رسميًا، أعلن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك أن الخرطوم قلصت عدد قواتها في اليمن من 15 ألفًا إلى خمسة آلاف جندي، مضيفًا على هامش مؤتمر صحفي عقده عقب عودته من واشنطن، حيث أجرى هناك محادثات مع مسؤولي الإدارة الأمريكية، أنه “لا يوجد حل عسكري للوضع في اليمن” ويجب إيجاد حل سياسي.
وعن الصلة بين تلك الزيارة التي تعد الأولى له منذ توليه رئاسة الحكومة وهذا القرار؛ أوضح حمدوك أنه لم تُجر مناقشات عن سحب القوات السودانية من اليمن في أثناء لقاءاته التي عقدها في واشنطن، وأن هذه الخطوة تأتي إيمانًا بضرورة تعزيز الخيار العسكري كحل وحيد للأزمة في اليمن.
وقد شاركت القوات السودانية في اليمن عام 2015 بجانب قوات التحالف العربية بقيادة السعودية في مواجهة جماعة الحوثي التي تسيطر على العاصمة صنعاء، وقد أثيرت توقعات خلال الآونة الأخيرة بأن السودان قد يخفض عدد جنوده هناك وذلك تزامنًا مع تقليص الإمارات لوجودها العسكري في عدن الجنوبي في يونيو/حزيران الماضي.
الضغوط الدولية على السعودية
لم يكن قرار تقليص أو سحب القوات السودانية من اليمن قرارًا عشوائيًا، بل خطوة تقف خلفها عوامل متعددة على رأسها الضغوط الدولية الممارسة على السعودية لوقف نزيف الدم في اليمن بعد الإدانات الكبرى التي تعرضت لها المملكة ولا تزال بسبب الانتهاكات التي مارستها قوات التحالف فوق التراب اليمني.
موجات الانتقادات الحقوقية الدولية التي تعرض لها النظام الملكي السعودي ربما كانت السبب الأبرز وراء مساعي ولي العهد محمد بن سلمان لتصحيح الصورة ومغازلة الرأي العام العالمي عبر الإشارة بالخيار السلمي كحل وحيد للوضع في اليمن، وهو ما لم يتحقق دون تقليل عدد القوات المشاركة.
“أعتقد أن العامل الخارجي كان حاسمًا في سحب هذه القوات، ومرتبط تحديدًا بالضغوط الدولية على السعودية لإيجاد حل سلمي للقضية اليمنية”، هكذا علق المحلل السوداني حسن بركية، على هذا القرار مضيفًا إلى ذلك “كلفة الحرب الاقتصادية الباهظة على الدول الخليجية”.
مثلت القوات السودانية المشاركة في الصراع في اليمن نقطة ضغط قوية على حكومة ما بعد الثورة، خاصة أن هذا الملف كان بين قائمة الملفات الأبرز التي أثارت حفيظة الشارع السوداني
بركية في تصريحات له يرى أن هناك رابطًا كبيرًا بين الخطوة السودانية التي أعلنها حمدوك أمس، والقرار الإماراتي قبل عدة أسابيع، بسحب قواتها من الجنوب اليمني، بدعوى “بعد إنجازها مهامها العسكرية المتمثلة بتحرير عدن وتأمينها وتسليمها للقوات السعودية واليمنية”، وتابع “أعتقد أن هناك تنسيقًا بين الدول الأعضاء في التحالف.. عملية الانسحاب لم تكن عشوائية”.
جدير بالذكر أنه لا توجد إحصائية رسمية عن عدد القوات السوادنية المشاركة في اليمن، ورغم ما أعلنه رئيس الوزراء بشأن أن العدد قرابة 15 ألف جندي، فإن مصادر أخرى تشير إلى أنه بين 30-40 ألفًا وغالبيتهم من قوات “الدعم السريع” الخاضعة تحت إمرة محمد حمدان دقلو “حميدتي” المتهمة بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين في دارفور غربي السودان.
رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك
ضغط الشارع السوداني
مثلت القوات السودانية المشاركة في الصراع باليمن نقطة ضغط قوية على حكومة ما بعد الثورة، خاصة أن هذا الملف كان بين قائمة الملفات الأبرز التي أثارت حفيظة الشارع السوداني بعدما رهن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير القرار السياسي لبلاده باسترضاء قوى خارجية على رأسها السعودية.
وظلت هذه النقطة منذ 2015 وحتى اليوم خنجرًا في ظهر النظام الحاكم، بدءًا بالبشير الذي اتهمته الثورة بتغليب مصالحه الشخصية على حساب المصالح العليا للبلاد وكرامة شعبه واستقلالية قراره، مرورًا بالمجلس العسكري الذي كان ضمن أعضائه حميدتي الذي يوصف بأنه مندوب السعودية والإمارات في بلاده وكان الرجل الأكثر تأثيرًا في مشاركة القوات السودانية التابعة للفرقة التي يرأسها “الدعم السريع” في اليمن.
