قبل بضعة عقود كان وجود الهواتف المحمولة والشاشات العاملة باللمس من ضروب الخيال العلمي، أما تكنولوجيا ربط الدماغ البشري بالكمبيوتر فلم تخطر على بال أشد المتحمسين لمستقبل التقدم التكنولوجي.
في ظل النمو السريع لقدرة أجهزة الكمبيوتر الحديثة إلى جانب فهمنا للعقل البشري، نقترب أكثر من أي وقت مضى من تحويل بعض هذا الخيال العلمي المذهل إلى حقيقة، وتطوير تقنيات تمكننا من إتمام هذه المزامنة، وهو ما يطلق عليه “واجهات الكمبيوتر-الدماغ” واختصارًا يرمز لها “BCI”.
المراحل التاريخية لتطور واجهات الكمبيوتر-الدماغ
جرت أولى الدراسات البسيطة لمحاولة توليد تزامن سلكي بسيط بين الدماغ البشري والحواسيب في سبعينيات القرن العشرين بجامعة كاليفورنيا، وكانت عبارة عن دراسات بسيطة يجريها علماء الأعصاب في محاولة لاستعادة الحركة للأشخاص المشلولين.
واستمرت المحاولات الخجولة في هذا السياق حتى شهد مطلع القرن الحاليّ تقدمًا كبيرًا في تلك الدراسات، حيث نجحت عام 2004 أول محاولة للتحكم بأجهزة الكمبيوتر من خلال أوامر منبعها الدماغ.
أما في وقتنا هذا التطور أصبح في تسارع كبير جدًا، حيث أعلن مؤسس تسلا إيلون موسك دخوله هذا المضمار وتخصيص مبالغ ضخمة تصل لمليارات الدولارات في محاولات لزرع شرائح داخل الدماغ البشري، كما تجري شركة فيسبوك أبحاثًا تتسم بالسرية في محاولة لاستمرار بسط نفوذها على منصات التواصل الاجتماعي خلال العقود القادمة.
آلية عمل الدماغ
قبل الشروع بتوضيح عمل BCI وأنواع الواجهات، لا بد من توضيح بعض المبادئ البسيطة عن كيفية عمل الدماغ البشري، ينقسم الدماغ إلى قسمين رئيسيين: الجهاز الحوفي والقشرة المخية الحديثة، والجهاز الحوفي هو المسؤول عن الوظائف الضرورية للجسم وتلك المتعلقة بالبقاء على قيد الحياة، مثل الأكل والتكاثر.
القشرة المخية الحديثة لدينا هي المنطقة الأكثر تقدمًا، وهي مسؤولة عن الوظائف المنطقية التي تجعلنا نتقن اللغات والتكنولوجيا والأعمال التجارية والفلسفة، وغيرها من الوظائف.
تحتوي الأدمغة البشرية على نحو 86 خلية عصبية كل منها يرتبط بشكل فردي بالخلايا العصبية الأخرى عن طريق الموصلات المسماة المحاور العصبية.
عند ممارسة أي نشاط معين فإن الخلايا العصبية تكون نقطة البدء في انطلاق ذلك النشاط، ويتم تنفيذ هذا العمل بواسطة إشارات كهربائية صغيرة تنطلق من الخلايا العصبية إلى الخلايا العصبية الأخرى بسرعة هائلة، الأمر الذي مكن بعض العلماء من قياس تلك الإشارات وتحليلها بطرق مختلفة.
تخطيط كهربية الدماغ (EEG): الطريقة الفسيولوجية المفضلة لتسجيل النشاط الكهربائي الناتج عن الدماغ عن طريق الأقطاب الكهربائية الموضوعة على سطح فروة الرأس.
التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI): يقيس نشاط الدماغ من خلال كشف التغييرات المرتبطة بتدفق الدم.
واجهة الدماغ-الكمبيوتر
يتم تعريف واجهات الدماغ–الكمبيوتر Brain-Computer Interface على أنها الأجهزة التي تمكن مستخدميها من التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر عن طريق نشاط الدماغ فقط، ويُقاس هذا النشاط بشكل عام بواسطة أجهزة التخطيط الكهربائي أو أجهزة الرنين المغناطيس، وكذلك عبر زرع أقطاب كهربائية داخل الدماغ.
