“منجلي يا منجلاه راح للصايغ جلاه.. منجلي يا أبو خراخش ياللي في الزرع طافش.. منجلي يا أبو رزه ياللي شريتك من غزة.. وش جابك بلد غزة.. جابني حب البنات والخدود الناعمات.. والعيون السود لو والحواجب مقرنات”.. في مواسم الحصاد والحراثة، اعتاد المزارعون الفلسطينيون ترديد هذه الأهزوجة الشعبية وغيرها من الأغاني ذات الطابع القروي الأصيل كنوع من الاحتفال بمحاصيلهم ومنتجاتهم الزراعية.
ولكن في السنوات الأخيرة، غابت هذه الأجواء الاحتفالية عن حقول المزارعين، تحديدًا في قطاع غزة، وسادت بدلًا عنها مشاعر الإحباط والاستياء بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية واعتداءات الاحتلال المباشرة والمستمرة لهم، مما أثر بشكل ملحوظ على المساحات الزراعية وألحق الضرر بالبيئة والصحة العامة، إذ لم تقف أطماع المحتل الإسرائيلي عند الاستيطان والاستيلاء، بل تجاوزت حد التخريب، المقصود والممنهج، لخصوبة التربة.
مصادرة الأراضي
كشفت وزارة الزراعة، أن المساحة الزراعية المتاحة بقطاع غزة تبلغ نحو 173 ألف دونم، منها 82 ألف دونم مزروعة بالخضروات، و71 ألف و400 دونم مزروعة بالفاكهة، ويساهم القطاع الزراعي في غزة بنسبة 4.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الذي بلغ العام الماضي 2.731 مليار دولار. كما تتنوع منتجاتها بين التوت الأرضي وبندورة وخيار وكوسا وملفوف وزهرة وبطاطا والبصل والشمام والجزر والثوم والبطيخ وغيرها من المزروعات.
ذكر مركز حقوقي فلسطيني أن القوات الإسرائيلية جرفت منذ عام 2000، ما نسبته 35% من مساحة الأراضي المزروعة في قطاع غزة، كما أشار مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أن “قوات الاحتلال عمدت منذ مطلع انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول من العام 2000، إلى فرض منطقة مقيدة الوصول لها (منطقة عازلة) قرب الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة”، وتحديدًا على بعد 1000 متر من خط الهدنة، حيثما تقع أكثر من ثلث مزاع غزة في تلك المنطقة.
كما أوضح المركز أن القوات الإسرائيلية تستهدف المزارعين والعاملين في المنشآت الزراعية بإطلاق النار والاعتقالات، ما يؤثر على سيرورة العمل والإنتاج. وعلى الرغم من أن القطاع الزراعي يمثل نسبة قليلة من الاقتصاد الفلسطيني، بنسبة تتراوح ما بين 7 إلى 8%، إلا أن المنتجات الزراعية تمثل 85% من صادرات القطاع، ويعمل ما لا يقل عن 30 ألف من سكان غزة في الزراعة، بشكل رسمي، عدا عن العاملين غير الرسميين والموسميين.
ما يعني، أن التهديدات التي يواجهها هذا القطاع حاليًا، قد تتسبب بتفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية في القطاع. فوفقًا لبيانات البنك الدولي، يتلقى حوالي 80% من سكان غزة نوعًا من المساعدات الاجتماعية، وحوالي 40% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وتبلغ كذلك نسبة البطالة حوالي 60%، وهي من أعلى معدلات البطالة في العالم. وذلك بحسب تقرير صدر عام 2014، أي أنه من المؤكد أن هذه الأرقام لم تصور الواقع بحقيقته، لأنه منذ ذاك الوقت ازدادت أحوال سكان المدينة بؤسًا، والأسوأ، أنها قابلة للارتفاع أكثر بفعل جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
تخريب طبيعة الزراعة: تدمير النباتات
العام الماضي، أجرت صحيفة “هآرتس” العربية رصدًا حول سرقة الاحتلال الإسرائيلي آلاف الأطنان من التربة الطينية الصالحة للزراعة في مواقع عديدة من الضفة الغربية، الأمر الذي يؤثر على خصوبة التربة ويهدد بفقدان دونمات زراعية شاسعة من السهول الفلسطينية، بهدف استخدامها في إنشاء الحدائق والدفيئات الزراعية والبنى التحتية داخل المستوطنات والتجمعات الإسرائيلية.
أما في قطاع غزة، اتبعت سلطات الاحتلال وسائل تدميرية حقيقية مثل إسقاط الطائرات الإسرائيلية مبيدات كيماوية على المحاصيل الزراعية على حدود السياج، وبفعل الرياح تصل هذه المبيدات إلى المحاصيل وتدمرها. فوفقًا للمتحدث باسم وزارة الزراعة في غزة، أدهم البسيوني، فإن أكثر من 1500 دونم (أكثر من 357 فداًنا) من الأراضي الزراعية تتأثر سنويًا بسبب المبيدات الكيماوية.
