بات من الواضح أن الاحتجاجات الأردنية المشتعلة منذ عدة أشهر تأتي أكلها يوما تلو آخر، فبعد دفعها لعدد من المسؤولين على تقديم استقالتهم تعاطفًا مع الشارع، هاهي الحكومة تتخذ بعض الإجراءات لتحسين الأوضاع المعيشية لشريحة كبيرة من المواطنين، من خلال زيادة رواتب العاملين والمتقاعدين في الجهازين المدني والعسكري.
وكان رئيس الوزراء عمر الرزاز، قد أعلن الخميس الماضي، أن الحكومة اتخذت هذا القرار، الذي يشمل قرابة 700 ألف من العاملين والمتقاعدين، لافتًا في كلمة له أمام حشد من المسؤولين والشخصيات البارزة أن “الوضع الاقتصادي والظروف الاستثنائية التي مر بها الأردن والمنطقة يتطلبان تحسين المستوى المعيشي للمواطنين”.
إجراءات يرى مراقبون أنها تستهدف بالدرجة الأولى احتواء الشارع، الذي يتهيأ على ما يبدو لحراك غير مسبوق ضد فشل السياسات الحكومية وتراكمية قرارات رفع الضرائب والأسعار، وما نتج عنها من زيادة في معدلات الفقر والبطالة، فيما يرى آخرون أنها ستفاقم الاختلالات الكبيرة في التوازنات المالية الراهنة.
وكانت آخر زيادة كبيرة في أجور القطاع العام في 2010 و2011 في إطار إنفاق اجتماعي إضافي بمليارات الدولارات لكبح احتجاجات اندلعت في ذلك الوقت بالتزامن مع احتجاجات في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.
الحكومة في موقف حرج
وجدت حكومة الرزاز نفسها في موقف حرج أمام تصاعد وتيرة الاحتجاجات لاسيما بعدما أمهل الملك عبدالله الثاني الحكومة حتى نهاية العام الحالي لتحفيز الوضع الاقتصادي وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وعليه ربما تطيل الإجراءات الاخيرة عمر التشكيل الحكومي الراهن.
زيادة الرواتب بنسبة تجاوزت 20% اعتبارا من بداية العام المقبل 2020 يعد العامل الأهم الذي يمّكن الحكومة من التقاط أنفاسها قليلا، وفي هذا الشأن يقول رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب الأردني، النائب خالد البكار إن اللجنة ستبدأ بمناقشة موازنة الدولة وموازنة المؤسسات الحكومية المستقلة خلال الأسبوعين المقبلين، وهي لن توافق على الموازنة اذا تضمنت أي بنود لرفع الضرائب، إضافة إلى مطالبة الحكومة بتحديد قائمة المشاريع الرأسمالية التي ستمول من الموازنة للعام المقبل.
وفي تصريحات صحفية له يوضح البكار أن زيادة الرواتب يعد إحدى الأولويات التي وضعتها اللجنة المالية النيابية وتم التأكيد عليها عدة مرات خلال اللقاءات مع الحكومة، مشيرا إلى أن حزمة الإجراءات التي أعلنتها الحكومة في هذا السياق تلبي، ولو جزئيا، مطالب النواب وحتى العاملين والمتقاعدين في الجهازين المدني والعسكري.
وكان مجلس الوزراء قدر أقر موازنة الدولة للعام المقبل بحجم 13.83 مليار دولار، بعجز مقدر بحوالي 1.76 مليار دولار بعد احتساب المنح والمساعدات الخارجية. وحوالى 2.9 مليار دولار قبل احتساب المنح، مشكلا ما نسبته 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
خلل في التوازنات المالية
التقديرات الحكومية للموازنة المقبلة أشارت إلى أن إجمالي الإيرادات المتوقعة حوالي 12.07 مليار دولار وتوقع نموها بحوالي 1.033 مليار دولار، بما نسبته 10.4% مقارنة مع العام الماضي في إعادة تقدير أرقام الموازنة العامة، كما تتوقع الحكومة نمو الإيرادات مع ضريبة الدخل بحوالي 292 مليون دولار، ما نسبته 19.5%، لتعكس النمو في الناتج المحلي الإجمالي من جهة، وتعكس أثر تطبيق قانون ضريبة الدخل من جهة أخرى، إضافة إلى نمو الإيرادات في ضريبة المبيعات بحوالي 833 مليون دولار، ما نسبته 17.6%.
لكن ومع إقرار الزيادات الجديدة فإن الوضع ربما يتزايد تفاقمًا وهو ما يضع الحكومة في مأزق حقيقي، سواء فيما يتعلق بزيادة معدلات العجز أو إخلالها بالخطة المقدمة للحصول على قرض صندوق النقد الدولي الذي من المقرر أن يزور وفده عمًان خلال الأونة المقبلة.