تمر واجهات الدماغ-الكمبيوتر بأربع مراحل، وهي:
اكتشاف الإشارة، ويقصد بها استخدام أحد الأجهزة المذكورة سابقًا لتسجيل نشاط معين للدماغ.
معالجة الإشارة، وهي رفع الضوضاء الحاصلة في الإشارة لأنه يحصل تداخل في إشارات بعض الأجزاء لأن حركة العين وبلع الريق وأي فعل آخر ينتج إشارات يسبب مقدارًا من الضوضاء.
تحويل الإشارة، وهي تضخيم الإشارات إلى قدر معين تستطيع الأجهزة التعامل معها.
المرحلة الأخيرة ترميز الإشارة أي تحويلها إلى نبضات أو أرقام يستطيع الحاسوب فهمها.
أنواع واجهة الدماغ-الكمبيوتر
تنقسم الواجهات إلى قسمين رئيسيين وهي: غازية وغير غازية.
1- الواجهة غير الغازية
وهي الطريقة الأكثر شيوعًا لتسجيل نشاط الدماغ، ويتم عبر وضع أقطاب كهربائية على سطح فروة الرأس وهي الطريقة الأكثر شيوعًا، ورخيصة نسبيًا ولا تحتاج إلى تدخل جراحي.
ولكن ما يعيب هذه التقنية أن نسبة دقة تحديد موقع الإشارة بسيط، كون الإشارات تنبع من أسفل الجمجمة والأقطاب موضوعة فوق سطح الرأس، ففي بعض الأحيان لا يمكن لهذه التقنية تحديد مصدر الإشارة بالضبط.
2- الواجهة الغازية
وهو النوع الذي يتطلب تدخلًا جراحيًا، حيث يعمد العلماء إلى زرع أقطاب داخل المنطقة الرمادية في الدماغ أسفل الجمجمة، وهي توفر دقة عالية جدًا لمصدر الإشارات ويمكن من خلالها إرسال إشارات من الحاسوب إلى الدماغ.
هذه التقنية اعتمدها إيلون موسك، مالك تسلا وسبيس إكس، ويتوقع في خلال هذا العقد بدء تطبيقها على البشر.
ما يعيب هذا النوع أن الأمر يتطلب إجراء عملية جراحية لزرع الأقطاب الكهربائية، وهي مكلفة جدًا، كما أن الأجهزة تبقى في المخ وقتًا طويلًا، مما يؤدي إلى تكوين أنسجة ندبة في المادة الرمادية، هذه الندب تحجب الإشارات في نهاية الأمر.
استخدامات واجهة الدماغ-الكمبيوتر
يجري الآن استخدام الواجهات في قطاعات ضيقة، كما يتوقع شيوع استخدامها في المستقبل بشكل كبير، بل ستغير الواجهات أسلوب حياتنا وتفاعلنا مع الأجهزة بشكل جذري، ومن استخداماتها:
1- التواصل من خلال الأفكار
أحد أهم الأمثلة الأكثر شيوعًا هو التواصل بين الأفراد والحواسيب من خلال الأفكار التي يتم تسجيل نشاطها وترجمتها إلى أوامر، هذا الاستخدام سيمنح ذوي الإعاقة أملًا كبيرًا في المستقبل.
2- زراعة قوقعة الأذن
الطريقة الأكثر شيوعًا والأقدم لاستخدام BCI هي زرع قوقعة الأذن، بالنسبة للشخص السليم، تدخل الموجات الصوتية إلى الأذن وتمر عبر العديد من الأعضاء الصغيرة التي تنقل الاهتزازات في النهاية إلى الأعصاب السمعية في شكل إشارات كهربائية.
إذا تعرضت آلية الأذن لأضرار جسيمة، فلن يتمكن هذا الشخص من سماع أي شيء، ومع ذلك، قد تعمل الأعصاب السمعية بشكل جيد لكنها فقط لا تتلقى أي إشارات.
تتجاوز غرسة القوقعة الصناعية الجزء غير الوظيفي من الأذن، وتحول الموجات الصوتية الخارجية التي تسجلها إلى إشارات كهربائية وتمررها عبر الأقطاب الكهربائية مباشرة إلى الأعصاب السمعية.
