كوخ يتقاسمه الآباء والأبناء والأحفاد وبضع عنزات وأغنام ودجاجات، هذا حال عائلة تنتظر يوم الرحيل عن حي الصفيح، حيث يغرق الشباب في براثن التعليم المتدني والبطالة، ولا يمكن ليوم أن يمر دون أن تتلوث الأذن بالكلام النابي الذي يتفوه به السكارى والمنتشون بالمخدرات بل حتى الصاحين منهم لا يستحيون في ترديده بصوت مرتفع يخترق جدران الأكواخ الهشة ليصل إلى أسماع الأبناء وهم في حضرة الآباء، وقد يهرع أحد الأخوة الأكبر سنًا ليلقن ذلك الأرعن درسًا، لكن العائلة تحول دون أن يتحول ذلك إلى شجار تراق فيه الدماء.
100 ألف عائلة تسكن أكواخ الصفيح
ما يفوق مئة ألف عائلة مغربية لا تزال تسكن في أحياء الصفيح في عدد من مدن المملكة، والسبب هو فشل الحكومات المتعاقبة في انتشال عدد كبير من الأسر من الحياة في السكن غير اللائق، ولم تستفد إلى حدود اليوم من البرنامج الوطني “مدن دون صفيح” الذي أعلنته وزارة السكنى والتعمير منذ سنة 2004، حيث استهدف الفئات المعوزة وذات الدخل المحدود من خلال تدخلات عديدة للدولة، من بينها إعادة الإسكان من خلال الوحدات السكنية أو إعادة الإيواء من خلال البقع الأرضية أو إعادة الهيكلة عبر تحسين ظروف السكن بأحياء الصفيح التي يمكن إدماجها في المناطق الحضرية.
مع حلول الشتاء تشتد قسوة الحياة في وسط يفتقر لأبسط ظروف العيش الآدمي، في أكواخ مصنوعة من بقايا الصفيح والقصدير والبلاستيك، لا يستطيع سكانها الانتقال منها بسبب تدني مستوى عيشهم أمام جشع ملاك العقارات، في ظل تصاعد موجات النزوح من الأرياف نحو المدن بسبب استفحال البطالة، فلم يعد العمل في الحقول والأسواق الأسبوعية مدرًا للدخل، هذا فضلًا عن تردي خدمات الصحة والتعليم ما يدفع العائلات للهجرة إلى المدن من أجل توفير مستوى عيش أفضل لأبنائهم.
أمراض اجتماعية وأطماع انتخابية
لكن الصدمة أن ينتهي المطاف بهذه العائلات في بيئة ترتع فيها الأمراض الاجتماعية بين تطرف وغلو في الدين إلى انحلال أخلاقي، حيث تتفشى الجريمة وإدمان المخدرات والسرقة والعزوف عن الدراسة والبطالة، ومياه نتنة تجري وسط الأزقة وأزبال تجدها في كل مكان تنبعث رائحتها منذ دخول حي الصفيح الذي لا يتوافر على مراحيض وشبكة لتوزيع الكهرباء والماء الصالح للشرب.
هذه الأحياء الفقيرة تبقى هدفًا لأطماع انتخابية، إذ لا يتردد المسؤولون في الأحزاب السياسية بإطلاق وعود كاذبة من أجل استمالة أصوات هؤلاء الناس الذين لم يحصلوا على حقهم في السكن اللائق والتعليم الجيد والخدمة الصحية الأساسية، فيذهب المرشحون للانتخابات إلى شراء الذمم مستغلين فقر وحاجة هذه الفئة الواسعة من السكان، فهم بالنسبة لأحزاب السياسية ليسوا إلا أصوات انتخابية تساوي الكثير، يتذكرونها عندما يقترب موعد الاقتراع.
السكن اللائق هو حق من حقوق الإنسان، لكن ينظر إليه بشكل متزايد كسلعة، وهو ما يتنافى مع القانون الدولي، إذ بموجبه يحق للفرد الحصول على سكن لائق مع التمتع بضمان الحيازة، أي دون حاجة للقلق من حدوث إخلاء للفرد أو تجريده من بيته أو أرضه، ويحق له أيضًا أن يعيش في مكان متوافق مع ثقافته، وتوافر إمكانية وصوله إلى الخدمات والمدارس المناسبة والعمل الملائم.
كثيرًا ما تتعرض أحياء الصفيح الموجودة منذ فترة طويلة في أراضٍ ممتازة لعمليات إخلاء وترحيل بهدف تسهيل فرص الاستثمار القائم على المضاربة، وكثيرًا ما تُستبدل أكواخهم بمساكن فخمة تبقى شاغرة لفترة طويلة، ويجري ترحيل السكان إلى شقق ضيقة بهوامش المدن تفتقر إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، ولهذا السبب تجدهم يواجهون عمليات الإخلاء بالرفض، وقد يتطور ذلك إلى مواجهات عنيفة ضد قوات الأمن.
