في عهد سليم الأول دخلت مدينتي الموصل للحكم العثماني مع مدن ماردين وأورفة والرقة وسنجار وحصن كيفا والعمادية وجزيرة ابن عمر، بعد المعركة الشهيرة جالديران 1514م التي انتصر فيها العثمانيون على الصفويين بقيادة شاه اسماعيل الصفوي وانهى السلطان سليم بذلك طموح التوسع الصفوي تجاه غرب إيران.
لذلك كنت معنيًا بقراءة سيرة حياة ذلك السلطان الذي أثر بشكل كبيرة في خريطة العالم وشكل المنطقة التي نعيش فيها اليوم، لا يمكن حصر حياة أحد أبرز سلاطين آل عثمان في مقال، لكنني سوف أحاول تسليط الضوء على أبرز التفاصيل التاريخية في حياة السلطان التاسع في سلسلة سلاطين آل عثمان الذي حكم من غرب إيران إلى وسط أوروبا والجزائر ومن جورجيا وصولاً لجنوب مصر.
سليم الأول الأمير الإنكشاري
كعادة السلاطين العثمانيين قام السلطان بايزيد بن محمد الفاتح بتعيين أولاده الثلاثة “أحمد، قرقود، سليم” حكامًا على الولايات الخاضعة للدولة العثمانية، ومنحت ولاية طرابزون “شمال شرق تركيا” الأمير سليم الذي لم يكن يتجاوز الحادي عشرة من العمر وبقي حاكمًا لها لمدة 29 عامًا.
خلالها برز دور الأمير الشاب في الحرب فتمكن من تطوير الجيش الانكشاري من ناحية التسليح والتدريب خلال ولايته، وحقق انتصارات في الشرق الجورجي وتوسعة رقعة السلطنة العثمانية شرقًا، وأثبت ميله للاهتمام بالحروب الأمر الذي جعله مرشح الانكشارية لتولي حكم السلطنة بدلاً من اخوته أحمد وقرقود اللذان لم تكن تربطهما علاقات جيدة بالانكشارية ولم يكن لديهم ميول عسكرية واضحة كما كانت لدى سليم.
قصيدة السلطان سليم “هلمّوا يا قدامى المحاربين” التي أصبحت نشيد الجيش العثماني
كان الأمير قرقود مولعًا بالفنون والأدب غير مهتم بالحروب والعسكر، فيما كان الأمير أحمد مرشح القصر وتربطه علاقات وثيقة مع الصفويين على عكس الأمير سليم الذي أثبت عداوته مع الصفويين الذين دعموا أخاه احمد للوصول للحكم، الأمر الذي خشيه الانكشارية، كون تعاظم الدولة الصفوية الجديدة كان بمثابة تهديد حقيقي لاستمرار الدولة العثمانية واستقلاليتها على أقل تقدير.
كل هذا ساعد سليم في أن يكون مرشح الانكشارية الأوحد ودعمه في تنحية والده من كرسي السلطنة ومقارعة اخوته ليتسنى له الحكم المنفرد المستقر للدولة العثمانية بلا منازع ويتفرغ لتثبيت رؤيته في تحويل السلطنة العثمانية إلى إمبراطورية مترامية الأطراف.
إخضاع الصفويين
قرب ولاية الأمير سليم من ولادة الدولة الصفوية جغرافيًا وزمانيًا جعله مدركًا عن كثب لحقيقة الصفويين وطموحاتهم ونقاط قوتهم وضعفهم، وما تمثله دولتهم من خطر على الدولة العثمانية، حيث حكم سليم الأول ولاية طرابزون اميرًا للفترة ما بين عام 1481 حتى عام 1510م وهي الفترة التي بزغت فيها الدولة الصفوية في إيران وأذربيجان.
مع اعتلاء سليم الأول عرش السلطنة 1512م برزت للسطح حقيقة العداء بين اسماعيل شاه الصفويين وسليم برفض الصفوي إرسال وفد للتهنئة كما هو متعارف دبلوماسيًا بين الدول واستمرار تحركاته في الشرق العثماني، إضافة لإرسال وفد يطالب المماليك بالتحالف ضد العثمانيين لكن سلطان الغوري سلطان المماليك فضل الوقوف على الحياد.
