تركت “ديزي تان” زوجًا مخبولًا يسيء معاملتها، وثلاث فتيات، مُستقلة واحدة من أواخر السفن المتجهة من شنغهاي إلى سان فرانسيسكو عام 1949، وقد ابتسم لها الحظ كونها تمكنت من الخروج قبل أن تصبح الصين “حمراء”، ويفوز الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية في العام ذاته.
لم شمل ديزي وزوجها الجديد – الذي سبقها إلى أمريكا – في سان فرانسيسكو، ثم انتقل الزوجان إلى أوكلاند، وبعد ذلك بسنوات ولدت “آمي” عام 1952 على وجه التحديد.
“كان من المفترض أن أكون أمريكية، لكنني وجدت نفسي مولودة لوالدين غريبين من الصين، ورغم سخافة الأمر، فإنني رغبت بشدة أن أصير أمريكية، جزء مني أراد ذلك لأنني كنت مختلفة عن الأطفال من حولي”.
معاناة المهاجرين إلى أمريكا قد تبدو جلية للجميع، لكن معاناة الأطفال الذين يولدون لذلك الجيل المهاجر لم يُسلط عليها الضوء بشكل كبير، فهم يجدون صعوبة في التأقلم، لا يعرفون هل يشعرون بالانتماء إلى أمريكا لأنهم ولدوا فيها أم إلى وطنهم القديم الذين لم ورُبما لن يزوروه أبدًا، لذلك تبدأ لديهم أزمة البحث عن هوية خاصة ومكان ينتمون إليه حقًا.
اللغة الأم في مذكراتها غير المقصودة
من قلب تلك المعاناة وُلِدت آمي تان التي نشأت لتجد والدتها لا تجيد الإنجليزية بشكل تام، أو مفهوم جزئي على الأقل، ولم تحظ بذلك القرب مع أمها بسبب حاجز اللغة، لكنها تمكنت من تخطي الأمر باستخدام خيالها، لقد عرفت منذ سن صغيرة أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا، أنها مُتغيرة ولا تتعلق بالعرق، بل تتعلق بها كشخص وبما ترغب في أن تصبح عليه.
عندما كانت آمي طفلة لم تعرف عن الصين أكثر من تلك الصورة النمطية المتداولة عنها، لكنها وعت أن بعض أفراد أسرتها كانوا محظوظين بما يكفي كي يتمكنوا من الخروج، كانت تفكر في الصين كسجن يرغب الجميع في الفرار منه، كما أن والديها اعتبرا نفسيهما محظوظين لأنهما كانا قادرين على المغادرة قبل انتهاء الحرب الأهلية.
كانت الرسائل تصلهم بشكل متقطع من الصين، تصف العمل الشاق ونقص الغذاء والملابس والنظافة، صور أولئك الأقارب كانت صامتة وحزينة وغارقة بالعرق، لذلك شعرت أن أمريكا الجنة في مقابل تلك الحياة.
رغم عيشها في الحاضر، فإن الماضي كان يسيطر بشكل كبير على حياتها، لم تكن آمي تستطيع التواصل بشكل جيد مع والدتها، لكن هذا لم يعن أن الشعور بينهما لم يكن قويًّا، بشكل ما شعرت آمي أنها ووالدتها أختين يشعران ببعضهما البعض، ورغم استخدامها لغة بسيطة مع والدتها، فإن ذلك التواصل والشعور القوي بالترابط بينهما ولد منها الكاتبة التي صارت عليها.
لم يحاول والداها تعليمها الصينية، لأنهما ظنا أن هذا سوف يؤثر على تعلمها للإنجليزية، في الوقت نفسه كانت آمي تعاني بالفعل مع الإنجليزية، لأنها كانت تحاول تبسيطها من أجل التواصل مع والدتها. كان متوقع لـ”آمي” أن تدرس العلوم، بل إن رئيسها نصحها بأن تتجه إلى الإدارة لأن الكتابة أسوأ ما تجيده، وهذا الرأي لم يرض آمي العنيدة، فجعلها تعمل بجهد أكبر على كتابها.