خلال صيف 2019، احتج سكان “دوار الكرعة” بالرباط على الحكم الذي أصدرته المحكمة، حيث قضت بإخلائهم جميعًا من حيهم الصفيحي، واعتبروه قاسيًا جائرًا ورفضوا بالتالي هدم أكواخهم التي يعود تشييدها إلى عهد الاستعمار الفرنسي في حين أن لديهم ما يثبت ملكيتهم لهذه الأراضي، رفعت ولاية الرباط دعوى قضائية ضد سكان الحي تتهمهم بالتعدي على أملاك الدولة، وأما البديل فيقع في منطقة خارج المدار الحضري، حيث تنعدم التجهيزات والمرافق الاجتماعية، فتدخلت قوات الأمن لإخلاء أربعة آلاف كوخ قسرًا، وواجههم أبناء الحي بالقوة ورشق بالحجارة فعلت أصوات البكاء والنحيب.
الاستعمار الفرنسي وبروز قرى العمال
خلال فترة الاستعمار، أطلق الفرنسيون على أحياء الصفيح كلمة (بيدونفيل Bidonville) للدلالة على البيوت المؤقتة التي بناها النازحون من الأرياف بالدار البيضاء التي تستقطب اليد العاملة، وفي التعبير المغربي الدارج يسمى حي الصفيح بـ”الكاريان” أو “الدوار”، حيث تتوطن على أراضي “المخزن” (الدولة) أو الأراضي الجماعية التي تمتد في وسط المدن وعلى هوامشها كذلك.
بعد استحواذ المعمرين على أجود الأراضي، فضلًا عن الظروف الطبيعية الصعبة، وجد الفلاحون أنفسهم مرغمين على النزوح من الأرياف ليتحولوا إلى أيدي عاملة بخسة لدى المستعمر، بالكاد كانوا يحصلون على ما يسدون به رمقهم ولم يكن في وسعهم استئجار شقق سكنية في الأحياء المجهزة بالمرافق الضرورية.
مدينة لا يسكنها إلا الموتى
كاريان سنطرال بالدار البيضاء
بين زحمة الأحداث التاريخية وتطور الصناعة في مدينة الدار البيضاء الأكثر استقطابًا للبسطاء، برزت قرى العمال وأشهر حي صفيحي بالبلاد اسمه “كاريان سنطرال Central” يقصد به “المركزي”، وسرعان ما سوف تنتشر أحياء صفيحية أخرى كـ”كاريان كارلوطي” و”كاريان شنيدر” و”كاريان اين امسيك”، جميعها ولدت من رحم مقالع الأحجار التي لجأ إليها المستعمر في بناء أول مشاريع إعمار المدينة التي خرجت من حالة دمار بعد غارة رهيبة دمرته البحرية الفرنسية عن آخرها في أغسطس/غشت 1907.
بطاقة بريدية تظهر البارجة الفرنسية المجد (Gloire) في قصف الدار البيضاء المغربية عام 1907
كان من قدر المدينة أن تكون بوابة الغزو العسكري الفرنسي في المغرب، بالنظر للمزايا الاقتصادية والإستراتيجية للحملة المرتقبة على المستعمرة الجديدة، أي المغرب، حتى تكتمل رقعة احتلال فرنسا في شمال إفريقيا، وتحولت الدار البيضاء إلى مدينة لا يسكنها إلا الموتى.
فوارق اجتماعية بين مواطني الدولة الواحدة
مع حلول 2020، تأمل الحكومة المغربية أن تقضي نهائيًا على دور الصفيح واكتمال المخطط الذي أُطلق قبل عقد ونصف، حيث يرمي إلى تحسين ظروف عيش أكثر من مليون و800 ألف شخص في 85 مدينة تتوسطها أحياء صفيحية بدعم من الدولة، هذا وتبوأت البلاد المركز الأول في مجال محاربة مدن الصفيح، وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية لسنة 2015، حيث أشاد بالتجربة المغربية واعتبرها تجربة رائدة تستجيب للأهداف الإنمائية للألفية التي وضعتها الأمم المتحدة لمحاربة الفقر والهشاشة.
أزمة السكن غير اللائق متجذرة في أزمة الفوارق الاجتماعية، فلم يعد هناك مجال لتقديم الذرائع والتبريرات بشأن إرساء عدالة الحق في السكن، فهي لن تفيد في شيء أولئك الذين ينامون على أرصفة الشوارع وتحت الجسور، أو الفئات التي تعيش في ظروف غير مقبولة وتفرض ضدهم إجراءات الإخلاء القسري، فالحكومة ملزمة أولًا بالخضوع للمساءلة أمام أصحاب الحقوق لأنها تكرس التدرج الهرمي لحقوق الإنسان بين مواطني الدولة الواحدة.