نجح المخرج الدنماركي من أصول عراقية، علاوي سليم، بمساعدة كتيبة الفنانيين الدنماركيين من أصول عربية (مصر والعراق وفلسطين وسوريا) في تقديم لوحة فنية تراجيدية معبرة عالج من خلال خيوطها المتنوعة أزمة التطرف وكراهية الآخر، وذلك في العمل الفني الرائع Sons of Denmark “أبناء الدنمارك”.
الفيلم الذي فاز بجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية “فيبريسي” في ختام الدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي الذي أقيم مؤخرًا في دار الأوبرا بالعاصمة المصرية، أحدث جدلًا كبيرًا في الشارع الفني العربي، إذ كشف النقاب عن واحد من الملفات التي ظلت لفترات طويلة “محظورة الاقتراب والتصوير”.
يأتي العمل الفني في وقت يتعرض فيه اللاجئون العرب في الغرب لموجات من التنكيل والاضطهاد في ظل خطاب كراهية معتمد أفرزته تيارات اليمين المتطرف في القارة العجوز تجاه الجنسيات الأخرى التي انتشرت في القارة هربًا من بطش الأنظمة الديكتاتورية في أعقاب ثورات الربيع العربي.
نجح العمل في تقديم رؤية مغايرة تمامًا لما هو تقليدي في التعاطي مع هذا الملف الحساس، حيث استطاع المخرج العراقي في أقل من 90 دقيقة تقديم العديد من الرسائل التي يجب أن توضع تحت مجهر الدراسة والاهتمام، سواء من الجانب الأوروبي أم العربي تجنبًا للوصول إلى السيناريو الكارثي الذي داعب خيال فريق عمل الفيلم.
التعريف بالرسالة مبكرًا
لم يستغرق المخرج وقتًا طويلًا لتعريف المشاهد بهوية العمل ورسالته، فمع الثواني الأولى للعرض أماط اللثام عن حبكة العمل الدرامية التي تدور حول التطرف والكراهية على خلفية موجات هجرة العرب نحو أوروبا، مع تصاعد نبرات التطرف على يد من يسمون بالنازيين الجدد، ليبدو الفيلم مهمومًا بفكرة أعمق وهي الصراع الدائم بين الشرق والغرب.
تدور أحداث الفيلم في إطار تشويقي مثير يحبس الأنفاس، فمنذ الوهلة الأولى يأخذك العمل على بساط الريح متجاوزًا 6 سنوات زمنية، ليلقي بك في العاصمة الدنماركية، حيث يقع انفجار إرهابي ضخم يخلف وراءه العديد من الضحايا، بعد انتشار خطاب الكراهية المدعوم بدعوات سياسية لطرد العرب من أرجاء الدولة كافة.
من خلال خط سردي متوازن الرؤى والاتجاهات نقل العمل الأحداث من خلال عين الشاب العراقي البالغ من العمر 19 عامًا، بلا عمل ولا هدف، ويعاني من الخواء الفكري، وكأنه يُمثل حيرة العرب في الغربة
لم ينتظر مخرج العمل وقتًا طويلًا حتى يكشف ملابسات التفجير الذي وقع في إحدى محطات المترو بالعاصمة، حيث نقل الكاميرا إلى زعيم حزب الحركة القومية، مارتن نوردال (يجسد دوره رامسيس بجريج) وهو يتحدث لإحدى القنوات التليفزيونية المحلية، بلغة يعلوها الغطرسة والعنجهية، مؤكدًا ضرورة طرد جميع المهاجرين حفاظًا على أمن بلاده ممن وصفهم بـ”الإرهابيين”.
وهنا تنتقل العدسات إلى الشاب العراقي الأصل زكريا (يجسد دوره الفنان محمد إسماعيل) الذي جاء إلى الدنمارك هربًا من ويلات الصراع في بلاده برفقة والدته وشقيقه، حيث وقع فريسة لإحدى الجماعات المتطرفة التي تخطط لاغتيال نوردال الذي يرغب في التخلص من العرب حفاظًا على نقاء بلاده كما يزعم!
ومن خلال خط سردي متوازن الرؤى والاتجاهات نقل العمل الأحداث من خلال عين الشاب العراقي البالغ من العمر 19 عامًا، بلا عمل ولا هدف، ويعاني من الخواء الفكري، وكأنه يُمثل حيرة العرب في الغربة بين السقوط في فخ التطرف لمواجهة فيض الكراهية المُنبعث تجاههم أو الانسحاق والقبول برغبة الآخر في الطمس والإبعاد.
