“إن الذي وهب الورود حنانها، نهل المشاعر من جفون الضاد، لغة الجنان وحورها، عشقي أنا لبحورها، عشق الفقير لزاد.”
هذه مثنوية لقصيدة الشاعرة “رنا بسيسو” التي أقامت حفل توقيع وإشهار لديوانها الصادر مؤخرًا عن دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية في الـ12 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في المركز الثقافي الملكي بحضور عدد من الكتاب والأدباء والمهتمين.
“رنا” الحرف الرقيق المرهف الرومانسي في طلته ينقل قضايا المرأة والوطن بلوحات فنية تطل على القارئ بابتسامة وتباهٍ واعتزاز ترسم في تفاصيلها إيقاعًا وحركة وألوان مشوقة وعطور لا يجف أريجها، هكذا عرفت نفسها “لنون بوست” الذي أجرى حوارًا خاصًا معها، صاحبة الحس المرهف في إلقائها بصوتها الشجي ذي العاطفة الجياشة، تُخرج مكنوناتها وكل ما يجول في خاطرها بروح شعرية عذبة، إذ إنه متنفس الشاعر ورفيقه في كل درب، وانعكاس لما بداخله من مشاعر ووجدانيات ممزوجة بين الحب والأمل.
وكنوع من التجديد والتطوير في الشعر العربي المعاصر آثرت بسيسو في ديوانها “أنا وأنت” اختيار مثنويات تعتمد على القالب الشعري المثنوي المنظوم على بحر واحد، كل ومضة شعرية لها فكرة وعنوان مستقل منظومة على بحر من بحور الخليل، على هيئة بيتين من الشعر ينتهيان بقافية واحدة، ما يمنح الشاعر حرية واسعة في النظم، ويفتح له الباب لمطولات كثيرة يضرب بها في نواحٍ عدة تترنم فيه الجمل، وهي بأوزانها وقوافيها تلامس شغاف القلوب المحبة والمجروحة والمتألمة والمثقلة بتجارب ومعاني الحياة.
تعرف المثنويات بالنظرة الفلسفية التي ترى أن هناك وجودًا لمصطلحين أساسيين، غالبًا ما يكونا متعاكسين، مثل الخير والشر، النور والظلام، الذكر والأنثى، ولكن ثمة أمر يجب تسليط الضوء عليه، فالمصطلحات ممكن أن تكون صحيحة أو خاطئة حسب ما تدفعها حقيقة الأشياء، فالمثنوية ليست حبيسة المصطلحات بل هي عقيدة.
وفي وصف كتاب “سلطان العارفين لجلال الدين الرومي” المثنوي المزدوج والمنظم على بحر الرمل هو تعريف يطال في الشكل فقط ويغفل في المضمون، مثل المثنوي بكلمات وتعابير قرآنية، يظن أنه يصف القرآن الكريم نفسه ولكن من طرف خفي يشير إلى المعرفة مهتديًا بالقرآن، وبهذه الصفات القرآنية يرمز إلى مجموعة من القضايا المعرفية المؤلفة له، لأن الرمز أسلوب من الأساليب التي يقدم من خلالها أفكاره.
ومنذ عرف الأدب الفارسي هذا النوع من النظم، توزعت أغراضه بين ثلاثة أقسام هي: المثنويات التاريخية والصوفية والتربوية.
لذلك ارتأت الشاعرة بسيسو تجربتها الشعرية في مثنوية “أنا وأنت” من الرمز العملاق جلال الدين الرومي الذي أبدع في ظلال مثنوياته، فهي تعد من أوائل الشعراء العرب الذين يصدرون ديوان مثنوي على خطى شعراء التصوف، وعلى رأسهم جلال الدين الرومي ومحمد إقبال وأبو المجد مجدود بن آدم سنائي الغزنوي وغيرهم، الذين ظهرت مكانتهم الشعرية ضمن تاريخ الشعر الصوفي ودورهم الريادي في الابتكار والخلق والتجديد على مستويات مختلفة.
في نظر بسيسو الريادة الأدبية تتمثل في التجديد في الحركة الشعرية
ديوان بسيسو هو الأول في تاريخ الأدب العربي الحديث بعد ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي إلا أنه يختلف من حيث البناء الفني لديوانها على حد وصفها ووصف أستاذة النقد والأدب في الجامعة الأردنية، حيث قدم الناقد زياد صلاح شهادة إبداعية جاء فيها:
“على مسافةٍ جماليةٍ مدروسةٍ، من مبنى قريبٍ كالقلب، يسكن فيه معنً يشبيه بالحب، بعيدًا جدًّا عن أحكام سلطة النقد الكلاسيكي وشروطه الصارمة، وقريبًا بما يكفي، من نزعة الشعور المتفرّد ووحدات التصور الناجمة عنه، أقف كي أرصدَ الكثيرَ من المحاولات المثيرة، لإعادة اكتشاف الذات، عن طريق اختبارها بمسبار الآخر، إن شاعرتَنا المبدعة – في نظري – تُحيل نفسها على الآخر، كما تحيل الكلمة على معناها، وهذا النوع من الإحالات، هو أشبه بالشباك المصنوعة من خيوط الفطرة والخبرة، التي يصطاد بها الشعراء الملهمون، ببراعة، أسماك التأويل من بحر الشعر، حتى يحوزوا على تعدد القراءات الاستغراقية النوعية، ويظفروا بتجددها، وفي العنوان، تقدم الضيف المخاطب، وهو “أنت”، على المُضيف المتكلّم، وهو “أنا”، الذي يعبر عن ثنائية جدلية تراوح بين فقه اللغة وفلسفة الوجود، ويبدو أن ضيفها، قد “شرب حليب السباع”، ودخل معها بالفعل إلى قلبها، وإلا، لما كان بين أيدينا هذا المنجز الشعري البديع، أما في الخارج، فهنالك واقعٌ قاتمٌ، يقف على ساقٍ واحدة، بانتظار أن يتغير لونه الذي يصطبغ به مجرى الزمن.
