تمثل الأموال المتداولة خارج البنوك الرسمية في الجزائر، معضلة بالنسبة للسلطات خاصة أمام اتساع رقعة الأزمة المالية التي تمر بها البلاد منذ عام 2014، وبقيت جميع المبادرات التي طرحتها حكومات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة المتعاقبة مجرد حبر على ورق.
يقدر خبراء اقتصاد الأموال المكتنزة خارج البنوك وما يجري تداوله أيضًا في الأسواق الموازية، بنحو 30 إلى 50% من الناتج الداخلي الخام للبلد، في وقت تقف فيه الحكومة عاجزة عن استرجاعه رغم حاجة البلاد الملحة لهذه الأموال بعد انهيار أسعار النفط وشح مداخيل البلاد.
مليارات مكتنزة في البيوت
وزير المالية الجزائري محمد لوكال، أقرّ في لقاء جمعه مع أعضاء اللجنة المالية بمجلس الأمة الجزائري (الغرفة الثانية للبرلمان)، بعجز الحكومة عن احتواء الأموال المتداولة خارج السوق الرسمية.
وبلغة الأرقام قال وزير المالية، إن حجم مدخرات الجزائريين في المنازل بلغ 2500 مليار دينار، وحث بالمقابل البنوك على ضرورة استقطاب أموال الجزائريين عن طريق الخدمات الإسلامية وتسهيل عملية جمع الأموال المكدسة في السوق السوداء عن طريق الخدمات الإسلامية.
وألح محمد لوكال على “ضرورة رفع العراقيل الإدارية على كل المشاريع الاستثمارية”، مؤكدًا في السياق ذاته أن “البلاد مرت بمرحلة صعبة بسبب تراجع عائدات النفط”.
حبر على ورق
طرحت حكومات بوتفليقة المتعاقبة منذ أن طرقت الأزمة أبواب الجزائر، منتصف 2014 بسبب انهيار أسعار النفط، عدة مبادرات بقيت كلها مجرد حبر على ورق، أبرزها المبادرة التي أطلقت عام 2016، المتمثلة في أكبر عملية استدانة داخلية بطرح سندات خزينة للجزائريين، بنسبة فائدة تقدر بـ5% لأجل 3 سنوات.
تعهد المرشح المحسوب على التيار الإسلامي في البلاد عبد القادر بن قرينة، بتنشيط “بورصة الجزائر” التي تعتبر اليوم مؤسسة مالية جامدة لا تؤدي أي دور مالي
وبعد فشل هذه المبادرة، ارتأت الحكومة عام 2017، إطلاق “مصالحة ضريبية”، تسمح لكل مواطن بإيداع أمواله في البنوك الحكومية دون سؤاله عن مصدرها، وأقرت نسبة فوائد تلامس 7%، لكن هذه المبادرة فشلت، ولم تتمكن من جمع إلا ما يقارب 850 مليون دولار.
وللمرة الثانية على التوالي أطلقت الحكومة عام 2018، سندات دين دون فوائد كانت عن طريق صكوك إسلامية تفاديًا لإثارة جدل “الربا”، ولقيت هذه المبادرة نفس مصير المبادرات السابقة.
كذلك عجز المتنافسون الخمس على كرسي الرئاسة في البلاد، عن طرح حلول واقعية لهذه “المعضلة” واكتفوا بتقديم حلول سطحية لا تفي بالغرض المطلوب، وحين تطرقه للحديث عن السوق الموازية للعملة الصعبة، اكتفى المرشح لرئاسة البلاد بتقديم وعود تقضي برفع قيمة المنحة السياحية إلى حدود 1500 يورو، بينما تعهد المرشح الرئاسي على بن فليس، بعصرنة البنوك وإنشاء سوق مالية متطورة.
أما المرشح المحسوب على التيار الإسلامي في البلاد، عبد القادر بن قرينة، فقد تعهد هو الآخر بتنشيط “بورصة الجزائر” التي تعتبر اليوم مؤسسة مالية جامدة لا تؤدي أي دور مالي.
ويرى الخبير الاقتصادي الجزائري ناصر سليمان، أن الكتلة النقدية المتداولة في السوق الموازية تصنف في خانة أبرز المعوقات التي تعترض مسار الاقتصاد في البلاد، وهي في حاجة ملحة لهذه الأموال بعد انهيار أسعار النفط وشح مداخليها والضعف الكبير الذي تعاني منه الخزينة العمومية.