وبعد نجاح زعيم الجماعة المتطرفة، حسن (جسد دوره الفنان عماد أبو الفزل)، في السيطرة على عقل وفكر وروح زكريا الذي عبر عن الجانب المظلم من الرؤية المعززة لفكرة الانتقام، تورط على إثرها في محاولة فاشلة لاغتيال نوردال، كان لا بد من شخصية مقابلة لتحقيق التوازن وإضفاء تحسينات على الصورة المراد توصيلها، وإلا وقع العمل في فخ تشويه صورة العرب.
وجاء علي (يجسد دوره الفنان زكي يوسف) لأداء هذا الدور، فهو بجانب عمله عضوًا في الجماعة المتطرفة وصديق زكريا المقرب، لكنه في نفس الوقت عميل سريّ لدى أجهزة الأمن، واسمه الحقيقي مالك، فقد رسم السيناريو شخصيته تتسم بالهدوء، يُنصت أكثر مما يتحدث، يُخفي بداخله الكثير، تتبدل حياته تمامًا بعد الإيقاع بزكريا وتسليمه للأمن بعد محاولة فاشلة لاغتيال نوردال، ويتحول إلى شخصية يسكنها الخوف والقلق، يناتبه سؤال دائم يشغل نفسه: إلى أي جانب ينتمي؟
أما الجهة المقابلة التي تعكس واقع وحال التطرف الغربي ضد المهاجرين العرب، فكان اختيار الممثل الدنماركي رامسيس بجريج لأداء دور مارتن نوردال اختيارًا موفقًا للغاية بشهادة النقاد والخبراء الذين رأوا العمل، حيث نجح المخرج في تجسد الرجل لخدمة هدف الفيلم الأساسي، فيرى أن كل ما هو غير أوروبي في مرتبةً أدنى ويجب التخلص منه وزحزحته بعيدًا، مما يدفع الأحدات للأمام ويجعلها تصل للذروة.
صراع الهوية والعنصرية
الصحفية المتخصصة في الشأن الفني شيماء خميس، ترى أن حبكة العمل تمحورت في الصراع بين “مالك” الذي يمزقه خوفه على أسرته وواجبه نحو عمله وإحساسه بالذنب بعد الزج بزكريا في السجون، وعلى الصعيد الآخر تتصاعد أسهم نوردال القيادي اليميني وهو نفس القيادي الذي أنقذه مالك من القتل على يد زكريا الذي يشعل موجة التحريض ضد الأقليات.
ومع اقتراب موعد الانتخابات بدأ نجم زعيم الحركة القومية في اللمعان، معتمدًا على خطابه التحريضي ووعوده بطرد كل اللاجئين الهاربين من الشرق الأوسط من ويلات الحروب، لكن لن تسير الأمور كما يراها السياسي الشهير، إذ يكتشف مالك تورط مارتن مع جماعة متطرفة تسمي نفسها “أبناء الدنمارك” تقرر إرهاب الأقلية المسلمة بالقتل والتشويه بسائل حارق، فيقرر مواجهته للتخفيف من حدة خطابه لتهدئة الأوضاع لكنه يرفض ويصر على موقفه، الأمر الذي يضطر الشاب العربي لممارسة عنف مضاد انتقامًا لزوجته وابنه وخوفًا على الأمن القومي من وصول هذا القيادي المتطرف للسلطة.
وتضيف الكاتبة في مقال لها أن “صراع العنف ليس جديدًا ونحياه جميعًا على مستوى العالم، لكن علاوي قدم معالجة بارعة لصراع الهوية والعنصرية التي يلاقاها اللاجئون في بعض دول أوروبا من المتطرفين الجدد الذين قرروا مواجهة العنف بعنف مضاد أكثر شراسة”.
وترى كذلك أن السيناريو الجيد للفيلم جاء عكس كل التوقعات في أثناء المشاهدة مع أداء رفيع المستوى من الممثلين للشخصيات المركبة التي اعتمدت عليها الأحداث، لكن اللافت للنظر أن الفيلم جاء بنهاية صادمة عكس توقعات الجمهور الذي احتبست أنفاسه قرابة الساعة والنصف تقريبًا في انتظار مصير القيادي المتطرف في مواجهة المهاجرين العرب.
لكن مع انتهاء مشهد قتل مارتن دوي تصفيق حاد من الجمهور احتفاءً بانتقام مالك منه في مشهد تصفه “خميس” بأنه “عبثي يجعل أشخاصًا أسوياءً يحتفون لأسباب منطقية بمشهد انتقامي، وكأن الفيلم ينقل الصراع من عقول الشخصيات للجمهور ويدخلهم الدائرة المفرغة للعنف والعنف المضاد، وهي الدائرة التي نحياها جميعًا بأشكال مختلفة في كل دول العالم”.
