حق سيادي لتركيا وليبيا، ولن نناقش هذا الحق مع أحد”.
من جانبه أوضح متحدث باسم الخارجية التركية أن الاتفاق مع ليبيا يتضمن تحديد قسم من الحدود الغربية للسيادة البحرية لتركيا شرقي البحر المتوسط، فيما نشر المدير العام للحدود البحرية والجوية في الخارجية التركية تشاغطاي أرجياس أمس عبر حسابه في تويتر، خريطة تظهر حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا في البحر المتوسط بعد توقيع الاتفاقية الأخيرة مع ليبيا.
أمام تلك التحديات التي فرضها الدعم الذي تلقاه حفتر سواء من روسيا أو الإمارات أو مصر بجانب بعض القوى الأوروبية ماكان لدى حكومة السراج خيار أخر سوى البحث عن علاقات أوثق مع حلفائها
وفي المقابل أكد وزير الخارجية الليبي محمد سيالة أن مذكرة التفاهم الموقعة مع تركيا ليست تعديًا على سيادة أي دولة، مضيفًا في رسالة إلى وزراء خارجية تونس والجزائر والمغرب، أن المذكرة تعد صونا للمصلحة الوطنية الليبية، وأنها تخدم الأشقاء بالدرجة الأولى.
وكانت أجواء تفاؤلية قد خيمت على الشارع التركي بعد توقيع مذكرة التفاهم التي وصفها محللون بأنها “فارقة تاريخية“، تحقق التفوق العسكري إلى الجانب السياسي للدولة التركية في المنطقة، كما تضع حدًا لما سماها “المخطات الاحتلالية” في شرق المتوسط.
ردًا على مساعي الإقصاء
خبراء ذهبوا إلى أن تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بداية هذا العام 2019، بعضوية جمهورية قبرص واليونان وإسرائيل والأردن وفلسطين ومصر وإيطاليا أثار حفيظة الأتراك بشكل كبير، الذين رأوا أن هناك مخططًا لعزل بلدهم عن عمليات تطوير الطاقة الجارية في المنطقة.
الباحث المتخصص في شؤون ليبيا بمعهد كلينغنديل الهولندي، جلال الحرشاوي، علق على هذه المسألة بأن «تركيا معنيّة بشدة بالدفاع عن تفسيرها لقانون المياه الإقليمية. ولذا، تحتاج تركيا –من أجل تعزيز موقفها القانوني والخطابي على الساحة الدولية- إلى شريكٍ بخلاف شمال قبرص. وهذا ما تتوقعه تركيا من حكومة الوفاق الوطني في طرابلس».
وأضاف خلال تصريحات صحفية له أن أنقرة تسعى لإيجاد سابقة من أجل التطويرات المستقبلية شرقي المتوسط؛ إذ أشار المسؤولون الأتراك مرارًا إلى أنَّ أنشطة البحث والتنقيب عن الغاز ستتواصل على الرغم من التهديد المتنامي من الاتحاد الأوروبي بفرض عقوباتٍ تتعلق بتلك الأنشطة.
المسألة ذاتها أكد عليها الرئيس التركي حين أشار على هامش افتتاح خط غاز تاناب، السبت الماضي، 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: «ليس من الممكن تنفيذ أي مشروعات في المنطقة تستثني بلداً ذا حدودٍ بحرية طويلة في شرق المتوسط، لن نسحب سفننا وسنواصل العمل هناك».
وفي سياق متصل دافع المتحدث باسم الخارجية التركية، حامي أقصوي، في بيانٍ يوم الإثنين 2 ديسمبر/كانون الأول عن الاتفاق، قائلاً إنَّه جاء متسقاً مع «القانون الدولي، بما في ذلك المواد ذات الصلة باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار»، مؤكدًا أنه يتوافق مع قرارات قضائية تنشئ سوابق القضائية الدولية والقانون الدولي، بما في ذلك المواد ذات الصلة من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
أما فيما يتعلق بالانتقادات اليونانية حيال الاتفاق، أوضح أنه قبل توقيع تلك المذكرة مع حكومة السراج دعت تركيا مراراً وتكراراً جميع الأطراف إلى المفاوضات للتوصل إلى إجماع على أساس الإنصاف وتظل مستعدة، منوهًا «من خلال هذا الاتفاق مع ليبيا أبدى البلدان بوضوح نيتهما عدم السماح بفرض أي أمر واقع»، في إشارة إلى الخطط التي تستثني تركيا من عمليات تطوير الغاز شرقي البحر المتوسط، والتي من شأنها حرمان البلاد، وربما جمهورية شمال قبرص التركية، من عائدات نقل مربحة.
