ترجمة: العصر – تحرير: نون بوست
في فناء مسجد الخلفاء بجباليا يتوجه حشد هائل من الفلسطينيين نحو القبلة. إنه يوم الأربعاء 20 أغسطس 2014 وهم يستعدون لتأدية صلاة الجنازة، غير أنها ليست صلاة جنازة مما اعتاد الفلسطينيون على تأديتها يوميًا.
هي جنازة “وداد العصفور وابنها البالغ من العمر 7 أشهر لا غير”، والذين قد سقطا ضحايا قصف إسرائيلي للعمارة التي كانا يتواجدان فيها في وسط مدينة غزة، يوم الخميس، تمّ استخراج جثة ابنتها سارة، 3 سنوات، من بين الأنقاض.
كثير من الجيران والأقارب فوجئوا يوم وفاة المرأة ذات الـ 27 عامًا بأنها زوجة رجل يعدّ بحق رقمًا مهمًا في معادلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إنه ليس سوى “محمد ضيف” القائد الأعلى لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
يعتبر محمد ضيف اليوم، من المنظور الإسرائيلي، الهدف رقم واحد للعمليات العسكرية، وهؤلاء الإسرائيليون أنفسهم يعترفون بأن الرجل محاط بالأسرار، سواء في تحرّكاته أو على مستوى شخصيته، وهاهم يكتشفون أكثر فأكثر فكره العسكري وهم يواجهون مقاتلي حماس على الأرض في عملية “الجرف العازل”.
لم تكن عملية القصف التي ذهبت بأرواح أفراد أسرته سوى محاولة إسرائيلية أخرى للقضاء على العقل المدبّر للمقاومة الفلسطينية، عملية خرجت أوامر تنفيذها من أعلى مواقع القرار السياسي: الحكومة الإسرائيلية.
فمن بين المعلومات الاستخباراتية الشحيحة للغاية من داخل غزة، استنتج الإسرائيليون أن محمد ضيف يقيم ليلة الثلاثاء بين أسرته الصغيرة، كان ذلك قبل أن يخيب ظنّهم بمرور الساعات.
في سهرة الثلاثاء انتشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية خبر عن مصادر عسكرية رفضت الكشف عن هويتها، بأن قائد كتائب القسام قد تمت تصفيته أو في أحسن الحالات أصيب إصابة بالغة، إلا أن صبيحة يوم الأربعاء، حملت في طيّاتها تفنيد مسئولي حماس لهذا الخبر، بل إن أبا عبيدة الناطق الرسمي “الملثم” لكتائب القسام أعلن: “محمد ضيف لازال هو القائد الأعلى لكتائب القسام”، ثم صرّح بشيء من التحدي: “سيكون محمد ضيف قائد الجيش الذي سيحرّر بيت المقدس”.
لم يتطرق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين ناتنياهو، في حديثه التلفازي يوم الأربعاء للموضوع بالمرة، لم يشر سوى بتلميح بسيط بأن أحد أهم أهداف العملية التي تقوم بها إسرائيل في غزة هو تصفية قيادات المقاومة السياسية والعسكرية لحماس،علمًا بأن اسرائيل قد تمكنت من اغتيال 3 من قيادات كتائب القسام في رفح: رائد العطار، محمد أبو شمالة ومحمد برهوم.
على مدى 25 عامًا، أفلت محمد ضيف من 5 محاولات اغتيال، لقد أصبحت كل واحدة من هذه العمليات تغذي أسطورته، فهو ليس في متناول أيدي الإسرائيليين رغم أنه يتحرك في مساحة صغيرة للغاية.
إنه يتقن الاختباء، كما يعرف كيف يمسح كل أثر له بعناية، يصرّح خبير الجماعات الإسلامية، دومينيك طوماس: “محمد ضيف يتمتع بدهاء خاص، له قدرات خارقة على الاختباء، وقد نجح في صياغة استراتيجيته القتالية تحت غطاء محكم من السرية”.
هاني بسوس، الأستاذ في الجامعة الإسلامية بغزة، يتحدث عن الرجل: “محمد ضيف رجل عادي، يحب الانفراد مع نفسه، يمكن أن يظل سنة في غرفة مغلقة دون أن يشعرّ بالضيق أو الملل”، كما يشير إلى أنه “لا يتفاعل إلا مع قلة قليلة من الناس”.