عرفت آمي أنها ليست بذلك السوء عندما أدركت أنها تستخدم لغة مختلفة مع والدتها، بسيطة وواضحة، على عكس اللغة التي تستخدمها في العمل، فهي تستخدم إنجليزية مختلفة، أكثر صرامة وأفضل بكثير.
لهذا عندما حاولت آمي الحديث عن تجربتها الكتابية في كتابها “حيث يبدأ الماضي: مذكرات كاتبة” Where the Past Begins: A Writer‘s Memoir، تحول الكتاب إلى “مذكرات غير مقصودة”، بسبب غرقها في والدتها.
نادي البهجة والحظ
صدرت رواية آمي تان الأولى عام 1989، تحت عنوان “نادي البهجة والحظ“ The Joy Luck Club، الذي ترجمته إلى العربية عام 2007 رندة أبو بكر، وصدر عن دار “أزمنة للنشر والتوزيع“، ووصلت الرواية فور صدورها إلى القائمة النهائية في “جائزة الكتاب الوطنية” National Book Award، والقائمة النهائية لجائزة “دائرة نقاد الكتب الوطنية” National Book Critics Circle Award.
الكتاب مقسم إلى أربعة أقسام، وتلك الأقسام قُسمت بدورها إلى ثماني شخصيات كل منهم يروي فصلًا واحدًا، جاءت الفصول على شكل قصص قصيرة تعطينا لمحات عن عوالم وحياة نساء صينيات هاجرن إلى أمريكا من أجل غدٍ أفضل لأطفالهن وأنفسهن، طامعات في بداية جديدة، ويركز الكتاب على علاقة الأمهات الهشة ببناتهن المولودات في أمريكا، وعدم قدرة هؤلاء النساء على التخلي عن تقاليدهن الصينية.
تقول آمي تان في حوارها مع مجلة The new york times: “كان عمري 16 عامًا – بعد وفاة أبي – أخبرتني أمي أنها كانت متزوجة من رجل آخر في شنغهاي ولديها منه ثلاث بنات، لم توضح سبب وجودهن في الصين بينما كانت هي في كاليفورنيا، لكنها لم تستطع الشرح لي لأنني كنت أمريكية، وكانت هذه جملتها الخاصة برثائها المعتاد عندما لم أكن أستطيع تقدير حجم مآسيها، مثل انتحار والدتها وتركها بمفردها مهجورة في سن التاسعة، لقد أرتني صورة لابنتها الوسطى (جيندو)، كانت جميلة، تشبهها، تناسب الصور النمطية للفلاحين هناك، كانت ترتدي قبعة مخروطية وملابس مزارعين، وتقف بجوار حقل أرز، عندها أدركت أن تلك الحياة كانت ستكون حياتي”.
تحول كتابها “نادي البهجة والحظ” إلى مسرحية عام 1993، وفي العام نفسه اقتبس منه المخرج وين وانج Wayne Wang فيلمًا سينمائيًا يحمل العنوان ذاته.
“آمي تان” وحواسها السرية
عندما كانت آمي في الـ14 من العمر اكتشفت أن أخيها – ومن بعده أبيها – مصابان بورم في المخ، اعتقدت والدتها التي كانت تهتم بالأمور الروحية أن هناك شيئًا خاطئًا حدث لهما، وأنها سوف تحاول معرفة ذلك الشيء بكل الطُرق وتصلحه.
كان والد آمي كاهنًا، مؤمنًا بالمعجزات، وأن الله سوف يتولى أمره، لكنه مات بعد ذلك بستة أشهر، مما أظهر لآمي جانبًا جديدًا من والدتها التي بدأت تعتقد أن ما يحدث لهم لعنة، وبدأت في الظن أن ما يحدث لهم بسبب غضب والدتها – التي ماتت عندما كانت صغيرة – منها.
تقول آمي في TED Talk: “كانت فكرة الموت تحوم حولي منذ الصغر، لأن أمي ظنت أنني سأكون التالية، وأنها سوف تموت بعدي، وعندما يواجهك مشهد الموت، تبدأ بالتفكير في الكثير من الأشياء.. أنت تصبح مبدعًا جدًا، بمعنى البقاء على قيد الحياة”.
