يترقب العالم على أحر من الجمر، مولود ديمقراطيًا جديدًا في المنطقة، طال انتظاره نحو نصف قرن، واكتفى بهم الصومال، ليعلن عبر مفوضية انتخاباته العليا، أن العام بعد المقبل هو بداية بعث الديمقراطية من جديد، وإجراء أول انتخابات عامة تعيد للبلاد سيرتها الأولى التي بدأتها عام 1967، قبل أن تلوثها انقلابات عسكرية حولت الصومال إلى واحة للاستبداد والخراب.
بدأ الصومال تجربة رائدة للديمقراطية في المنطقة، بعد استقلال الجنوب عن الاحتلال الإيطالي، والشمال عن الاحتلال البريطاني عام 1960، وسريعًا تم توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة، وترأس آدم عبدلي عثمان رئاسة البلاد، وكان الرجل له رأيًا آخر، يخالف التحول الخطير الذي انحرف بالمنطقة، بعد زوال الاحتلال من معظم الدول الإفريقية، وأوقعها بين مخالب العسكريين الذين أسسوا ديكتاتوريات عسكرية، لم تكن أفضل حالًا من الاستعمار، إن لم تكن أسوأ بمراحل.
جهز عبدلي بلاده خلال سبع سنوات، لأول انتخابات ديمقراطية تعددية، وتنافس هو نفسه على رئاسة الجمهورية، ضد رئيس وزرائه السابق عبد الرشيد علي شرماركي، وكانت بالنزاهة والشفافية والحيادية التي مكنت شرماكي من التفوق واقتناص المنصب، وقبل عبدلي المهزوم بالنتيجة وأقر بها، ليصبح أول رئيس إفريقي، يسلم السلطة لخلفه دون اعتراضات مما أدخله التاريخ من أوسع أبوابه، بوصفه أول رئيس دولة في إفريقيا، يسلم السلطة سلميًا إلى خلفه المنتخب ديمقراطيًا دون أزمات أو صراعات مسلحة.
تحول الصومال إلى نظام ديكتاتوري استبدادي، وكان من الطبيعي أن تظهر الحركات المسلحة، بعد إلغاء الدستور، ورهن السلطة بيد رجل واحد، وضع كل معارضيه في السجون
في 1 من أكتوبر عام 1969، أنهى القائد العسكري محمد سياد بري، هذه المسيرة المثالية، وقام بانقلاب متكامل الأركان على البذرة الديمقراطية التي كانت نواة لبناء دولة مدنية حديثة قادرة على خوض التحديات والعبور بالصومال إلى بر الأمان، واستخدم بري أخطاء الديمقراطية وحالة الارتباك التي سادت مؤسسات الدولة، بعد اغتيال الرئيس شارماركي ـ على يد شرطي ـ وهو أمر طبيعي في أولى مراحل نشأة الديمقراطية، كذريعة لوأد التجربة واغتيال حلم الدولة المدنية الحديثة.
تحول الصومال إلى نظام ديكتاتوري استبدادي، وكان من الطبيعي أن تظهر الحركات المسلحة بعد إلغاء الدستور ورهن السلطة بيد رجل واحد، وضع كل معارضيه في السجون، حتى أصبح عددهم أكثر من الجنائيين، وأدخل الصومال في دوامة سياسية عاصفة استمرت مدة عشرين عامًا، وانتهت بحروب وصراعات مدمرة ومريرة.
القبضة القوية على البلاد، أدت إلى نتائج عكسية تمامًا، وعاد المجتمع الصومالي إلى إرث القبلية القديم، واستمرت المشاحنات بين القبائل، حتى انفجر الوضع عسكريًا عام 1991، وشهدت البلاد حربًا أهلية عشائرية، انهارت معها الدولة ومؤسسات الحكم، وهاجرت شرائح كبيرة من الشعب إلى البلدان الغربية.
من مصائب التهجير والعنف والتشرذم، ولد غد مختلف، حيث أصبح معايشة الأجيال الصومالية الشابة للتمدن والحداثة في الغرب، المدخل لتشكيل نخب جديدة، تحافظ على إرث الديمقراطية، الذي دمر عمدًا، وحاولت جاهدة إحياء صومال مختلف، يتمرد على ديكتاتورية وعشائرية، أبطلت دائمًا مسار التنمية والاستقرار في البلاد، ونجحت حالة الحراك في إجبار الحكومة الحاليّة على الاحتكام للديمقراطية، لتفتح معها هواجس كبيرة عن إشكاليات التعددية وجاهزية المجتمع والنخب والأحزاب، وهل هؤلاء على قدر من المسؤولية والنضج لإقامة مجتمع مفتوح بأسس مختلفة، أم ستجهز العشائرية والقبلية والصراعات على ما تبقى من الوطن!
