في الكثير من الأحيان يصل المؤلفون بعيدًا بخيالهم ليتصوروا التصرفات الإنسانية في مواقف مختلفة وغريبة قد لا يمرون بها في حياتهم، فإحدى أهم سمات الكاتب استطاعته تشريح النفس البشرية ليخلق شخصية روائية قريبة إلى الحقيقة بأكبر قدر ممكن، فقد نظن أن بعض الكتاب وصلوا إلى قمة الوصف والتخيل ولكن هناك بعض الكتابات الحديثة التي أثبتت أن بعض المشاعر لم تصل إلينا بعد وما زال هناك الكثير والكثير.
ولولا مثابرة بعض الأشخاص ربما لتأخرنا أكثر في اكتشاف الاختلافات فيما بيننا، والفضل هذه المرة للكتب لأنها الوسيلة الوحيدة التى توحد الجميع في نطاق فهم واحد عكس التعبير الشفهي الذي لا يوجد لدى المؤلفين الذين سنتحدث عن كتاباتهم هنا.
“صرخة النورس”.. إيمانويل لابوري
“صرخة النورس” هي سيرة ذاتية للممثلة الصماء إيمانويل لابوري التي ولدت في قرية فرنسية عام 1971 وحينها لم تكن لغة الإشارة منتشرة ولم توجد توعية كافية بشأن الصمم أو كيفية التعامل مع الأطفال الصم، فوصفت إيمانويل أن في هذه الحقبة كان الصمم يعامل مثل المرض المعدي، ليس فقط بالنسبة للطفل بل للعائلة، في النهاية هي عائلة يوجد بها عنصر غير طبيعي.
إيمانويل تمتعت بصلاحية ما وهي والدان متعلمان لم يتوقفا عن البحث حتى اكتشفا لغة الإشارة العالمية التي من خلالها تستطيع الطفلة أخيرًا التفاهم مع العالم الخارجي، وبالفعل بدأت إيمانويل في تعلم لغة الإشارة في سن السابعة، وهنا تكمن الصدمة حيث اكتشفت وجود كيانات منفصلة تسمى “أنا” و”أبي” و”أمي”، وقبلها لم يوجد إلا مجموعة من الصور ومجموعة مختلفة من الحركات التي لم تكن تعلم معنى لها، وأصعب اللحظات ربما لم تكن الصعوبات المدرسية ولكن عندما اكتشفت ما فاتها من الحياة وأن الجميع يعلم وهي ما زالت تكتشف.
قد تكون المشاعر التي صاغتها إيمانويل لوصف حالتها مرعبة للبعض، تخيل أن تقضي حياتك عاجزًا عن التواصل أو إدراك أقل المعاني مثل الأسماء ولا تعلم ما معنى العالم!
إيمانويل حاربت كثيرًا وتمردت في فترة مراهقتها لفترة بسبب اعتراضها على منع استخدام لغة الإشارة في المدارس ولكنها واصلت التعليم، وكانت رحلتها صعبة للغاية حيث أمضت العديد من السنوات حتى تمكنت من نيل البكالوريا عام 1992 وهو نفس عام نشر كتابها “صرخة النورس” الذي ترجم لعدة لغات، أما بالنسبة للتمثيل فقد حصلت على جائزة موليير وبهذا تكون أول صماء تحصل على هذه الجائزة وهي طفلة، ورغم العروض المقدمة إليها لزراعة قوقعة الأذن واستعاده سمعها فإنها ترفض بسبب تمسكها باختلافها عن العالم.
“لو أبصرت ثلاثة أيام”.. هيلين كيلر
هيلين كيلير من أشهر الشخصيات العالمية لأنها استطاعت النبوغ في وقت مبكر حيث لم يكن هناك ثقة في نجاح إنسان فاقد لحاسة ما ولكن هيلين تعرضت لمرض أفقدها السمع والبصر ومع ذلك تعلمت التواصل باللمس من خلال معلمتها التي بقيت معاها حتى وفاتها، وقد حصلت على البكالوريوس وانضمت إلى الحزب الاشتراكي وكانت ناشطة بارزة للحريات المدنية بجانب تأليفها لـ18 كتابًا مختلفًا.