يتضح لنا أثر ذكريات طفولتها في روايتها “مئة حاسة سرية” The Hundred Secret Senses التي كتبتها عام 1996، وترجمها إلى العربية عام 2017 المترجم الأردني عاصف الخالدي، لتصدر عن “الدار الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن”.
رشحت الرواية سنة صدورها لنيل جائزة “أورانج للكتابة النسائية” Orange Prize for Fiction، فئة الخيال.
ترتكز قصة الرواية على العلاقة بين فتاة “كوان” الصينية، وشقيقتها الصغرى الأمريكية “أوليفيا”، التي تبدأ علاقتهما عندما يموت والد أوليفيا وتأتي كوان لتعيش مع العائلة.
تشعر أوليفيا بالحرج من كوان لكونها غير معتادة على العادات الأمريكية، كما أنها لا تتحدث الإنجليزية جيدًّا، ثم يبدأ ربط كوان بأوليفيا عن طريق خط سردي من الحكايات والخرافات الصينية، فكوان تعتقد أنها تملك عين “الين”، مما يعني أنها تستطيع رؤية الأشباح، وتتحدث معهم في الليل بالصينية، بينما تلتقط أوليفيا اللغة منها شيئًا فشيئًا.
تظن كوان أن قصصها عن الأشباح ليست مجرد قصص، بل حيوات عاشتها في الماضي، وفي وسط هذا العالم المنقسم بين ثقافتين مختلفتين تنشأ علاقة كيوان بأوليفيا، لتكوين هوية أمريكية آسيوية مزدوجة لهما.
في هذه الرواية نكتشف أبعادًا أخرى لحواسنا وللحرب والدمار الذي حدث في وطن آمي، وتبدو الرواية ليست إلا محاولتها للكتابة عن تلك الحياة التي لم تحيها، ولكنها ظلت تؤرقها طوال الوقت.
كيف تنقذ سمكة من الغرق؟
أحد أكثر الأشياء التي شغلت تفكير آمي تان طوال حياتها هو: النية، ردود فعلنا تجاه المواقف والغموض الذي يغلف أفعالنا، وما إذا كانت نتيجة تصرفاتنا لن تتوافق مع النية الرئيسية لنا وما خططنا له.
لهذا كتبت آمي تان روايتها “إنقاذ سمكة من الغرق” أو Saving Fish from Drowning عام 2005، وهي مقولة بوذية يقولها الصيادون، وتعني أنه ليس عليهم قتل أي شيء، لكن عليهم أيضًا أن يتكسبوا ويطعموا الناس، لذلك فطريقتهم في المنطق هي “إنقاذ السمك من الغرق”، وللأسف خلال تلك العملية تموت السمكة.
نالت الرواية جائزة شرفية من جوائز آسيا والمحيط الهادئ الأمريكية للأدب، وتحكي عن 12 سائحًا يذهبون في رحلة من الصين إلى ميانمار، متخذين طريق بورما، وفي منتصف الطريق يتعرضون للاختطاف، لترتكز الرواية على الوضع السياسي المضطرب في “بورما”.
إن المطلع على أعمال آمي تان سوف يدرك أنها تكتب عن الصين بقلب يحن إلى وطن لم تعرفه، في الوقت نفسه هناك الكثير من الأمريكيين الذين يهاجمونها، يهاجمون طريقتها في الكتابة عن الصين، كونها تكتب بصورة نمطية عن أشياء معروفة للجميع، في الوقت نفسه يشعر الصينيون عندما تتحدث آمي تان أنها أمريكية حقًّا، لكنها تتحدث كامرأة صينية!
إن آمي تان تثبت أن الوطن ليس ما نولد به، بل جذور تمتد في أعماقنا، نرثها في جيناتنا مع أهلنا الذين حنوا ظهورهم كي نعيش حياة أفضل، وأن أشياء مثل النية والكون والحظ والصدفة والفرص هي أشياء لا نستطيع حقًا فهمها بشكل كافٍ مهما مر الوقت.
“ما الأشياء التي نحصل عليها من الكون ولا نستطيع حقًا شرحها؟ كيف أصنع شيئًا من اللاشيء؟ وكيف يمكنني إنشاء حياتي الخاصة؟”.. تقول آمي تان في حديثها أمام منصة تيد.