لم تكن اللافتة التي تحمل إعلانًا للباز أفندي في فيلم “ابن حميدو” هي الأولى من نوعها التي تلفت الانتباه إلى طرافة التفكير في “الإعلان كفكرة”، فجاءت معبرة عن شخصية الباز أفندي في الفيلم، التي أداها “توفيق الدقن”، فظهرت تحمل “الباز أفندي.. ساقط توجيهية.. وكيل أعمال وسمسار مراكب وقباني وبالعكس”.
انتبهت الشركات والمصانع المصرية مبكرًا إلى أهمية دور “الإعلان” في تحقيق الانتشار المطلوب وكجزء مهم من عملية التسويق markting، فحرصوا على أن يكون الإعلان جذابًا catchy منذ الوهلة الأولى، مستندين في ذلك إلى حس فكاهة فطري موجود بالفعل لدى المصريين عمومًا، ولدى من يمكنهم تأليف بعض الأفكار لهذه الإعلانات.
جاءت معظم أفكار هذه الإعلانات مرتبطة بالجمل التي ترد كثيرًا في الأفلام العربية، ومنها الكذبة الشهيرة التي يتبناها معظم الأزواج في الأفلام العربية، حين يسهرون في كباريه أو ما شابه بأنه كان في المكتب، فيلتقط أحد أصحاب الكباريهات الفكرة، ويراهن على قدر الإبداعية creativity فيها، فيطلق على الكباريه الخاصة به اسم “المكتب”، حتى يستطيع أن يقسم لزوجته حين يتأخر أنه كان في المكتب، لأنهم يخشون عليه بالطبع من تحمل إثم الكذب!
فجاء الإعلان محتويًا على النص التالي “بشرى لجميع الأزواج، كاباريه المكتب، الكاباريه الوحيد الذي يحافظ على سعادتك الزوجية.. مهما طالت بك السهرة تستطيع أن تحلف لزوجتك أنك كنت في (المكتب)”.
وفي السنوات الأخيرة حين بُنيت الكثير من أفكار الإعلانات على أساس رد فعل المستخدمين تجاه هذا المنتج، وكان الأشهر من بينها فيديوهات أدوية وأحزمة التخسيس السريع السهل، لنسمع في نهاية الإعلان صوتًا مدبلجًا تم تركيبه على صورة فتاة صينية لينطق عبارة من قبيل “يا إلهي، لقد خسرت ثلاثة إنشات”، أو عمل استفتاء يبدو كأنه مفاجئ لبعض الناس في الشارع، أو في زيارات للبيوت.
واعتبر البعض أن مثل تلك الإعلانات تمثل نقلة في مستوى أفكار الإعلانات من حيث تأثيرها على العميل المستهدف، إلا أنها في الحقيقة فكرة قديمة ومستهلكة، نُفذت عام 1938، حيث جاء في أحد أعداد مجلة المصور بتاريخ 22 من أبريل 1938، إعلان لعلاج جديد لنزلات البرد والإنفلونزا والصداع يسمى “إسبيرو”، وكانت الفكرة الأساسية في الإعلان تقوم على نشر رد الفعل feed back الخاص ببعض العملاء، ولم يكن الأمر عشوائيًا بالطبع، فاستهدفت الشركة المصنعة نشر آراء عميلين من “الوجهاء” بمفهوم تلك الفترة.
فكان الرأي الأول للأستاذ محمد محمود، وهو مفتش بحركة التليفونات بالقاهرة، حيث كتب رسالة للشركة جاء فيها: “أصبت بالزكام الشديد فطاح بي الفؤاد إلى تناول بعض الأقراص من “إسبيرو” ذلك الدواء الناجع الفعال، والآن وقد أصبحت في قوة عظيمة وصحة جيدة من مفعول تلك الأقراص ذات الفعل الجبار. ولا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لشركة (إسبيرو) والقائمين بها على ما يؤدونه من خدمة للجمهور من عناية تعود عليهم بالصحة والعافية”.
وفي نفس الصفحة كانت هناك رسالتان تدعمان الأولى: الرسالة الأولى من (عبد القادر محمد ناظر محطة)، يقول فيها: “أصابني ضعف في القوة من شدة البرد كاد يمنعني عن العمل فبادرت باستعمال إسبيرو فشعرت بالراحة بعد تعاطي أول حبة، فداومت على استعماله، فكان هو الدواء الشافي فأرسلت هذا إعجابًا لإسبيرو وتقديرًا لجنابكم”.
