لعلك وأنت تستمع لإحدى الأغاني التركية قد قفزت إلى ذهنك تلقائيًا إحدى الأغاني العربية التي اعتدت سماعها، في الواقع؛ هذه الظاهرة باتت واسعة النطاق في السنوات الأخيرة، لكن ما ليس سهل الجزم به ما إن كان اللحن الأصلي يعود إلى الأغنية العربية أم التركية، وما إن كان التشابه الذي اكتشفته نتاج توارد خواطر وتشابه في الألحان أم سرقة فنية أم اقتباس موسيقي، وهي جميعها تصنيفات تختلف أحكامها فنيًا وحتى قضائيًا.
هذا الموضوع أثار جدلًا متصاعدًا في السنوات الأخيرة وخرج المختصون بتصنيفات مختلفة لهذا التشابه الذي ينتج عن التقاطع والتشابه الكبير بين الموسيقى العربية والتركية وآلاتها نتيجة التقارب الثقافي الكبير تاريخيًا، أو بسبب انتشار الاقتباس الموسيقي عبر إجراء بعض التغييرات، إلى جانب الاقتباس مع ذكر المصدر، مع تأكيد وجود ظاهرة السرقة الكاملة للألحان دون ذكر المصدر، وما هو يعتبر فنيًا وقانونيًا “سرقة فنية”.
الاقتباس والسرقة
فنيًا وقانونيًا هناك فرق شاسع بين الاقتباس والسرقة الفنية، فالاقتباس هو تقديم لحن مقتبس مع الحفاظ على حقوق المؤلف الأصلي وطلب الحصول على حق إعادة إنتاج العمل بلغة أخرى مع توزيع موسيقي جديد مثلما فعلت إليسا التي استخدمت لحنًا تركيًا عام Git Diyemem- Ezo- (Feat. Rafet El Roman) 2014 في أغنيتها “حالة حب”.
خلال فترة الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، سرق أو اقتبس فنانون أتراك العديد من أغاني فيروز والأخوين رحباني، أبرزها أغنية “وينن” التي صدرت عام 1972
أما سرقة الألحان، فتكون باعتماد الإيقاع للموسيقى المستخدمة في أغنية ما دون الرجوع إلى المغني أو ذكر المصدر، فتكون الجمل الموسيقية في حالات السرقة مع بعض التغييرات وتوزيع موسيقي باستخدام آلات معينة والعمل على تغطية اللحن الأصل، مخرجين بذلك لحنًا هجينًا لا يخفى على متذوقي الموسيقى والمتابعين معرفته وإدراكه بسهولة.
وعلى هذا النحو لحنت مريام فارس أغنيتها “وحشني إيه” التي أصدرتها عام 2007 (كلمات الشاعر محمود رفاعي وألحان جان ماري رياشي) فتعرّضت للسرقة من مغنٍّ تركي يدعي Ozan CANIMA علمًا أنّ أرشيف ميريام فارس مليء بالألحان التركية “المقتبسة”.
وخلال فترة الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات سرق أو اقتبس فنانون أتراك العديد من أغاني فيروز والأخوين رحباني، أبرزها أغنية “وينن” التي صدرت عام 1972 وهي من تأليف وتلحين الأخوين الرحباني، وقد أخذها إركين كوراي، وهو الفنان التركي الذي اشتهر باستعارة الألحان العربية و”تتريكها” وغنائها بصوته مثلما فعل مع لحن أغنية “عالعين موليتين” التراثية التي نقلها إلى التركية عام 1974، وأغنية “Eyvah”، وأغان أخرى منها لحن “طريق النحل” التي غنتها الفنانة التركية أدجا بيكان، وأغنية “لا إنتَ حبيبي” التي غناها الفنان التركي فردي أوزبيان.
كما أن المغني التركي باريوز الذي أصدر أغنيته (CAMBAZIN BİRİ) تبين أن لها نفس لحن أغنية “ويلي منك” للمغني اللبناني جاد نخلة وهي من ألحان الملحن المعروف مروان خوري الذي رفع دعوى على الملحن التركي بتهمة سرقة الأغنية وكسب الدعوى وأجبر المغني على وضع اسمه على الأغنية.
ارتباط تاريخي
للأغاني المقتبسة أو المسروقة أمثلة لا تعد ولا تحصى بين الفنانين العرب والأتراك ولكن قد تكون هناك ألحان لأغانٍ تركية أو عربية يخيل لنا أننا سمعناها من قبل لكنها في الواقع قريبة إلى حد ما لأغنية وليست هي تمامًا، أو غير موجودة بالأصل، وهذا يعود إلى الكثير من الأسباب أبرزها الارتباط التاريخي والثقافي بين العرب والأتراك.
فمن المعروف أن الحقبة العثمانية كانت من أكثر فترات تركيا ازدهارًا في الفن، فبالنسبة إلى الموسيقى، شكَّل القرن الثالث عشر بداية تنظيم الموسيقى، إذ أخذ الأتراك المقامات من آسيا والأناضول، وحلَّقوا بها في سماء الإبداع، أما أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر فقد بدأت الأبحاث في الموسيقى العثمانية ونُظمها في البزوغ، ما أدى لاحقًا إلى تدريس الموسيقى.
