لا حديث في الأوساط الاقتصادية اللبنانية إلا عن تزايد رغبات المستثمرين ورجال الأعمال، في اللجوء إلى المحاكم الدولية وخاصة القضاء الأمريكي ومحاكم نيويورك على وجه التحديد، لمقاضاة المصارف اللبنانية، اعتراضًا على قيود غير قانونية، تفرضها على عمليات السحب والتحويل، في إطار محاولات يبذلها البنك المركزي اللبناني للإبقاء على الاحتياطي النقدي وإنقاذ لبنان في واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية التي يعيشها على مدار تاريخه.
شواهد الخوف
في الأيام الماضية رفعت شركة “IMMS” لتجارة النفط، دعوى قضائية بحق بنك البحر المتوسط اللبناني “Bankmed” في ولاية نيويورك، بتهمة عدم رد المصرف وديعة بقيمة مليار دولار، طلبتها الشركة.
بحسب الدعوى المرفوعة، التي اطلعت عليها وكالات عالمية، طلبت الشركة من البنك، استرداد وديعة بمليار دولار في الـ8 من نوفمبر الماضي، ليرد البنك أنه لم يعد لديه جديد في التسهيلات الائتمانية المقدمة للشركة، نظرًا لما أسماه التغير الجوهري المعاكس في الوضع الاقتصادي للبنان والسوق المالية اللبنانية، واتخذ قراره برفض الإفراج عن الوديعة، مما دفع الشركة لإقامة الدعوى في الولايات المتحدة، بعد عشرة أيام فقط من إعلان البنك رفضه مطالبها.
تقول إدارة مصرف “BankMed” إنها علمت بالقضية من خلال مقال نشرته إحدى وكالات الأنباء العالمية، ورفضت بدورها بشدة أي اتهامات لها بعرقلة الاستثمار، كما أكدت أنه “وفقًا للعقود” تخضع العلاقة بين المصرف والشركة للقانون اللبناني والولاية القضائية الحصرية للمحاكم اللبنانية.
التصنيفيات الائتمانية
الأزمة الخانقة في لبنان، انعكست بدورها على أداء البنوك المحلية التي تناور بسمعتها للاحتفاط بالنقد الأجنبي، حتى لا يُهتك عرض العملة المحلية، ورصد ذلك وكالة ستاندرد آند بورز الشهيرة المعنية بالتصنيفات الائتمانية، التي تسيطر على تصنيف أكثر من 80% من إصدارات الدين حول العالم، للشركات والحكومات والبلديات.
أجرت ستاندرد تصنيفًا لـ3 بنوك لبنانية هي: “عودة وبلوم وميد” وخفضهم إلى درجة CCC من –B التي كانت عليها قبل أشهر، وتعني من المخاطرة إلى المخاطرة العالية، وهي الفئة قبل الأخيرة في مستوى جودة الائتمان بالبنوك.
لا تعذر الوكالات الدولية، البنوك المحلية، على إجراءاتها الاستثنائية، مهما كان ما يحدث بالبلدان، من توترات سياسية واقتصادية، بل على العكس، دائمًا تضعها تحت ضغط شديد وتراقب تصرفاتها عن قرب
وبحسب الوكالة، تعاني البنوك اللبنانية من ضغوط متزايدة على السيولة، لا سيما بعد إغلاق المصارف اللبنانية لفترات طويلة، إثر احتجاجات شعبية واسعة، انطلقت في 17 من أكتوبر الماضي، اعتراضًا على تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد.
ولا تعذر الوكالات الدولية، البنوك المحلية، على إجراءاتها الاستثنائية، مهما كان ما يحدث بالبلدان، من توترات سياسية واقتصادية، بل على العكس، دائمًا تضعها تحت ضغط شديد وتراقبها عن كثب وتصدر المزيد من البيانات القاسية، حتى لا تجور البنوك على حقوق المستثمرين، وهو ما يفسر تهديد الوكالة للبنوك اللبنانية، بأن التصنيفات ستظل على قائمة المراقبة السلبية وإذا لم تحسن أداءها في خدمة العملاء، ستعرض نفسها للمزيد من الخفض.
ولا تقف وكالة ستاندرد آند بورز، وحدها في نقد البنوك اللبنانية، بل تشاركها هذه التنصيفات وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني، التي خفضت تصنيف الودائع بالعملة المحلية، لدى أكبر ثلاثة مصارف في لبنان من حيث الأصول وهي: بنوك “عودة وبلوم وبيبلوس”، إلى Caa2 من Caa1، كما خفضت أيضًا تصنيف الودائع بالعملة الأجنبية إلى Caa3 من Caa1، بسبب محدودية الدعم السيادي لمثل تلك الودائع، ما يعني ضعف الجدارة الائتمانية للحكومة اللبنانية.
التقاضي الدولي
إشكالات التقاضي تثير جدلًا شديدًا داخل لبنان، بين الخبراء والمختصين، فرغم التحذيرات الدولية، تبقى الحظوظ الكبرى لكسب القضية في صالح البنوك المحلية اللبنانية ضد عملائها، وفق ما يراه بول مرقص، رئيس منظمة جوستيسيا الحقوقية وأستاذ القانون الدولي.
يؤكد مرقص أن الاختصاص الحصري في النزاع بين البنوك المحلية وعملائها، للمحاكم والقوانين اللبنانية، ويرجع ذلك للعقود المصرفية، بدءًا من عقد التعامل العام الذي يوقعه العميل مع المصرف، والعقد الخاص بنوع معين من الودائع سواء كانت ادخارية أو غيره.