تسرد هيلين كيلر في كتابها القصير أمنيتها في استعاده بصرها مؤقتًا لثلاثة أيام، ثلاث أيام فقط لتنظر إلى كل ما تحب، حيث رأت أن نظره واحده تكفي لتريحها، فرغم أن اللمس يعطيها الإحساس بالموجودات ولكن إدراك شيء من نظرة واحدة أقصى طموحات هيلين كيلر!
قسمت هيلين كيلر الأيام الثلاث، لتعطي يومًا واحدًا للبشر (معلمتها وعائلتها وأصدقائها) ثم يومًا للطبيعة والمساحات الواسعة التي لا يمكنها لمسها وأخيرًا يومًا للكتب (مصدر المعرفة الذي لا ينضب ولا تتخيل هيلين كيلر وجود المعرفة مكدسة في الكتب بهذه السهولة ويمكن اكتسابها في أي وقت).
“قدمي اليسرى”.. كريستي براون
“قدمي اليسرى” هي سيرة حياة الكاتب والفنان الأيرلندي كريستي براون الذي ولد بشلل دماغي أفقده القدرة على تحريك جسده عدا قدمه اليسرى، لفترة طويلة ومنذ اكتشاف مرض كريستي تم اعتباره متخلفًا وتعيله عائلته لعدم قدرتهم على التخلص منه، ولكن في مرحلة ما تمكن كريستي من السيطرة على قدمه والكتابة بالطباشير ليبدأ في التواصل مع عائلته لأول مرة.
الأم لعبت دورًا عظيمًا في الإيمان بقدرة كريستي على التكيف وإثبات أنه ليس متخلفًا عقليًا كما يظن الجميع، وبالفعل كانت أولى المحطات فرنسا حيث تلقى أول علاج للشلل الدماغي وتحسنت حالته للأفضل واستطاع تحسين نطق الكلمات بشكل واضح، ثم التقى بالدكتور روبرت كوليس الذي أكمل علاجه في أيرلندا وأشرف على كتابات كريستي لفترة طويلة.
على نقيض هيلين كيلر وإيمانويل لابورى لم يمر كريستي بصدمة المعرفة، أن يكون جاهلًا بالأشياء والمسميات لأنه بالفعل ولد سليمًا من جهة السمع والبصر والقدرة العقلية أيضًا، ولكن لم يستطع التواصل مع عائلته إلا في سن متأخرة نسبيًا ومع ذلك انتظر طويلًا حتى يحظى بطرق تواصل معقولة.
صنع فيلم (my left foot) باعتماد كامل من سيرة كريستي براون، وحصد الكثير من الجوائز وأهمها بالطبع الأوسكار عن دور أفضل ممثل لدانيل دي لويس الذي استطاع تقليد حركات كريستي وإيصال معاناته في الحركة والحديث بدقة مذهلة.
“بذلة الغوص والفراشة”
على عكس المؤلفين السابقين فإن جان دوميينيك بوبي كاتب “بذلة الغوص والفراشة” لم يولد بمشكلة ما بل تعرض لجلطة في سن الـ43 وأصيب بشلل في جميع أجزاء جسده عدا الجفن الأيسر، وكان قبل الحادث كاتبًا وصحفيًا ومحررًا أدبيًا لعدة مجلات فرنسية.
“بذلة الغوص والفراشة” هي رواية وليست سيرة ذاتية للكاتب ولكنها على شكل مذكرات وأفكار بعضها يمت بصلة للكاتب وهي عن التقييد داخل الجسد وحرية الروح وتساؤلات أخرى واكتسبت شهرتها بالطبع بسبب قدرة الكاتب على تجميع الأفكار وتحريرها ثم إملاء مساعدته الشخصية الرواية حرفًا حرفًا عن طريق تحريك رمش العين عندما تشير إلى أحد الأحرف، فاستغرق العمل على الكتاب عامين وللأسف توفي الكاتب بذات الرئة بعد نشر الكتاب بثلاثة أيام فقط وكأنه توقيت الأيام الحكيم الذي جعلنا نقرأ هذا الكتاب لنعرف أن رمش العين فقط يمكنه صنع تأثير، فما زال يمكنك التفكير والتواصل والكتابة للعالم أجمع.