كشفت محاكمة رموز نظام الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة التي تجري بمحكمة سيدي أمحمد وسط العاصمة الجزائر عن فساد بمئات الملايين للزمرة الحاكمة، ومن تحالف معها من رجال أعمال حصلوا وعائلاتهم على قروض ضخمة من بنوط حطومية، وبطرق غير قانونية.
وتفاجأ الجزائريون بالأرقام المذهلة التي ساءل القاضي لخضر شعاشعية حولها المتهمين من مسؤولين في قضايا مصانع تركيب السيارات والدعم الخفي للحملة الانتخابية للرئيس السابق واستغلال النفوذ المتهم فيها وزيرين أولين سابقين ووزراء سابقون ورجال أعمال.
اهتمام واسع
بعد تأجيلها الإثنين الماضي بطلب من هيئة الدفاع، انطلقت أخيرا الأربعاء أولى محاكمات نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والمتابع فيها كل من الوزيرين الأولين الأسبقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، ووزراء الصناعة والمناجم، يوسف يوسفي ومحجوب بدة وعبد السلام بوشوارب الموجود خارج البلاد أو بالأحرى في حالة فرار ببلد أوروبي يرجح أنها فرنسا.
واستمع القاضي وسيستمع لرجال أعمال هم محمد بايري، ومصطفى معزوز، وحسان العرباوي، ومراد عولمي، ومحيي الدين طحكوت،وعلي حداد، إضافة إلى عدة مسؤولين بوزارة الصناعة.
تصدر وسم #محاكمة_العصابة ترند الجزائر لساعات أمس، وعبر الجزائريون عن دهشتهم من حجم الأرقام التي تحدث عنها المستجوبون من مسؤولين سابقين
ولقيت هذه المحاكمة متابعة واسعة من طرف الجزائريين، فقد توافدوا بكثرة إلى المحاكمة لحضور الجلسات العلنية للمحاكمة، ما أدى إلى تأجيلها الاثنين، قبل أن يقرر القاضي منع المواطنين من دخول قاعة المحاكمة ووضع شاشة في بهو المحكمة لمتابعة أطوار الحدث، واقتصر الحضور في الجلسة على الصحافة والمحامون المؤسسون كهيئة دفاع.
وبالقدر نفسه من الاهتمام الذي لقيته المحاكمة في وسط العاصمة، كان الأمر نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تصدر وسم #محاكمة_العصابة ترند الجزائر لساعات أمس، وعبر الجزائريون عن دهشتهم من حجم الأرقام التي تحدث عنها المستجوبون من مسؤولين سابقين.
فساد بالملايين
استهل القاضي هذه المحاكمة التي شدت إليها الداخل والخارج باستجواب الوزير الأول الأسبق, أحمد أويحيى الذي ترأس عدة حكومات في عهد بوتفليقة، موجها له جملة من الأسئلة تتعلق أساسا بأسباب ودوافع اختيار متعاملين معينين دون سواهم في قضية تركيب السيارات واعتماده المحاباة والوساطة في ذلك، غير أن الوزير الأول المتهم والموجود رهن الحبس الاحتياطي بسجن الحراش أنكر أن يكون قد اعتمد المحاباة في منح الصفقات الخاصة بمصانع تركيب السيارات أو ارتكب مخالفة استغلال الوظيفة.
ووجه القاضي لأويحيى جنحة المنح العمدي لامتيازات للغير، مشيرًا أن الوزير الأول الأسبق بعث بتاريخ 14 كانون الأول ديسمبر 2017، مراسلة لوزراء الصناعة والتجارة والمالية لتحديد قائمة 89 متعاملًا الذين لهم الحق في تركيب السيارات، إلا أن القائمة تم تقليصها بعد أن تم اختيار 5 متعاملين فقط، وهو ما اعتبره القاضي محاباة.
غير أن أوي أويحيى نفى هذه التهمة، زاعمًا أن ذلك جاء تفاديًا لعدم التسبب في ضرر للخزينة العمومية، مضيفًا أنه تدخل بعدها لحل طلبات بعض المتعاملين، لكن القاضي اتهمه بتقديم تسهيلات خاصة لرجل الأعمال عرباوي دون غيره.
وكشف القاضي بعد توجيه جملة من الأسئلة والاتهامات لأويحيى، أن هذا الأخير منح امتيازات غير قانونية كلفت الدولة حسائر بـ 11 مليار سنتيم.
وأشار القاضي إلى أن قرارات الإعفاء الضريبي التي منحت وقت أويحيى كلفت هي الأخرى خزينة الدولة 177 مليار دينار ( قرابة 1.5 مليار دولار.)