جندي قزلباشي
وبعد سلسلة من التراشق الذي حمل طابعًا مذهبيًا دينيًا بامتياز، بين الصفوي الذي حمل لواء حماية ونشر المذهب الجعفري الاثنا عشري ونشره والعثماني الذي كان حاميًا للمذهب السني، أقدم سليم الأول على حملة لتصفية “القزلباش” وهي مجموعة من الجنود الشيعة الذين عينتهم الدولة الصفوية من اهالي شرق الأناضول، ردًا على مجازر قام بها إسماعيل الصفوي في سنة إيران والعراق الأمر الذي فتح الباب للحرب المباشرة حيث عقد مجلس للحرب في ادرنا برئاسة سليم في 1514م وخرج منه المجتمعون بقرار الحرب.
وعلى أثره خرج سليم الاول بجيش من ادرنة متجهًا شرقًا قاصدًا عاصمة الدولة الصفوية، وقد حفظ لنا التاريخ سلسلة مراسلات السلطان سليم والشاه إسماعيل المليئة بالسباب المتبادل والحرب الكلامية التي استمرت لحين موقعة جالديران الفاصلة التي سحق فيها العثمانيون جيش الصفويين ودخل عاصمتهم تبريز يوم 4 سبتمبر سنة 1514، لكن إسماعيل الصفوي تمكن من الهروب وأمر السلطان سليم بمتابعته لكن قادة الجيش الانكشاري رفضوا طاعة الأوامر والعصيان خوفًا من الشتاء القادم وهلاك الجنود في البرد.
التحالف الكردي العثماني
بعد معركة جالديران وتوسع العثمانيين نحو الشرق انقسمت مناطق القبائل الكردية بين الدولة الصفوية والعثمانية ولكن الأخيرة تمكنت من عقد تحالف عثماني مع قبائل الأكراد، وكان للشيخ “إدريس البدليسي الكوردي” دور بارز في إقناع أمراء الأكراد في التوحد والدخول طوعًا تحت حكم الدولة العثمانية، وضمان دفع الضرائب مقابل الحفاظ على نوع من أنواع الحكم المحلي والدفاع المشترك في الحروب التي يخوضها الطرفين.
وقد وقعت الاتفاقية عام 1515م بين الشيخ إدريس ممثلاً عن السلطان سليم الأول من جهة، وأمراء الأكراد ومنهم شرف بيك البدليسي في بدليس وأسرة بدرخان في جزيرة ابن عمر وأمراء هكاري والعمادية وأمراء اربيل وكركوك وخلفاء أسرة بابان في السليمانية والبيك الكوردي في دياربكر وأمراء حصن كيف من جهة ثانية.
وتعتبر هذه الاتفاقية أول اتفاقية للتحالف الكردي العثماني في تاريخ المنطقة والتي ضمنت للدولة العثمانية فيما بعد دعمًا واستقرارًا في الشرق ضد أي أطماع للدولة الصفوية ودعمًا للجيش العثماني بالمقاتلين الأكراد الذين غيّروا معادلة القوة لصالح الدولة العثمانية في مناطق شرق الأناضول وكردستان.
إسقاط المماليك
في الفترة التي اعتلى فيها سليم الأول العرش في اسطنبول كان الغوري سلطان المماليك يحكم من القاهره مصر وبلاد الشام والحجاز، وكانت العلاقة المملوكية بالعثمانيين متوترة نتيجة خلافات حدودية بين المملكتين وامتناع المماليك عن المساهمة في الحرب ضد الصفويين وايواء الأمراء الفارين من حكم السلطان سليم اضافة لنداء إغاثة أرسل من اهالي الشام للعثمانيين نتيجة الوضع المعيشي السئ التي تعيشه البلاد في أواخر حكم الدولة المملوكية.
الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قانصوه الغوري الظاهري الأشرفي، سلطان المماليك من عام 1501 حتى عام 1516 بريشة “پاولو جيوڤيو”.
وبعد مفاوضات لم تسفر الا عن المزيد من التصعيد تحرك الجيش المملوكي من القاهرة إلى حلب ليلتقي بالجيش العثماني بمعركة مرج دابق التي انكسرت فيها قوات المماليك وقتل السلطان الغوري رغم الاتفاق التاريخي على بسالة المقاتل المملوكي والأداء العالي في المعركة لكن، فرق التسليح المدفعي الذي كان الحاسم في جعل كفة المعركة تتجه للنصر العثماني، الأمر الذي فتح ابواب الشام للعثمانيين وصولاً لمصر.