لا تكونوا مثل الصوماليين
على مدار عقود، كان الصومال يستخدم لتخويف الشارع في المنطقة العربية، عند ذكر أي تشرذم سياسي أو اجتماعي، وكانت عبارة لا تكونوا مثل الصوماليين تقفز سريعًا على المنضدة، فالفساد في الأرض والمجاعة والنزاع في الحكم حتى الحرب وتدمير البلدان، كلها فزاعات خُلقت في الوعي العام لأبناء المنطقة، عن الساسة الصوماليين.
يقول حسن عبد الله الكاتب والباحث الصومالي، إن تأسيس دولة دون السير قبلها في مصالحة اجتماعية، بين متنافسين على الحكم والنفوذ، وارتكبوا في سبيل ذلك كل الشرور، هي دولة ليس لها جذور، بل دولة ثعالب ودم وبارود، وهو السبب في شيوع هذه النظرة عن الصومال في بلدان العالم وليس المنطقة وحدها.
القانون الذي مرر تحت ضغط من قوى المعارضة، تواجهه موجات متزايد من السخط والاستياء، وخاصة الأحزاب السياسية، التي تراه يعطي فرصة أكبر ومجالًا أوسع للحكومة الصومالية الفيدرالية
يحكي الباحث عن نبتة الساسة التي واكبت انقلاب “بري” وما بعده، فالساسة رجال ينازعون الحكم بلا مبدأ، ويقاتلون من أجل المنصب بلا إستراتيجية، ولا يعرفون التنازل والتسامح مع بعضهم البعض، لذا ظل التوجه السياسي بكل أطرافه، يساهم في تعظيم التفكك ويرسخ لقبلية سياسية حائرة، لا تعرف أين مصالحها وكيف تحصل عليها من الدولة أم المعارضة.
بعد أزمة التسعينيات، والدورس التي وعيها الجميع، تغير الصومال كثيرًا، وأصبح يشهد الكثير من الوعي السياسي، مقارنة بدول كبيرة في المنطقة، ويمكن استشراف ذلك من الاستقبال البارد، لإعلان الحكومة الصومالية الحاليّة، في مايو الماضي، قانون الانتخابات الذي سيُعرض على البرلمان بغرفتيه الشعب والشيوخ، لمناقشته والمصادقة عليه، ليدخل حيز التنفيذ، بعد توقيعه من الرئيس محمد عبد الله فرماجو، رغم أنه سابقة لم تحدث في البلاد منذ خمسة عقود.
القانون الذي مرر تحت ضغط من قوى المعارضة، تواجهه موجات متزايد من السخط والاستياء، وخاصة الأحزاب السياسية التي تراه يعطي فرصة أكبر ومجالًا أوسع للحكومة الصومالية الفيدرالية، في تمديد فترتها لمدة عام أو عامين على الأقل، ما قد يمكنها من قلب الطاولة والانقلاب على نظام التداول السلمي للسلطة الذي عرفه الصومال في عقده الأخير، ولهذا السبب أعلنت أربع ولايات فيدرالية، هي: بونتلاند وجلمدغ وهرشبيلي وجوبالاند، مقاطعتها للانتخابات القادمة في بيانات منفصلة، إذا تمسكت الحكومة بهذا القانون.
القانون يتكون من سبعة فصول ولا يمنح حقوقًا متساوية للأحزاب السياسية التي ستترشح لخوض غمار الانتخابات، ويعطي الأولوية بشكل مريب للحزب السياسي المتوقع تشكيله من الرئاسة الحاليّة، كما يتضمن بنودًا غامضة بها الكثير من اللبس والجمود، وخاصة فترة حكم الرئيس وإمكانية تأجيل الانتخابات حال حدوث ظروف قاهرة ـ لم تحدد ـ والإصرار على نظام الدائرة الانتخابية الواحدة التي تعطي سلطة مطلقة للجنة المنظمة للانتخابات، وتجعلها صاحبة يد باطشة دون رقيب.
خريطة الأحزاب السياسية.. من الأجدر والأكثر جاهزية؟
يتصدر خريطة الأحزاب السياسية، حزب الاتّحاد من أجل السلام والتنمية، ويترأسه الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود، وسينافس بشدة على تحقيق فوز في انتخابات 2021، خاصة أنه من أشد الأحزاب السياسية معارضة للنظام القائم، وينتمي إليه مسؤولون سابقون ونواب في البرلمان بغرفتيه الشيوخ والشعب، وعلى رأسهم أبشر بخاري، النائب الأول لرئيس مجلس الشيوخ، ووزير الداخلية االسابق عبدالرحمن أوذواي، ويتمتع “الاتحاد” بعلاقات داخلية وخارجية قوية، وخاصة مع تركيا التي تعدّ حليفًا إستراتيجيًا للصومال في هذه المرحلة.