مصطفى العصفور، والد وداد العصفور وصهر محمد ضيف، صرّح بأنه لم ير قائد كتائب القسام سوى مرة واحدة سنة 2007 حين طلب منه هذا الأخير يد ابنته: “لقد قبلت بتزويجها له لأننا ندعم المقاومة، كانت فخورة جدًا به وأنا كذلك”، أم معز، 45 عامًا، صديقة وداد، تشير إلى أنها لم تكن تعلم أن زوج وداد هو محمد ضيف.
هكذا يُجمع الجميع – من أقرب أقربائه إلى ألدّ أعدائه – بأن المعلومات حول محمد ضيف قليلة للغاية، فمن محمد دياب المصري، اسمه الحقيقي، إلى سطوع نجمه في صيف 2014 لا توجد أي وثائق يمكن أن يشتغل عليها من يريد التوغل في سيرته الشخصية.
خيط وحيد: صورة له في سنة 1989 إثر اعتقاله من قبل القوات الإسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى (مع مؤسس حركة حماس أحمد ياسين) قبل أن يطلق سراحه 13 شهرًا بعد ذلك.
ولد محمد ضيف سنة 1965، لعائلة فقيرة في مخيّم خان يونس، درس البيولوجيا في الجامعة الإسلامية، ونشط تنظيمًيا في الحياة الجامعية فمكنته ملكاته القيادية من رئاسة اتحاد طلبة الإخوان المسلمين (التنظيم الأم الذي خرجت من رحمه حركة حماس).
في التسعينيات، وتحت قيادة يحيى عياش أو عماد عقل كان واحدًا من الشباب الذي أوكلت له مهام قيادية رئيسية، ليستفيد من تجارب ميدانية صاغت منظومة فكره الاستراتيجي العسكري، هذا الفكر الذي ظل يطوّره ليظهر للعالم في أعلى مستويات الفعالية والابتكار في مواجهات هذا العام.
لقد أصبح محمد ضيف منذ التسعينيات أحد أهم رجال المقاومة دون أن يتسرب اسمه كقيادي رئيسي.
صحيح أن إسرائيل اعتبرته شخصًا خطرًا في بداية التسعينات، إلا أنها لم تكن تعتبره ورقة مهمة للغاية ولولا ذلك لما أفرجت عنه بتلك البساطة، ثم غاب عن الإسرائيليين وقتها أنه ومنذ تحريره قد أوكلت له قيادة فيلق كتائب القسام في جنوب غزة، وأنه سيصبح مهندس العمليات الموجهة للجنود الإسرائيليين والهجمات باستعمال المتفجرات.
محمد ضيف مرّ أيضًا من سجون السلطة الفلسطينية منذ 1994، خلال فترات متقطعة، إلى حدود سنة 2001 حين استفاد من عفو رئاسي زمن الانتفاضة الثانية.
وتحت قيادة صلاح شحادة أوكلت لضيف مهمة التنسيق في موجة العمليات الانتحارية التي دوّخت الدولة العبرية لفترة طويلة وتواصلت حتى سنة 2006.
خلال هذه السنوات، قفز محمد ضيف إلى المراتب القيادية للتنظيم، في يوليو 2002 اغتالت إسرائيل صلاح شحادة القائد الأعلى لكتائب عز الدين القسام، لم يتم كشف أي اسم لخلافته، أوكلت لضيف مهام عديدة وقتها، ويمكن اعتباره الرجل الأول في التنظيم بالنظر إلى صلاحياته علاوة على أدواره في مجمل القيادة السرية لحركة حماس.
أصيب محمد ضيف في إحدى محاولات الاغتيال، فانسحب لمدة من النشاط الميداني فاسحًا المجال لأحمد الجعبري ليصبح الرجل الأول في التنظيم، وقد نجحت إسرائيل في اغتيال القائد الجعبري في شهر نوفمبر 2012، ليتصدر محمد ضيف أعلى مواقع القيادة.
ظهر في جنازة الجعبري في نهاية 2012، ثم ها هو يعود بقوة في يوليو 2014، يظهر هذه المرة بكثير من الأوراق في يده وكثير من القدرات العسكرية واللوجستية لتنظيمه، دون أن يزيل عن صورته حالة الغموض والضبابية التي صاحبته طيلة مسيرته الفريدة.
المصدر: صحيفة لوموند