وبعد مقتل السلطان الغوري اجتمع المماليك لتنصيب سلطان جديد وهو طومان باي، ورغم ان السلطان سليم طلب انهاء القتال مقابل اعتراف طومان بحكم الباب العالي حاكمًا لمصر لكن الأخير رفض وقام بقتل سفير السلطان سليم، الأمر الذي دفع العثمانيين لمواصلة السير لمصر. التقى الجيشان في معركة الريدانية وكانت موقعة عظيم قتل فيها الصدر الأعظم العثماني على يد طومان، لكن المدفعية العثمانية كانت حاسمة للمرة الثانية وبذلك تمكن سليم الاول السيطرة على مصر وضمها لحكم الدولة العثماني، وتقول بعض المصادر إن الحرب العثمانية المملوكية خلفت أكثر 25000 الف قتيل بين جنود الطرفين.
أول أمير مؤمنين عثماني
بعد خضوع بلاد الشام ومصر والحجاز للحكم العثماني وزوال دولة المماليك بشكل كامل، قام محمد الثالث “المتوكل على الله”، آخر ذريّة خلفاء بني العباس الذي كان خليفة صوريًا فقط بعد أن نقله من تبقى من آل العباس للقاهرة إبان سقوط بغداد بيد المغول، بالتنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول ومنحه الآثار النبوية، وهي بيرق وسيف وعباءة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وبذلك تختم خلافة بني العباس بشكلها الصوري.
ويكون السلطان سليم الأول أول الخلفاء من بني عثمان الذي يلقب بلقب “أمير المؤمنين” بعدما كان من قبله سلاطين فقط بدون لقب الخليفة وهو ما منح سليم الأول مدلولاً دينيًا عزز شرعية الوجود العثماني في البلاد الاسلامية.
وهكذا تحول السلطان سليم الاول من تاسع سلاطين آل عثمان إلى خليفة المسلمين الرابع والسبعون وكان قد استلم قبلها مفاتيح الحرمين الشريفين من قبل شريف مكة، “محمد أبو نمي الثاني بن بركات”، كرمزية خضوع الحجاز للحكم العثماني.
تأسيس البحرية العثمانية وحرب البرتغال
بعد فتح القسطنطينية من قبل السلطان الفاتح جد سليم، لم تكن الدولة العثمانية تمتلك جيشًا بحريًا بما تحمله الكلمة من معنى ولكنها اقتصرت على عدد من السفن لحماية العاصمة وبعض شواطئ الدولة العثمانية. لكن توسعات سليم الأول ضمن بلاد الشام ومصر وخطورة التحركات البرتغالية التي كانت تهدد المناطق الإسلامية جنوبًا بعد اكتشاف بحارتها لرأس الرجاء الصالح جعل تأسيس قوة بحرية حقيقية للدولة العثمانية أمرًا لا مفر منه.
فقام السلطان سليم بنقل الحرفيين وصناع السفن من مصر والشام وعمل على إرساء الدعائم الأولى لتأسيس بحرية عثمانية ضخمة بانت بوادرها بحملة لمحاربة البرتغاليين وسار أسطول بحري بقيادة “مير علي بك” إلى الساحل الأفريقي واستطاع تحرير مقديشو ومدنًا أخرى وأنزل بالبرتغاليين خسائر كبيرة.
في نفس الحقبة الزمنية لمع نجم القبطان المسلم “خير الدين بربروس باشا” الذي كان حليفًا لحاكم تونس وقد أقدم بربروس على إعلان الولاء للدولة العثماني ومشاركته في قتال البرتغال ودعمته الدولة العثمانية بالأموال والسفن، وفي خضم الحرب وأرسل أهل الجزائر وعلمائها مستنجدين بالسلطان سليم من غزوات البرتغال فأرسل لنجدتهم وتم تأسيس حامية بحرية هناك لحماية السواحل الجزائرية وبذلك أصبحت الجزائر ولاية من ولايات الدولة العثمانية في عهد سليم الأول.
في ختام الحديث عن السلطان سليم الأول فإن من المهم القول إن شخصية مثل سليم لم تكن اعتيادية لتستطيع تغيير وجه العالم في ثمان سنوات فقط من الحكم التي امتدت من 1512م إلى 1520م ولا يمكن اختزال هذه الشخصية الاستثنائية بالنظرة العسكرية فقط، دون النظرة إلى قدرة الرجل على رسم مسارات الأحداث بما يضمن تحقيق رؤيته لتحويل السلطنة العثمانية إلى الإمبراطورية كبيرة تحكم مناطق شاسعة وشعوبًا متعددة وتسيطر على أغلب طرق التجارة العالمية.