وكانت الموسيقى العثمانية الكلاسيكية تعتمد في الأساس على الطنبور والناي والعود والقانون والكمنجة والكمان (وهما آلتان مختلفتان في الحقيقة، فالكمنجة آلة وترية أشبه بالربابة اليوم)، وكانت تعكس كل جوانب الحياة الطبيعية والاجتماعية آنذاك.
دخل الغناء التركي شتى أرجاء الوطن العربي عن طريق التهاليل المستعملة في المساجد، وقبيل صلاة العيدين، ومنهم من يترنم بها عند الإتيان بالإمام من بيته إلى الجامع، وحتى المآتم
وحتى القرن العشرين، انتشرت الموسيقى التركية عبر حوض البحر المتوسط بأشكال متعددة، تختلف حسب المناطق القروية والحضرية، وبعيدًا عن الموسيقى العثمانية الكلاسيكية، انتشرت تلك الموسيقى الشعبية داخل الأناضول، وتطورت على يد الفنانين المحليين وتدريجيًا اتخذ الأتراك الكثير من الإصلاحات الأدبية والفنية وبات الكثيرون يعتبرون أن الموسيقى التركية الكلاسيكية، توأم الموسيقى العربية.
يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني) أن أبا يحيى عبد الله بن سريج المغني الذي طوت شهرته أرجاء الحجاز ليعتبر من أصول الغناء العربي في العهد الأموي مع ابن محرز ومعبد ومالك، ولد بمكة المكرمة في السنة الثانية عشرة للهجرة من أب تركي، ولا بد أنه تأثر بكلامه وألحانه وتقاليده التركية. كما اشتهر في العصر العباسي زامر تركي يدعى (برسوم) كان على درجة من الفن، جعلت أكابر فناني عصره مثل إسماعيل بن جامع وإبراهيم الموصلي يتأثرون به.
ودخل الغناء التركي شتى أرجاء الوطن العربي عن طريق التهاليل المستعملة في المساجد وقبيل صلاة العيدين، ومنهم من يترنم بها عند الإتيان بالإمام من بيته إلى الجامع، وحتى المآتم.
كان للمعهد الموسيقي الرسمي بإسطنبول المعروف باسم (دار الألحان التركية) دوره الفعال في خدمة الموسيقى التركية بشكل خاص والموسيقى الشرقية بشكل عام، فقد كان قبلة الفنانين، وتخرج فيه كثيرون ممن لمع نجمهم لاحقًا، وأقيمت في رحابه أبحاث على غاية من الأهمية في شتى المجالات الموسيقية، كما مكن التثاقف بين الموسيقى التركية والعربية من ازدهار وتطور الموسيقى، وتم تهذيب التواشيح والقدود وتبادل ترجمتها.
المعايير المهنية للاقتباس
“نون بوست” التقى الأستاذ بالموسيقى والفنان السوري ماهر نعناعة الذي اعتبر أن الموسيقي بشكل عام لغة عالمية يفهمها جميع الشعوب، ومن خلالها يستطيع الإنسان معرفة أسرار الشعوب وثقافاتهم ورقي أي بلد، فيقول: “تعتمد الموسيقى على المقامات التي هي عبارة عن سلم موسيقي له أبعاد أساسية تختلف نغمته باختلاف أبعاده، أما المقامات بشكل عام فهي نفسها بالموسيقى التركية والعربية ومنذ العهد العثماني نجد بإرثه الموسيقي ألحانًا عظيمة فيها توليفات بين الموسيقى العربية والتركية، فهناك تشابه في المقامات، فكلها شرقية إلا ما ندر مثل الحجاز والصبا عربية”.
يضيف نعناعة الذي أسس المعهد العربي للموسيقى والغناء في إسطنبول: “أما الاختلاف فهو في أداء الألحان وطريقة الغناء التي يمكن أن تكون عربية أو تركية، تختلف المقامات بأبعادها مثال: الراست في تركيا هو الأقرب إلى العجم لأن درجة ال مي نصف بيمول وال سي نصف بيمول 8 كومه، بينما عندنا العرب تكون 8 كومه”، عازيًا تشابه الألحان العربية والتركية إلى التقارب الثقافي والديني الكبير.
ماهر نعناعة: “التشابه يكون بجمل قصيرة مختصرة لا تتعدى الـ5 مازور أو 5 مقاييس أو 7، لكن السرقة تعني أخذ لحن كامل أو لحن دور كامل”
وعن سرقات الألحان، شدد نعناعة على أنه أمر مرفوض جملةً وتفصيلًا، معتبرًا أنه لا يصنع فنًا جديدًا، بل يعتمد على ما أبدعه الأولون وليس بإبداعٍ شخصي، قائلًا: “هناك حقوق للملكية يحميها القانون، قد تتشابه بعض الجمل الموسيقية فلا بأس، فهناك أغانٍ تركية تحمل طابعًا عربيًا والعكس صحيح، وذلك بسبب استخدام جمل موسيقية تركية أو عربية ولكن دون نسخ اللحن أو إعادة السلم الموسيقي نفسه”.