ويكشف أستاذ القانون الدولي سر ما يحدث، إن كانت العقود تنص على اختصاص المحاكم الداخلية بالتقاضي، ويؤكد أن المودعين عادة يحاولون ربط اختصاص المحاكم الأمريكية بأزماتهم، سعيًا منهم للضغط على المصارف المحلية، لا سيما أن الأخيرة تملك حسابات مصرفية في الخارج تعرف باسم correspondent banks، لذا يسعى العملاء للحجز على هذه الحسابات، ولكنه أمر صعب ومعقد.
لا يقف في هذا المربع مرقص وحده، بل تتفق ميريام ضاهر المحامية الشهيرة عن نقابات بيروت ونيويورك وباريس، وتؤكد عدم اختصاص محاكم نيويورك، بالنظر في الدعاوى التي قد يرفعها لبنانيون ضد المصارف اللبنانية أمامها، بما في ذلك الدعوى المقامة ضد بنك البحر المتوسط من شركة “IMMS”، وتشير إلى بنود العقود بين الطرفين، التي تخضعهما معًا للقانون اللبناني ولاختصاص المحاكم اللبنانية.
تكشف ضاهر كواليس التقاضي، فهي في النهاية لعبة الكبار، وإذا افترضنا وجود أي ثغرات في التعاقدات، يمكن النفاذ منها، لخلق صلاحية لمحاكم نيويورك في التقاضي، من سيقدر على ذلك؟ بالطبع لن يكون صغار المودعين، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المودعين “1.7 مليون حساب يحتوي على ودائع لا يزيد متوسطها على 3 آلاف دولار”.
أي أن نحو 92% من الحسابات لن يقدموا على خطوة كهذه، نظرًا للكلفة الكبيرة لأتعاب المحامين في نيويورك، فمن يملك مبلغ 3 آلاف دولار، لن يكلف نفسه بالذهاب إلى محامٍ دولي، للحصول على مميزات جديدة، تذهب لجيب هذا المحامي، ولن يحصل العميل منها حال نجاحه فيها بعد سنوات من التقاضي، إلا الفتات.
لكن في المقابل، تتشكك جمعية المصارف في الثقة المطلقة التي يبدها بعض الخبراء في اختصاص القضاء الدولي بنظر الإجراءات القاسية للبنوك مع عملائها، وتحاول تجنب الخوض في حديث موسع عن مدى قانونية إجراءات البنوك المحلية، خاصة أن تقييد حركة الأموال، لا يدعمه قانون معتمد من مجلس النواب، ما يعني أن الإجراءات قد تكون في غير صالح البنوك اللبنانية، إذا تم اللعب على هذه الثغرة.
ورغم ذلك، لا تحاول الجمعية مخالفة شبه إجماع خبراء القانون، على دعم البنوك المحلية، وتقول: “الإجراءات القاسية التي تعتمدها المصارف، لا شك أنها غير قانونية، لكنها إجراءات ضرورية جدًا، لا بل طارئة، فالمصارف لا يمكنها تحمل إقبال العدد الأكبر من المودعين على سحب ودائعهم، في مدة زمنية قصيرة، والقانون بالطبع يقف في هذه الحالات إلى جانب المودع، لكن الحالة الاستثنائية التي تمر بها البلاد والقطاع المصرفي، تجعل من تلك المخالفات القانونية أمرًا ملحًا وضروريًا”.
لماذا يلجأ اللبنانيون إلى القضاء الدولي؟
التأمل في الأزمات اللبنانية، يؤكد أن هناك أزمة ثقة بين اللبنانيين والقضاء المحلي، ليس فقط في تعامله شبه السلبي من وجهة نظر المتخصصين، مع توحش منظومة المصارف ضد العملاء، ولكن الساسة أيضًا لديهم مشكلة كبيرة معه، ودائمًا يهددون بالذهاب إلى القضاء الدولي، وهناك تصريح شهير لرئيس حزب الكتائب، النائب سامي الجميل في العام الماضي يشير إلى ذلك.
كان حزب الكتائب قد تقدم بدعوى إلى قاضي الأمور المستعجلة في الجديدة، اعتراضًا على معالجة الحكومة لقضية نفايات مكب برج حمود القديم، التي لم تلتزم الشروط البيئية، ولم يلزمها القضاء المحلي بذلك، ولم ينجح لجوء الحزب للتقاضي أمام المحاكم المحلية، في استصدار قرار يعالج الأزمة، فلجأ إلى القضاء الدولي، وخاصة البلجيكي.
اعتبرت الكتائب آنذاك ما يحدث من القضاء، تواطؤ منه مع الحكومة في “جرائم ضد الإنسانية”، خاصة أنها لم تكن الأزمة الأولى للحزب أمام المحاكم المحلية، حيث حاول من قبل تدويل قضية مخالفة اتفاقية برشلونة التي تحمي البحر الأبيض المتوسط من النفايات، بسبب عدم فهم المنظومة القضائية المحلية لكارثية هذه المخالفات على مستقبل البيئة اللبنانية، ووقوفها في صالح الحكومة ما يشرعن له وللبعض اللجوء للقضاء الخارجي والاحتكام له.
ومن غير الواضح حتى اليوم كيف ستنتهي هذه الأزمة المربكة، ووحدهما الاقتصاد اللبناني الذي يواصل تدهوره والمواطن العادي الذي يزداد فقره، أكثر المتضررين من سوء إدارة هذا الملف الشائك.