وبحسب رأيه، تتعمد “إسرائيل” بهذه الطريقة إجبار المزارعين الفلسطينيين على ترك أراضيهم وجعل السوق الفلسطيني يعتمد على المنتجات الزراعية الإسرائيلية، ولكن جيش الاحتلال يدعي بأنه يستخدمها “لتطهير الغطاء النباتي في المنطقة الفاصلة على الشريط الحدودي مع غزة للحصول على رؤية واضحة لأسباب أمنية”. خاصةً أن طائرات الرش تعمل خلال أهم المواسم الزراعية في كل عام، ولا سيما حين يكون اتجاه الريح من الغرب إلى الشرق، ما يسمح للمبيدات الكيماوية بالوصول إلى عمق 300 متر داخل الأراضي الزراعية في غزة.
بلغت مساحة الأراضي الزراعية المتضررة من المبيدات حوالي 7268 دونم. عدا عن الخسائر الاقتصادية والمالية التي تلحق بالمزارعين الفلسطينيين في القطاع.
وبطبيعة الحال، فإن تأثير هذه المبيدات مؤذ جدًا بسبب محدودية مساحة الأراضي الزراعية في غزة، كما لا يمكن تجنبها أو حماية المحاصيل منها لأن عمليات الرش تحدث دون سابق إنذار وباستمرار، إذ رشت طائرات الاحتلال الإسرائيلية مبيدات للأعشاب أكثر من 30 مرة على مدى 5 سنوات.
بعد تحليل المزروعات، من قبل منظمة “فورنسيك أركيتكتشر”، منظمة بحثية تجري تحقيقات في انتهاكات الدول، وجدت أن تركيز المواد الكيماوية يزيد عما تحدده معايير الاتحاد الأوروبي وتصيب المحاصيل بأضرارٍ كبيرة، حيث بلغت مساحة الأراضي الزراعية المتضررة من المبيدات حوالي 7268 دونم، عدا عن الخسائر الاقتصادية والمالية التي تلحق بالمزارعين الفلسطينيين في القطاع.
تبين أيضًا أن “الأوكسيجال”، و”يوربكس”، “جليفوسات” هي من المواد المستخدمة لتدمير النباتات ومنع نموها، وهي مواد سامة وبعضها مسرطنة، وتقدر فترة بقائها بالتربة بحوالي 60-80 يومًا، إذ يصل رذاذ رش المبيدات إلى عمق يتراوح بين 700 و1200 متر، وتحدث بشكل فجائي وعلى ارتفاعات منخفضة تبلغ 20 متر فوق سطح الأرض.
تسميم التربة
في جولة التصعيد العسكري الأخيرة على قطاع غزة، استهدفت طيران الاحتلال الإسرائيلي المنشآت الزراعية بكثافة واضحة، حيث أسقطت حوالي 100 غارة على الأراضي الزراعية وتسببت بخسائر مادية قدرها 600 ألف دولار أمريكي. وفي عملية تحليل لمكونات الصواريخ والقذائف، عُثِر على مواد مشعة محرمة دوليًا (الكروم، والكوبالت، والزنك، والرصاص)، وكيميائية تغير خواص التربة وتقتل العناصر الحيوية المفيدة فيها، مما أدى إلى قتل الحياة في التربة وفساد 120 ألف دونم زراعي.
لاحظ المزارعون نفس التغيرات على التربة عقب عدوان عام 2014، حين تسببت عمليات القصف المتكررة في تصحر 50 ألف دونم، وحدوث 7473 حفرة في المناطق الزراعية، مع فقدان كامل لأي احتمال بنمو النباتات على هذه الأراضي مجددًا.
بعيدًا عن الأنظمة التقليدية، حاول الغزيون تجاوز هذه المشكلات بطرق مبتكرة، وتمثّل أحد الحلول بالزراعة المائية التي يعتمد مبدأها على تغذية جذور النباتات على محاليل عضوية طبيعية داخل أحواض ممتلئة بالماء، وتبقى في الوقت نفسه، تتحرك على مدار الساعة بواسطة مجسات خاصة لتوفير الأكسجين اللازم لتنفس الجذور.
كما يحتوي الماء على عناصر غذائية مثل النيتروجين والأكسجين والكبريت والكالسيوم والبوتاسيوم، ويخلو من أي مبيدات حشرية أو مواد كيماوية. وبهذا الأسلوب يستطيع المزارعون إنتاج 10 أضعاف النظام الاعتيادي في التربة، لكن العائق الوحيد الذي يقف في طريقها هو مشكلة انقطاع الكهرباء لساعات متواصلة لأن عملية الضخ مرتبطة بتوفر التيار الكهربائي، ولكن بالرغم من صعوبة الوضع، لجأوا أيضًا إلى الخلايا الشمية وتشغيل مولدات الديزل.
نهايةً، تأتي هذه الأوضاع ضمن سياسات الاحتلال الإسرائيلي في تضييق الخناق على سكان قطاع غزة وتعقيد ظروفهم المعيشية وسد كل منافذ الحياة على جميع الأصعدة الممكنة، بطريقة ممنهجة وبمبررات فارغة.