المحصلة، إعطاء الشخص الأصم القدرة على السمع مجددًا، ويستخدمها الآن 300000 شخص حول العالم.
3- تطور Neural Signals تقنية لاستعادة الكلام للأشخاص المعوقين، فمن خلال زرع أقطاب في منطقة من الدماغ المرتبطة الكلام (منطقة بروكا) من شأنه أن ينقل الإشارات إلى جهاز كمبيوتر ومن ثم إلى المتكلم.
4- تعد معالجة المعلومات المرئية بواسطة الدماغ أكثر تعقيدًا بكثير من معالجة المعلومات الصوتية، فيتم زرع الأقطاب الكهربائية في القشرة البصرية أو بالقرب منها، وهي منطقة الدماغ التي تعالج المعلومات البصرية من شبكية العين.
من خلال زوج من النظارات المجهزة بكاميرات ومتصلة بجهاز مزروع في الدماغ، يمكن منح رؤية ولو ضئيلة للمصابين بالعمى.
5- تسوق شركة Cyberkinetics Neurotechnology Systems، BrainGate، وهي نظام واجهة عصبية تسمح للمعاقين بالتحكم في كرسي متحرك.
6- طور باحثون يابانيون واجهة دماغ تمنح المستخدم التحكم في الصورة الرمزية الخاصة به في عالم الإنترنت Second Life من خلال التفكير فقط.
7- حقق فريق من الباحثين من جامعة كارنيجي ميلون، بالتعاون مع جامعة مينيسوتا، طفرة في مجال التحكم بالأجهزة الآلية غير الموسعة.
إذ طوروا أول ذراع روبوت يسيطر عليها الدماغ، يتيح القدرة على تتبع ومتابعة مؤشر الكمبيوتر بشكل مستمر، يمكن الاستفادة منها عند المرضى المصابين بالشلل الذين يعانون من اضطرابات الحركة.
8- توفير الواجهات سبلًا لعلاج الاضطرابات العصبية غير المسيطر عليها (على سبيل المثال، يجري بالفعل استخدامها للتنبؤ ببداية الأفعال غير المنضبطة، مثل نوبات القلق والاكتئاب وخطر الانتحار).
9- منح الحركة للمصابين بالشلل، في بعض الإصابات بالعمود الفقري يتم قطع الاتصال الكهربائي بين الدماغ والعضلات في الأطراف، وترك الأشخاص غير قادرين على تحريك الذراعين أو الساقين.
يمكن أن تساعد BCIs في مثل هذه الإصابات إما عن طريق تمرير الإشارات الكهربائية على العضلات، وتجاوز الاتصال المكسور والسماح للناس بالتحرك مرة أخرى، أو مساعدة المرضى على استخدام أفكارهم للتحكم في الروبوتات أو الأطراف الصناعية التي يمكن أن تنجز الحركات لهم.
10- مثل العديد من التقنيات الجديدة، اجتذبت BCIs اهتمامًا من الجيش، وتستثمر وكالة التكنولوجيا الناشئة العسكرية الأمريكية DARPA عشرات الملايين من الدولارات في تطوير واجهة بين الحاسوب والعقل ليستخدمها الجنود.
يمكن للجنود في الميدان التواصل مع بعضهم البعض دون إصدار صوت، فقط من خلال الأفكار.
الشركات المطورة لواجهات الدماغ-الكمبيوتر
التنافس في وادي السيليكون على أشده بين الشركات المطورة لهذه التقنية الثورية، يقول إيلون موسك: “كي يبقى للبشر قيمة اقتصادية يجب أن نربط عقولهم مع الحواسيب لنتغلب على الذكاء الاصطناعي”.
1- فيسبوك
عام 2015، صرح مارك زوكيربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة Facebook، أن الأشخاص سيتمكنون يومًا ما من مشاركة “التجارب الحسية والعاطفية الكاملة” عبر الإنترنت وليس فقط الصور ومقاطع الفيديو.
يعمل Facebook على تعيين علماء الأعصاب لمشروع غير معلوم في قسم الأبحاث السري الخاص به لتطوير أنظمة واجهات الكومبيوتر-الدماغ.