تضارب في الأرقام
قال سليمان ناصر لـ”نون بوست” إنه من الصعب جدًا معالجة هذه المشكلة بسبب التضارب الكبير المسجل في الأرقام، واستدل بتصريحات المحافظين الذين تداولا على بنك الجزائر في العامين الماضيين حيث كشف محافظ البنك السابق الذي هو نفسه وزير المالية الحاليّ محمد لوكال في نهاية 2017 أن الأموال المتداولة خارج الدائرة البنكية تساوي 4675 مليار دينار، بينما قال عمار حيواني الذي خلفه في المنصب إن الكتلة النقدية المكدسة خارج الهيئات المالية الرسمية تعادل 5 آلاف مليار دينار.
وبخصوص مقترح الاعتماد على الخدمات الإسلامية لاستقطاب أموال الجزائريين، ذكر المتحدث أنه سبق ووجه انتقادات لوزير المالية الجزائري لأنه كان من المفروض أن يطرح هذا المقترح الهيئات المالية باعتباره مطلبًا شعبيًا لا كإجراء.
ويرى الخبير الاقتصادي الجزائري، أن: “المالية الإسلامية لن تحقق الغرض المطلوب”، ولاستقطاب هذه الكتلة النقدية يقترح المتحدث ضرورة تفعيل القوانين المجبرة على التعامل بالشيكات ووسائل الدفع الكتابية الأخرى إضافة إلى البطاقات البنكية للتقليل من التعامل الكبير بالسيولة خاصة في السوق الموازية.
وأكد قائلًا: “إجبارية التعامل بهذه البطاقات يفرض على صاحبها تغذية حسابه بالرصيد الكافي من الأموال، خاصة البطاقات ذات الرصيد الدائن مما يعني إجبارية ضخ الأموال في البنوك”.
القضاء على سوق الصرف الموازية
إضافة إلى ذلك يقترح سليمان ناصر ضرورة القضاء على سوق الصرف الموازية في الجزائر بتحرير سوق الصرف بشكل عام، مشيرًا في هذا السياق إلى أن الجزائر تصنف في خانة البلدان القليلة في العالم التي ما زالت تعاني من هذه المشكلة أي وجود سوقين للصرف وبينهما فارق كبير في السعر يصل إلى نحو 50% رغم وجود الأطر القانونية التي تسمح بإنشاء مكاتب الصرف المعتمدة التي تتطلب إعادة النظر في ظروف عملها من طرف السلطات.
مهدي زنتوت، لـ”نون بوست”: “الاعتماد على الخدمات الإسلامية لاسترجاع الأموال المتداولة خارج البنوك، غير كافٍ لعدة أسباب أبرزها وجود بنكين إسلاميين فقط من البنوك المتوافرة على مستوى التراب الوطن”.
إضافة إلى ذلك أوضح الخبير الاقتصادي الجزائري سليمان ناصر، أن توحيد سوق الصرف من حيث السعر بين البنوك ومكاتب الصرافة المعتمدة، مع تسجيل اختلاف بسيط في الهوامش من شأنه جعل المتعاملين الاقتصاديين يلجأون إلى البنوك لتقديم أموالهم من العملة الوطنية بغرض تحويلها أو إلى مكاتب الصرافة، وتكون هذه الأخيرة مضطرة إلى تحويلها للبنوك بقوة القانون لإيداعها والتصريح بها.
بدوره، قال النائب في المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري)، مهدي زنتوت، لـ”نون بوست”: “الاعتماد على الخدمات الإسلامية لاسترجاع الأموال المتداولة خارج البنوك غير كافٍ لعدة أسباب أبرزها وجود بنكين إسلاميين فقط من البنوك المتوافرة على مستوى التراب الوطني، يتعاملان وفقًا للخدمات الإسلامية”.
واقترح المتحدث، ضرورة استبدال العملة الورقية المتداولة حاليًّا، أي أن تسحب جميع الأوراق وتستبدل بأخرى في ظرف زمني لا يتعدى ستة أشهر، وبحسب مهدي زنتوت فإن بنك الجزائر يصنف الفئات الورقية الأكثر تداولًا ليعلن سحبها، مما يجعل عودة الكتلة النقدية المتداولة أمرًا إجباريًا.