وفي رسالة أخرى لـ(فؤاد رزق سمير – دبلوم التجارة العليا)، يقول: “قرص صغير ذو مفعول عظيم، هو قرص إسبيرو الذي أزال عني الإنفلونزا والزكام بعد تعاطيه بوقت قصير. جزاكم الله خيرًا عن الإنسانية”.
ولعل الصورة توضح أن الشركة كانت تحتفي بإبراز آراء المتعلمين من العملاء، ومن أصحاب الوظائف ذات الشأن المادي أو الاجتماعي بمقاييس ذلك الوقت.
إعلانات المسابقات والجوائز
ربما أصبحت المسابقات التي كانت تقيمها شركات المياه الغازية جزءًا من ذاكرتنا حتى اليوم، ثم تبعتها في ذلك عدد من شركات الحلويات ثم شركات المنظفات في الثمانينيات والتسعينيات، لكن الحقيقة أن تلك الشركات أيضًا لم تبتدع هذه الفكرة.
ففي أحد أعداد جريدة المصور عام 1937، أُعلن عن مسابقة للشركة المصنعة لمعجون الأسنان “الدكتور وست”، من خلال البحث عن 13 خطأ في الصورة، وتشير بعض هذه الأخطاء إلى أمور لها علاقة بترويج المنتج، وأهمها إمساك إحدى الضيفات لفرشاة تنظيف الأسنان في أثناء وجودها بداخل ما يشبه الصالون في الحفل الذي تصوره اللوحة.
الأهم أن القارئ بعد أن يستخرج الـ13 خطأ عليه أن يرسل الحل بداخل إحدى علب معجون الأسنان “الدكتور وست”، ولكي تشجع الشركة زبائنها الحقيقيين أو المحتملين على شراء أكثر من علبة، فقد فتحت الفرصة لأن يرسل المتسابق أكثر من حل بشرط أن يرسل كل حل بداخل إحدى نشرات معجون أسنان الدكتور وست، وهو تطبيق للمبدأ الذي ظهر في إعلانات الثمانينيات “كل ما تشتري أكتر فرصتك في الفوز تكبر”.
الإعلانات المضادة والأغراض السياسية
انتشرت في التسعينيات وبداية الألفينيات دعوات لمقاطعة المنتجات الأمريكية لدعمها وجود دولة الاحتلال “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية، وبعد ذلك بسنوات، انتشرت دعوات أخرى لمقاطعة البضائع الدنماركية على خلفية نشر رسوم كاريكارتورية عن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، ما ترتب عليه استفادة بعض الشركات المحلية أو الشركات التي لا تحمل جنسية أمريكية أو دنماركية في وقت أزمة كل منهما.
وهذه الفكرة أيضًا لم تكن جديدة بأي حال، فقد نفذت الشركة المنتجة لأقراص “ريفو” لعلاج الصداع هذه الفكرة منذ سنوات طويلة، حيث استغلت الحس الوطني لدى البسطاء، حيث يوضح أحد الإعلانات أن ريفو شركة وطنية بديلة عن منتجات الأعداء، فجاء في الإعلان “إلى أمة العرب.. أموال العرب للعرب.. الدواء العربي بدلًا من دواء الأعداء.. ريفو عربي 100%.. وإسبيرو إنجليزي 100%”، خاصة أنه كان من إنتاج الشركة (العربية) للأدوية.
ولعل ريفو في هذا الخطاب كان متسقًا مع خطاب مصر في فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وخاصة في مواقفه المعلنة المناهضة للاستعمار وتوابعه بكل أشكاله.
وكما يمكننا الآن استقراء عادات وتقاليد وقيم مجتمعنا في هذه الفترة، يمكن كذلك قراءة درجة وعيه وثقافته، فمؤخرًا نشر الصحفي بشري محمد عبر صفحته على الفيسبوك صورة لإعلان قديم من مجلة المصور عن شركة تبيع منتجين بالتقسيط، أولهما الراديو والآخر البيانو، ما دفع العديد من الصحفيين والكتاب لاعتبار ذلك مقياسًا لمدى إيمان الناس في هذا الوقت بالثقافة وحب المعرفة والفنون.
أخيًرا، تتطور فنون الإعلانات طردًا مع نمو وتطور التكنولوجيا ووسائل الإعلام والتثقيف، وفي حين تبدو إعلانات كثيرة رويتينة لا جديد فيها، وتفشل أخرى متسببة بأزمة للشركة المعلنة، تبتكر شركات أخرى إعلانات خلاقة مبهرة، تأتي في لحظة حرجة بفكرة فريدة غير تقليدية، لتشيع وتصبح خلال ساعات “ترندًا” عالمياً وحديث الناس لالجمهور الشركة فحسب.