ويشرح نعناعة الفرق بين التشابه والسرقة، فيقول: “التشابه يكون بجمل قصيرة مختصرة لا تتعدى الـ5 مازور أو 5 مقاييس أو 7، لكن السرقة تعني أخذ لحن كامل أو لحن دور كامل”.
وعن انتهاك الملكية الفكرية، أوضح نعناعة أن هناك “فئة من الشباب فاقدي الموهبة والإبداع يمتهنون الفن من أجل الكسب المادي فقط وليس عن موهبة أو شغف قد يلجأون لمثل هذه السرقات”، مضيفًا: “الملكية الفكرية محمية قانونًا بحقوق مثل البراءات وحق المؤلف والملحن والعلامات التجارية والنقابات الفنية، وأضع خطًا تحت نقابات الفنانين فهي المسؤول الأول الذي يحمي حقوقنا من سرقة الألحان”.
وعن المشاكل التي تعاني منها الموسيقى العربية، يقول نعناعة: “الموسيقى العربية في أزمة، فقد فقدت تجويدها وتدنى مستواها وفقدت أصالتها وهويتها المميزة بين موسيقى العالم، والسبب الأول يعود إلى الاقتباسات والإدخالات اللحنية والإيقاعية الجديدة التي دخلتها بشكل لا يتماشى مع جوهر الموسيقى العربية الأصيلة، بالإضافة إلى أن التأليف الموسيقي يكاد ينعدم، والآن نجد الشباب يخوضون التجارب الفنية بنقص مهول في المعرفة والثقافة الموسيقية العميقة، لذلك غدت موسيقانا لا ترتقي بالذائقة الفنية العربية، التي أصبحت تعتمد على المؤثرات البصرية في الكليبات”.
التشابه بسبب التأثر
أما المطرب والملحن العراقي بسام المهدي فقد أكد من جانبه أن هناك سرقة حقيقة للألحان الفنية متبادلة بين الجانبين التركي والعربي، لكن ألحانًا مشهورةً لعمالقة الفنانين أخذها أتراك من عرب هي الأكثر انتشارًا بعد التأكد من تواريخ إصدار الأغاني التركية والعربية، ويضيف: “قد يكون هناك مصادفة في بعض الأغاني وترجع هذه المصادفة إلى القرب المكاني والجغرافي والديني والثقافي بين البلدين وهذا يرجع إلى حقبة الحكم العثماني للدول العربية وتغلغلها في بلاد الشام والعراق ومصر مدة 400 عام، فمن الطبيعي وجود تشابه وتصادف في الألحان”.
يقول المهدي: “جمالية العمل ونجاحه والتكاليف البسيطة يدفعون الفنان لسرقة اللحن، ويتعمد الملحن استعمال جملة لحنية معينة منسوخة بلا تعب”
وعن المعايير الفنية في هذا الصدد، يقول المهدي: “نقل الملحن أكثر من أربعة مقاييس موسيقية كاملة متتالية تكوّن جملة أو نصف جملة موسيقية من لحن ودمجها في لحن آخر، يعد سرقة للملكية الفكرية، وهناك فنانون أتراك وملحنون يحبون الاستماع إلى الأغاني العربية الشجنة بشكل عام والعكس صحيح، وبلا وعي يلحن الملحن أغنية تكون متشابهة وقريبة للحن الأصلي سواء التركي أم العربي”.
ونوه أن كلمة سرقة لا تنطبق على الجمل اللحنية الموسيقية القصيرة، أو على التشابه والتأثر في الروح والأسلوب والمشاعر في الأغاني التركية والعربية.
وعن سبب سرقة الألحان الفنية يقول المهدي: “جمالية العمل ونجاحه والتكاليف البسيطة يدفعون الفنان لسرقة اللحن، ويتعمد الملحن استعمال جملة لحنية معينة منسوخة بلا تعب، ويمكن أن نقول عنه سارق ألحان، وهنا دور كاتب العدل في حماية الملكية الفكرية، أما إذا ألف لحنًا ثم تبين أنه يوجد لحن شبيه به في الأغاني التركية أو العربية، فهذا يعتبر توارد خواطر ومصادفة، وهو احتمال موجود بقوة بين الملحنين”.
أخيرًا، لا تعد حالة انتقال الألحان حكرًا على الحالتين العربية والتركية، بل هي ظاهرة عالمية، تزداد باضطراد بين الثقافات التي تتشابه في موسيقاها وتراثها الفني، كما يكثر استلهام الألحان من الثقافات المهيمنة عالميًا، ولا يوجد ما يجعل ظاهرة اقتباس الألحان -كأي عمل أدبي آخر- أمرًا خاطئًا إذا تمّ عبر الأصول، بل قد يدخل في إطار التبادل الثقافي المحمود والمطلوب بين الأمم والشعوب.