واشترى فيسبوك مؤخرًا شركة CTRL-labs مقابل مليار دولار وهي تعمل مع الباحثين لترجمة الأفكار إلى كلام.
يراهن Facebook على أن الثورة الكبيرة التالية ستكون أفكارنا، فبدلًا من كتابة تحديث الحالة على تطبيقه، يمكن فعل ذلك من خلال التفكير به، فبدلًا من لمس الشاشة للتبديل بين النوافذ يمكنك ببساطة تحريك يديك في الهواء.
2- نيورال لنك
Neuralink هي شركة مملوكة للملياردير إيلون موسك، هدفها دمج العقل البشري مع الآلات بهدف الحفاظ على البشر قبل الذكاء الاصطناعى.
يستخدم Neuralink تقنية تسمى Neural Lace وهي شبكة رفيعة للغاية مزروعة في الجمجمة وتشكل مجموعة من الإلكترونات القادرة على مراقبة وظائف المخ.
في النهاية، يريد Neural Lace أن يكون قادرًا على تحميل أو تنزيل المعلومات من جهاز كمبيوتر إلى أدمغة البشر بغية تسريع تعليمهم.
3- شركة Kernel، وهي شركة ناشئة لتعزيز الذكاء البشري من خلال تطوير عمليات زرع الدماغ التي تربط أفكار الناس بأجهزة الكمبيوتر.
4- داربا، وكالة أبحاث وزارة الدفاع الأمريكية تعمل على تطوير واجهات BCI تتيح للجنود التواصل فيما بينهم من خلال الأفكار.
5- شركة MUSE وهي شركة تصنع عقالًا متعدد المستشعرات، يمكنه تقديم ملاحظات في الوقت الفعلي على نشاط عقلك ومعدل ضربات القلب والتنفس وحركة الجسم.
6- شركة Neuropace، شركة لديها هدف منع النوبات، تستخدم الشركة نظام RNS، الذي يتكون من محفز عصبي صغير قابل للزرع، مرتبط بأسلاك صغيرة تُوضع في المخ حيث توجد مناطق بداية النوبة.
يراقب نظام RNS الموجات الدماغية الخاصة بك في أثناء البحث عن نشاط غير عادي، ثم يكتشف الأنماط الكهربائية التي أنشأها عقلك في وقت حدوث النوبة، ويستجيب عن طريق إرسال نبضات إلى دماغك من أجل تغير موجات المخ ومنع حدوث النوبات.
صعوبات تواجه BCI
وفقًا لبوريس ريدريك، استشاري التعلم الآلي في Cortex، واحدة من أكبر المشاكل في واجهات الكمبيوتر الدماغ أن إشارات الدماغ ضعيفة ومتغيرة للغاية.
كذلك من التحديات التي تواجه هذه التكنولوجيا أننا نحتاج أولًا إلى فهم كيفية عمل الدماغ البشري بشكل أفضل قبل تحديد مكان وكيفية تطبيق BCI، إضافة إلى إشارات الدماغ الناتجة عن تفاعل كيميائي في طبقة الميلانين المغلفة له، بينما نحن نرسل للدماغ إشارات كهربائية بحتة.
تمتاز أنسجة الدماغ باللين وزرع أجزاء إلكترونية نحاسية فيها قد تسبب لها التلف أو تشكيل طبقة من النسيج حولها تمنع عملها.
مخاوف
لأي ابتكار جديد هناك تساؤلات تثار عن مدى التزام هذا الابتكار بالجانب الأخلاقي، فرغم التطور في الحواسيب وأنظمة الأمان المتعددة وحرفية المبرمجين، لكن لم يمنع ذلك من اختراق وتسريب بيانات الشركات بين الحين والآخر.
فماذا لو اُخترقت تلك الواجهات، وماذا لو أُرسلت أوامر خبيثة إلى أدمغة الناس تحثهم على القيام بأعمال إرهابية أو إجرامية أو على الأقل تزودهم بأفكار تقودهم إلى الانتحار.
كل هذه التساؤلات تتطلب من الشركات المطورة للواجهات التفكير بها مليًا قبل التفكير بمقدار الثروة المستحصلة من منتجاتهم.