ليس اليمن وحده الذي يحارب فيه قوات تابعة للسودان نيابة عن دول الخليج
وصولًا إلى حكومة حمدوك التي وجدت نفسها عاجزة عن تقديم مبررات للشارع بشأن الإبقاء على قوات سودانية تحارب بالنيابة عن السعوديين والإماراتيين ضد الحوثيين، وهي الورقة التي أستخدمت في السابق للحصول على المنح والمساعدات، وهو ما لم يعد صالحًا اليوم في ظل الإدارة الجديدة للبلاد.
أميرة ناصر الكاتبة المصرية المتخصصة في الملف السوداني أوضحت أن الأصوات المتزايدة في السودان بضرورة ابتعاد “سودان ما بعد الثورة” من لعبة المحاور الإقليمية، كان لها أيضًا دور في عملية السحب من الحرب اليمنية، لافتًا إلى أن هذا الملف كان يمثل صداعًا فى رأس حكومة حمدوك.
وأضافت في حديثها لـ”نون بوست” أن قرار تقليص العدد جاء استجابة لمطالب شعبية تصاعدت في الآونة الأخيرة بعد الأرقام المفزعة التي كشفتها جماعة الحوثي بشأن عدد القتلى في صفوف القوات السودانية في اليمن، وهي النقطة التي أثارت حفيظة الشارع السوداني عن بكرة أبيه.
غير أن الكاتبة المصرية المتخصصة في الملف السوادني لم تستبعد الإبقاء على عدد ليس بالقليل من العناصر التابعة للجيش السوداني المشارك بجانب قوات التحالف في المناطق الحدودية مع السعودية لصد أي هجوم يشنه الحوثيون على المملكة، في محاولة وصفتها بأنها “مسك العصا من المنتصف”.
وكانت جماعة الحوثي قد زعمت أنها تسببت في خسائر كبيرة للعناصر التابعة للجيش السوداني في اليمن، وحسبما قال العميد يحيى سريع، المتحدث العسكري باسم الجماعة فإن خسائر الجيش السوداني تجاوزت ثمانية آلاف قتيل وجريح، بينهم 4253 قتيلاً.
ليس اليمن وحده الذي يحارب فيه قوات تابعة للسودان نيابة عن دول الخليج، ففي نوفمبر الماضي اتهم فريق من الخبراء التابعين للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة عددًا ممن الدول الأعضاء في المنظمة بخرق منظومة حظر الأسلحة لأطراف النزاع الليبي، وذلك عبر تقديم الدعم العسكري للواء المتقاعد خليفة حفتر تزامنًا مع شن قواته هجومًا على العاصمة طرابلس قبل عدة أشهر.
وأفاد التقرير أن السودان يأتي على رأس تلك الدول، عبر حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، الذي لم يلتزم بالعقوبات الأممية، إذ أرسل قرابة 1000 جندي من قواته إلى الشرق الليبي لحماية بنغازي في يوليو/تموز الماضي، وتمكين قوات حفتر من الهجوم على العاصمة الليبية.
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك
في مقابلة أجراها مع مركز أبحاث أتلانتيك كاونسل الأمريكي قال فيها سنعمل على إعادة القوات السودانية المشاركة في اليمن فهو إرث تركه النظام السابق و اليمن لا حل عسكري فيها سواء من طرفنا أو من أي طرف آخر ويجب حله عبر الوسائل السياسية. pic.twitter.com/iuuuo0uxWk— منير القياضي (@MuneerYEM) December 7, 2019
التقرير أكد السمعة السيئة التي باتت عليها قوات الدعم السريع وقائدها، إذ يبدو أنها أصبحت أكثر استعدادًا لسفك المزيد من الدماء مقابل الحصول على مكاسب مادية أو عينية، فمن اليمن إلى ليبيا تنتشر قوات حميدتي لتدافع بالوكالة عن أنظمة وحكومات أخرى لها أجندات متباينة في الأراضي محل القتال، وهو ما أشعل الشارع السوداني ضده في الآونة الأخيرة.
وفي المجمل، رغم التفسيرات المعلنة بشأن قرار حمدوك تقليص عدد القوات السودانية في اليمن التي تتمحور حول تغليب الحل السياسي وإعادة النظر في الخيار العسكري المعتمد طيلة السنوات الأربعة الماضية، استنادًا إلى الضغوط الدولية على السعودية، فإنه يأتي في الوقت ذاته ضمن إطار مساعي امتصاص الغضب الشعبي وتجنيب الجبهة الداخلية المزيد من التشقق.