ووجه القاضي لأويحيى أيضا تهمة التصريح الكاذب للممتلكات كونه يملك 3 حسابات بنكية لم يصرح بها، مذكرًا إياه أنه اعترف أمام المستشار المحقق للمحكمة العليا بأن هذه الأموال هي عبارة عن هدايا من أصدقاء، إضافة إلى اكتشاف حساب لزوجته فيه رصيد يصل الى 16 مليار سنتيم.
أظهرت التحقيق مع وزير الصناعة والمناجم السابق يوسف يوسفي أن تمديد ومنح صفقات لا تطابق دفتر الشروط قد كلف الخزينة 110 مليار دينار
ولم تكن الأسئلة الموجهة للوزير الأول الثاني المستجوب في هذه القضية عبد المالك سلال أقل وطئا من حيث المبالغ التي تم التلاعب بها، فقد كبدت الإعفاءات غير القانونية لمركبي السيارات التي تمت خلال ترأسه الجهاز التنفيذي خسائر بـ24 مليار دينار.
كما تبين أن سلال أشرك ابنه فارس ذا 23 سنة مساهما مع رجل الأعمال معزوز الذي كان يعمل على اقامة مصنع لعلامة “كيا”.
وأظهرت التحقيق مع وزير الصناعة والمناجم السابق يوسف يوسفي أن تمديد ومنح صفقات لا تطابق دفتر الشروط قد كلف الخزينة 110 مليار دينار.
وكشفت المساءلات أنه تم رصد الملايين من الدينارات لتمويل حملة الولاية الخامسة للرئيس السابق، التي كان رجل الأعمال علي حداد الموجود هو الآخر رهبن الحبس الاحتياطي يقوم بجمعها من لدن رجال الأعمال والمؤسسات التي أعلنت دعمها للرئيس السابق.
وأظهرت الجلسة الأولى والثانية من المحاكمة مدى تزاوج المال بالسياسة من قبل نظام بوتفليقة دون الاهتمام بالخسائر التي تكبدها هذا التحالف للخزينة العمومية للدولة، أو تعطيل مصالح الجزائريين من تنمية وتوظيف لأن كل شيء كان مباحا من أجل السماح لمجموعة بالاستئثار بخيرات البلاد.
مصير الأموال
بالرغم من أن هذه المحاكمة أفرحت الكثير من الجزائريين خاصة أولئك المؤيدين للقرارات المتخذة من طرف السلطة الحالية، كون الأرقام التي كشفت خلال الجلسات القضائية تؤكد ما نبه إليه قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صارح سابقًا، والذي أشار إلى أن حجم الفساد زمن من يسميهم بـ “العصابة” كان كبيرًا، إلا أن المهم بالنسبة لكثيرين هو كيفية استرجاع الأموال التي نهبوها لجعلها تعطى لمستحقيها الحقيقيين.
ودعا الجميع إلى العمل على استرجاع الأموال المنهوبة، خاصة إذا كانت في داخل الجزائر، حتى ولو كان باللجوء إلى التسوية المالية التي طبقت في عديد الدول والمتمثلة في تعاون المتهم مع السلطات شريطة إرجاع الملايين التي نهبوها مقابل الإفراج عنهم أو تخفيف الحكم والاستفادة من بعض المزايا العقابية.
أن ما كشفته أولى محاكمات نظام الرئيس الجزائري السابق ما هي إلا حلقة أولى في مسلسل طويل من الفساد
ولا يتضمن القانون الجزائري هذه الإجراء، ما جعل البعض ينادي بتحديث القانون غير أن آخرين يطالبون بتطبيق أشد وبعقوبات أكبر على مرتكبي هذا الفعل الشنيع التي تصل حتى الإعدام، على مرأى الجميع.
ويقول المحامي نجيب بيطام إن أحد رجال الأعمال المحبوسين في سجن الحراش، قد أكد لهيئة دفاعه أنه مستعد للتعاون مع السلطات وتسوية وضعه المالي أمام السلطان مقابل الاستفادة من حريته التي قد تكون ممكنة في حال تم سن قوانين في هذا الإطار.
والأكيد أن ما كشفته أولى محاكمات نظام الرئيس الجزائري السابق ما هي إلا حلقة أولى في مسلسل طويل من الفساد، ستظهر الأيام المقبلة منه ضخامة النهب الذي قام به هؤلاء الذين لم يتركوا أي مجال إلا وملؤوه بقذارة خبثهم، من أجل غاية وحيدة هي سرقة أموال الشعب الذي طبقوا عليه خطط تقشف الواحدة تلو الأخرى، ووصل بهم الأمر حتى استكثار أكله علبة قشطة.