الاتفاقية أثارت وبشكل كبير حفيظة اليونان ومصر وقبرص، إذ اعتبرتها وزارتا الخارجية المصرية والقبرصية معدومة الأثر القانوني وغير ملزمة لأي طرف
وهذا ما تريده ليبيا
لم يتم الإفصاح بشكل تفصيلي عن مضمون مذكرة التفاهم المبرمة بين الجانبين، التركي والليبي، في إسطنبول، غير أن أغلب المؤشرات تشير إلى أن الاتفاق يشمل التعاون في المناطق الاقتصادية البحرية بالقرب من جزيرة كريت اليونانية، حسبما أبلغ مسؤولون ليبيون شبكة Bloomberg الأمريكية.
طيلة السنوات الماضية نجحت روسيا في بسط نفوذها داخل الأراضي الليبية وساعدت بشكل كبير اللواء متقاعد خليفة حفتر في تعظيم قواته، الأمر الذي سمح له بفرض سيطرته على قطاعات كبيرة من التراب الليبي ماكان له أن يقترب منه لولا الدعم الروسي الكبير.
وأمام تلك التحديات التي فرضها الدعم الذي تلقاه حفتر سواء من روسيا أو الإمارات أو مصر بجانب بعض القوى الأوروبية ماكان لدى حكومة السراج خيار أخر سوى البحث عن علاقات أوثق مع حلفائها وفي مقدمتهم تركيا، ومن ثم كان توقيع هذا الاتفاق الذي يأمل الليبيون أن يعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي بحسب مسئولين حكوميين.
وفي ذات الإطار قال وزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا إن الاتفاق يهدف إلى الحفاظ على الأمن وحماية سيادة ليبيا، ويعزز قدرات الحكومة في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة، بالإضافة إلى تطوير منظومتي العمل الأمني والتدريب.
غضب يوناني مصري
الاتفاقية أثارت وبشكل كبير حفيظة اليونان ومصر وقبرص، إذ اعتبرتها وزارتا الخارجية المصرية والقبرصية معدومة الأثر القانوني وغير ملزمة لأي طرف، في حين هددت أثينا بطرد السفير الليبي لديها بحلول يوم الجمعة القادم إن لم يقدم نسخة من مذكرة التفاهم الموقعة بين طرابلس وأنقرة.
وعليه انطلقت حزمة مشاورات بين الأطراف الثلاثة، بدأت بزيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس القاهرة الأحد الماضي 1 ديسمبر/كانون الأول، لعقد مباحثات مع نظيره المصري سامح شكري، حيث اتفق الوزيران على أنَّ رئيس حكومة الوفاق السراج «على الأغلب يفتقر إلى الشرعية اللازمة لتوقيع هذه المذكرات»، لكنَّها «تُمثِّل عوامل عدم استقرار للمنطقة الأوسع نطاقاً».
قال أردوغان إن التنسيق الثلاثي بين الدول الثلاث (مصر واليونان وقبرص) لن يؤثر على الاتفاقية التي من المقرر أن تعرض على البرلمان لإقرارها بشكل رسمي خلال الأيام القادمة
وأشار دندياس إلى أنَّه سيسعى لتسريع المباحثات مع القاهرة، بشأن تعيين حدود المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين بين البلدين، فيما قال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس يوم إنَّه سيسعى خلال قمة هذا الأسبوع للحصول على الدعم من حلفاء الناتو في مواجهة محاولات تركيا التعدي على السيادة اليونانية.
استعانة اليونان بالناتو تأتي استغلالًا لحالة التوتر بين أنقرة ودول أوروبا، على خلفية ما أشارت إليه تقارير بشأن رفض المسؤولين الأتراك دعم خطة الحلف ما لم يحصل الأتراك على مزيدٍ من الدعم لعملياتهم العسكرية الجارية ضد المسلحين الأكراد شمال شرقي سوريا، وهو ما نفته مصادر تركية.
وردًا على هذا التصعيد قال أردوغان إن التنسيق الثلاثي بين الدول الثلاث (مصر واليونان وقبرص) لن يؤثر على الاتفاقية التي من المقرر أن تعرض على البرلمان لإقرارها بشكل رسمي خلال الأيام القادمة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام كافة السيناريوهات المحتملة بين طرفي الأزمة، ما لم يسفر لقاء رئيس الوزراء اليوناني والرئيس التركي اليوم عن تطورات من شأنها تخفيف حدة التوتر.