وعلى مدار العقدين الماضيين تضخم القطاع العام بخطى سريعة مع سعي حكومات متعاقبة لاسترضاء المواطنين بوظائف في الدولة للحفاظ على الاستقرار، ورغم أن التضخم في المملكة عند مستوياته الحالية البالغة نحو 2.3 بالمئة يعد معدلا معقولا قياسا بدول عربية أخرى، لكن مع ذلك يثير الجدل بين المنتمين إلى الطبقة الفقيرة على وجه الخصوص.
هناك من يرى إلى أن تأخر الحكومة في الاستجابة لرغبات الشارع ربما فوًت أمامها فرصة كبيرة في احتواء الغاضبين، حيث زاد سقف المطالب التي ربما تجاوزت فكرة التسكينات الاقتصادية
وكان الإنفاق الجامح قد ساهم في ارتفاع الدين العام إلى 40 مليار دولار، وهو ما يعادل 94 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يكافح الأردن لكبحه بموجب برنامج لصندوق النقد مدته ثلاث سنوات انتهى هذا العام.
ومع إقرار إجراءات الخميس الماضي، ستضيف الحكومة ما لا يقل عن نصف مليار دينار (700 مليون دولار) إلى الرواتب ومعاشات التقاعد، التي تستهلك بالفعل أغلب الإنفاق الحكومي في مشروع موازنة 2020 البالغ حجمه 9.8 مليار دينار (14 مليار دولار)، وهو ما يفاقم من الوضعية المالية.
وكشف الأردن الأسبوع الماضي عن نواياه للاقتراض من المؤسسات المالية الدولية مرة أخرى، وذلك في إطار الجهود الرامية إلى سد فجوة العجز في الموازنة الناجمة عن اختلالات هيكلية في اقتصاد البلاد، فيما أكد محللون أن الوضع الذي بلغه الأردن في ظل جنوحه مرة أخرى إلى الاقتراض الخارجي دليل واضح على الخلل في إدارة الأموال وعدم وجود رؤية اقتصادية واضحة وغياب الإرادة الحقيقية لتحسين القطاعات الإنتاجية المهمة في البلاد.
امتصاص غضب الشارع
فريق آخر ذهب إلى إنه من الواضح أن الحكومة الأردنية قد التقطت رسالة الشارع جيدا هذه المرة، وإن كان ذلك متأخرًا، وعليه أطلقت إجراءات تحفيزية على مستوى الاقتصاد ولتحسين الأوضاع المعيشية، التي بلا شك سيكون لها تأثير كبير في تخفف حدة الاحتقان الشعبي ضد الحكومة وسياساتها كما أنها تسهم في تحسين الأوضاع المعيشية، ولو بشكل بسيط، إضافة إلى تحريك النشاط التجاري الذي يعاني حالة من الركود بسبب تراجع حاد في القدرات الشرائية.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن الأحوال المعيشية كانت المحرك الرئيسي لاشتعال الاحتجاجات منذ البداية، ومن ثم فإن التعاطي معها الأن سيكون له وقع السحر في امتصاص حالة الغضب المتصاعدة لاسيما وأن الإجراءات المتخذة تأتي في وقت يعاني فيه الأردنيون من أزمات اقتصادية طاحنة.
لكن في المقابل هناك من يرى إلى أن تأخر الحكومة في الاستجابة لرغبات الشارع ربما فوًت أمامها فرصة كبيرة في احتواء الغاضبين، حيث زاد سقف المطالب التي ربما تجاوزت فكرة التسكينات الاقتصادية والمهدئات المعيشية التي وإن أرضت البعض إلا أنها لم تصل لدرجة الإقناع للأغلبية.
خبراء يرون أن التحرك الحكومي الأخير ربما يمثل خطوة مهمة في احترام لغة الشارع والاستماع له، وهو ما سيكون له ارتداداته في القريب العاجل، لكن يتوقف نجاح ذلك في تخفيف الاحتقان الشعبي على مدى اقتناع الشعب بحسن نوايا الحكومة في تحركها الأخير.
مأزق جديد باتت فيه حكومة الرزاز، بين مطرقة الانتقادات الشعبية التي اضطرت على إثرها لاتخاذ إجراءاتها النوعية الأخيرة لإرضاء الغاضبين، ضمانًا لبقائها لفترة أطول، وسندان الأثار السلبية المتوقعة جراء هذه الخطوة التي من المتوقع أن تفاقم إرباك التوازنات المالية التي تعاني بطبيعتها من هزة عنيفة.