وفي نظر بسيسو الريادة الأدبية تتمثل في التجديد في الحركة الشعرية، وتقول في أبيات ديوانها:
عرش الهوى
ولي في الهوى عرش مددت جناحه
فتاهت عن الشمس النجوم التوابع
إذا قلت أهوى يا سديمًا هوى المدى
من النور حسنى، ما لمثلي منازع
وومضة أخرى لديوان “أنا وأنت”:
غفلة الريح
أنا ريشة من غفلة الريح أدبرت
لها قبضة الأقدار أن تبسط الكفا
لها حلمي الجوري يلهث خلفها
لها روضها المنشور بالنور لا جفًا
بسيسو أحبت الشعر منذ نعومة أظافرها، فقد نشأت في أسرة محبة ومشجعة للشعر، في هذا الصدد تقول: “شجعني والدي على القراءة ونظم الشعر، وإلى جانبه كان دكتور اللغة العربية عزمي الصالحي أبرز من شجعني في مسيرتي الشعرية، ويقول لي أنتِ متميزة وعليك الاستمرار في نهجك الشعري على خطى نهج مشابه لنهج الشاعر عمر بن أبي ربيعة”.
الشاعرة بسيسو ذات الأصول الفلسطينية ولدت في الكويت وعاشت وترعرعت في الأردن، فكتبت لفلسطين ولبلدها الثاني الأردن، كما تصفه. ومن مؤلفاتها كتاب “لحن الحرير” وديوان “أنا وأنت”، ولها مخطوطة قيد الطباعة بعنوان “رقصة النيروز”، وكلها موضوعات تكتب من المرأة وإليها، ومن الوطن وإليه.
التحقت بسيسو بملتقى عمون للأدب والنقد، وألقت العديد من الأشعار وشاركت في الأمسيات الشعرية والمهرجان الشعري الذي أقيم في المكتبة الوطنية بعمان، وكرمها بيت الثقافة والفنون.
ومن جانب آخر عملت بسيسو كمضيفة طيران في بداية حياتها فترة من الزمن بعد أن درست دبلوم إدارة سياحية ودبلوم تكنولوجيا المعلومات إلا أن الشعر بحث عنها وأراد لها التمعن في فضاءات الصور والألوان وفخامة الجملة الشعرية فدرست بكالوريوس وماجستير اللغة العربية وآدابها.
ترى بسيسو أن معيار التجديد والتطوير مهم لأي شاعر، فالشعر الفلسطيني الحديث له أعلامه الذين يرتقون به ويرتقي بهم
تقول بسيسو: “لا اختلاف بين التحليق فوق الغيم والتحليق في الخيال، ففي كلٍ متعة لا يشعر بها إلا من يخوضها.. لطالما طمحت أن أحلق فوق الغيم وكان لي ذلك وحين صافحت الخيال حملني معه وراقصني فطاوعته وطاوعني ورسمته ورسمني إلى أن امتزجت ألواننا”.
كما ترى بسيسو أن معيار التجديد والتطوير مهم لأي شاعر، فالشعر الفلسطيني الحديث له أعلامه الذين يرتقون به ويرتقي بهم، وتقول: “هناك الكثير من الكتاب يحاولون الاتكاء على خطى من سبقوهم فلم ينطلقوا للأسف ولم يحاولوا أن يضعوا لهم قاعدة خاصة فينتجوا شيئًا جديدًا، والشعر من الفنون الأدبية العظيمة التي يتكئ عليها التاريخ ليصعد ويرى صورته في مرآته، فالشعر ديوان الثقافة والحضارة والثورات ينقلها ويتناقلها يحمّس ويواسي ويتعاطف ويبث وينزوي أحيانًا ويُحبط أحيانًا أخرى”.
وعن أهمية الشعر في دعم القضية الفلسطينية، تقول: “الشعر يحمل القضية وتحمله، ولا غنى لواحد عن الآخر وأتمنى أن تثور كل الأقلام الفلسطينية وترفع علم فلسطين وتتوج الأعمال وتتزين القصائد بالكوفية وشعار العودة لتردد كل القصائد الفتية والهرمة أننا عائدون”.
ولطالما عاشت بسيسو مرارة الغربة فلم يغب عنها وطنها، والقصيدة لم تكن في يوم من الأيام مجرد كلمات تلقى على المسامع في قالب من الوزن والقافية، بل هي في حد ذاتها معاناة المغتربين وتحمل لهبًا من الشوق، فتختم حديثها قائلةً: “المساحة الجغرافية المقطعة بسكاكين الدول الطامعة في خيراتنا قبل التاريخ وبعده والأسلاك الشائكة التي تدمي القلوب الشريفة هي التحديات التي تواجهها الأقلام الحرة، أطمح بأن تذلل هذه العقبات وتمحى الحدود بكلماتنا وإراداتنا وكراماتنا، أطمح أن أقود سيارتي بمحاذاة نهر النيل ثم ألقي التحية على أهلي في غزة وأتوقف للصلاة في القدس ثم أتنفس من بحر حيفا وأقطف تينة من طولكرم وأتنعم لقمة كنافة من نابلس”.