توظيف جيد للإضاءة
كما نجح المخرج العراقي في توظيف الكاميرا للتعبير عن أهدافه من وراء العمل، ساعده في ذلك إبداع الممثلين، فبعبقرية ملفتة للنظر استطاع توظيف الإضاءة في تحقيق الهدف ذاته، حيث نقل المشاهد عبر تموجات متباينة من الإضاءة، داخلية وخارجية، إلى آفاق رحبة ساعدت في إيصال رسالة الفيلم بأكثر من طريقة.
علاوي قسم العمل من حيث الإضاءة إلى قسمين: الإضاءة التي تميل للون الأسود وهي التي سيطرت معظم الوقت على مشاهد الفيلم كون معظمه جاء في تصوير ليلي، لكن هذا كان مقصودًا بشكل واضح، وذلك في إشارة للفكر الظلامي الذي كان يسيطر على زكريا وهو ما تكشفه إضاءة الاجتماعات التي تمت بينه وبين مالك وكانت في الغالب ليلًا وفي إضاءة شاحبة.
الوضع كذلك في المشاهد التي تطرقت إلى القيادي اليميني المتطرف، إذ كانت الإضاءة قاتمة والوجوه تبدو شبحيةً لا تكاد نتبين تفاصيلها، وكأنها تُشير للفكر الظلامي ذاته الذي يقبع فيه هؤلاء، فالجميع على قدم المساواة، الكره يحفّهم ويحيطهم من كل جانب، لا فرق في ذلك بين الأوروبي والعربي.
وفي المقابل كانت الأضواء المبهرة واللقطات النهارية التي تمحورت حول أسرة زكريا التي ترفض فكره، كذلك مشاهد مالك مع أسرته بعد عودته إليهم في النصف الثاني من الفيلم هي الأخرى تعتمد بالكامل على الإضاءة الطبيعية بما يوحي بمغزى وإشارة إلي الدفء الأسريّ والأمان في مقابل حياة الظلام الليلية المحفوفة بالمخاطر.
وكان اللون الأحمر هو الآخر حاضرًا وبقوة وذا مغزى ودلالة كبيرة كذلك، فكثيرًا ما تخلل السياق الدرامي العديد من المشاهد المغلفة بالإضاءة المائلة للأحمر، وليس شرطًا هنا أن يكون معبرًا عن لون الدماء كما هو معروف، لكنه في كثير من المواقف كان يشير إلى الكراهية المشتعلة في النفوس، وكأن المخرج يريد أن يطلق صرخة مدوية ضد العنصرية الأوروبية ضد العرب.
تنامي خطاب الكراهية
شهد خطاب الكراهية والعنصرية الموجه للعرب والمهاجرين في أوروبا تناميًا غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية، تعزز ذلك بصعود تيار اليمين المتطرف في العديد من عواصم القارة العجوز، وهو ما ساهم في زيادة معدلات الإسلاموفوبيا بشكل ملحوظ وفق الدراسات الصادرة عن المراكز البحثية الأوروبية.
العديد من المنظمات من بينها اللجنة الأوروبية لمكافحة الإسلاموفوبيا كشفت أن مشاعر الانتباه والخوف لدى فئات واسعة من المواطنين في دول أوروبية مختلفة تزداد خاصة في أحياء التماس مع الأحياء التي يسكن فيها مسلمون
في 2015 أعرب مجلس أوروبا في تقريره السنوي الصادر عن قلقه إزاء التنامي الكبير لظاهرة الإسلاموفوبيا وخطاب الحقد على شبكة الإنترنت في الدول الأوروبية، داعيًا الدول الأعضاء إلى التحرك بشكل حاسم لوقف ما اعتبره “تطورًا خطيرًا” في مستوى الخطاب المتطرف لدى فئات واسعة من الأوروبيين.
العديد من المنظمات من بينها اللجنة الأوروبية لمكافحة الإسلاموفوبيا كشفت أن مشاعر الانتباه والخوف لدى فئات واسعة من المواطنين في دول أوروبية مختلفة تزداد خاصة في أحياء التماس مع الأحياء التي يسكن فيها مسلمون، أو عندما يحدث خلاف أو إشكال مع مسلم، في حين أن هذه الخلافات يمكن أن تكون عادية حينما لا يوجد مسلمون فيها.
وعليه اعتبرت تلك الكيانات أن “صعود اليمين في أوروبا سيعيد العالم إلى فترة بداية الثلاثينيات، الفترة التي تعاظمت فيها قوة النازية والفاشية”، محذرة من التمادي في هذه الممارسات التي سيكون لها تداعيات مخيفة، من ثم يمكن اعتبار فيلم “أبناء الدنمارك” صرخة أولى في هذا المسار الطويل تجنبًا لسيناريوهات كارثية في المستقبل حال استمر الوضع على ماهو عليه، المهم أن تجد تلك الصرخة صدى لها.