أما حزب هميلو قرن، فيتزعمه أيضًا الرئيس الصومالي الأسبق، شريف شيخ أحمد، وكان ينتهج سياسة معتدلة، لذا اتهم دائمًا بالتعاون حد التواطؤ مع الحكومة الحاليّة، ولكن التضييق على رئيسه ومنعه من السفر خارج البلاد، أجبره على تغيير سياسته، وأصبح يتزعم ويستضيف في مقره اجتماعات الأحزاب المعارضة، للتشاور بشأن الأوضاع العامة في البلاد.
لا يقف في صدر المعارضة ودجر حده، بل ينازعه الزعامة حزب إليس الذي يترأسه النائب عبد القار علي عسبلي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفيدرالي
ويحظى هذا الحزب بدعم جماهيري ملحوظ، لا سيما أن شريف شيخ أحمد، كان رئيسًا للمحاكم الإسلامية، كما رأس حزب إعادة تحرير الصومال المناهض للوجود الإثيوبي في الصومال، وتولى رئاسة الجمهورية في الفترة بين 2009 إلى 2012.
ويظهر في الصورة أيضًا حزب ودجر ويتزعمه السياسي الشهير عبد الرحمن عبد الشكور، المرشح الرئاسي السابق لانتخابات 2017، ووزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في عهد رئاسة شريف شيخ أحمد، وودجر من أشد الأحزاب السياسية انتقادًا للحكومة وحلفائها، ويسعى إلى تحقيق فوز في انتخابات 2021.
ولا يقف في صدر المعارضة ودجر حده، بل ينازعه الزعامة حزب إليس الذي يترأسه النائب عبد القار علي عسبلي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفيدرالي، ويعرف عن الحزب حضوره القوي في معظم الاجتماعات المشتركة للأحزاب السياسية المعارضة.
وينافس الأحزاب السياسية تيار المستقلون، وربما يلاقي هذا التيار قبولًا كبيرًا داخل المجتمع الصومالي، بسبب انفصاله عن الأحزاب وارتباطاته القوية بالقيادات الاجتماعية ونقابات رجال الأعمال، وعلى رأسهم طاهر جيلي، وزير الإعلام السابق، وهؤلاء يملكون حظوظًا قوية في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة، بحكم عدم نيل أي منهم للمنصب من قبل كما هو الحال في زعماء الأحزاب السياسية الحاليّين، بجانب علاقاتهم القوية داخل مراكز صنع القرار في البلاد.
أجندة المعارضة.. الشعارات السياسية تكفي
تضع قوى المعارضة كل ثقلها في تبني شعارات سياسية جافة، تعري إخفاقات وفشل الرئيس فرماجو، في إدارة البلاد وتكشف فشله في عقد مصالحات داخلية بين الجميع، ولكنهم لا يتعرضون غالبًا للقضايا الاجتماعية، ما يعرضهم في المقابل لانتقادات شرسة من الشارع السوداني الذي يعتبرهم حاملي أجندات خاصة، لا تتجاوز تحقيق شهوات للسلطة والمال.
ولم يعرف عن الأحزاب والقوى السياسية الصومالية خلال العقود الماضية، أي مشاريع سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية بديلة، تخدم المواطن العادي، وقد لا يحتل قيمة كبيرة لديهم، خاصة أن الكثير من رموز وقيادات المعارضة، يعرفون أن الطريق إلى القصر الرئاسي في مقديشو، لا يمر عبر المواطن العادي، فهو ليس مصدر السلطات، وتجاربهم السياسية خلال السنوات الماضية تؤكد أنه كان لا ناقة له ولاجمل في شؤون السياسية.
ولكن نقطة الضوء الوحيدة في المشهد، هي الشعارات السياسية التي ترفعها الأحزاب ويرفضها الشارع أو يزايد عليها، فهي تصلح لبناء مشروعات تقدمية عليها، فالمصالحة وتقاسم السلطة والثروة، دون إقصاء لأحد والابتعاد عن الانجرار نحو الحرب واللجوء إلى العنف في حسم الخلافات، كلها مقدمات تشير إلى امتلاك الممارسة السياسية نوعًا من النضج، رغم البيئة غير الصالحة التي نشأت فيها.
كما يعد امتلاك المعارضة الصومالية، علاقات قوية مع مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، إقرارًا بدورها الذي يناهض الشمولية والاستبداد ويعزز من إقامة دولة المؤسسات.