تدعي العديد من الدراسات الحديثة بأننا اقتربنا من هزيمة الشيخوخة، وكأن الخلود لم يعد خيالًا علميًا، بل بات أمرًا متوقفًا على جهود العلماء في إيجاد العقار السحري لتأجيل فصل الموت من حياتنا لبضعة عقود آتية، إذ قال رئيس استثمارات شركة جوجل بيل مارس، ذات مرة: “خلال الـ20 عامًا المقبلة سيصبح علاج السرطان أمرًا بدائيًا مثل استخدام التلغراف، ولو سألتني هل من الممكن أن نعيش لعمر 500 سنة؟ فإن الجواب هو نعم”.
رغم المبالغة والتضخيم في تقديراته، فإن مارس لم يكن يتحدث بشكل عشوائي، لأنه واحد من المهتمين بمحاربة الشيخوخة وزيادة معدل عمر الإنسان، حيث يستثمر ما يقارب النصف مليار دولار في البحوث الطبية التي تعالج هذا الموضوع، ولكن بصرف النظر عن مدى منطقية حماسه وتوقعاته المتفائلة عن المستقبل، إلا أن هناك من لا يرغب في حدوث هذه التغييرات ولا يستعجل تحققها على الإطلاق.
طول العمر ليس خبرًا سارًا للجميع
رفع الاختصاصي في مجال الشيخوخة أوبري دو غيري، احتمالية تحقق هذه التوقعات عندما ذكر أن فرصة هروب الإنسان من الشيخوخة وأمراضها مرتفعة جدًا وتصل إلى 80%، تبع تصريحاته تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية، ذكرت فيه أن متوسط عمر الإنسان ارتفع 5 سنوات بين عامي 2000 و2015، نتيجة لزيادة فرص الحصول على العلاجات الطبية وعلامة على التقدم العلمي والرفاه الاجتماعي في العديد من البلدان، ومع ذلك فإن الناس الذين يعيشون لفترة طويلة، لا يعيشون بالضرورة السنوات الإضافية بصحة جيدة، وهذا بالتحديد ما يسبب القلق لمزودي المعاشات التقاعدية وشركات التأمين الصحي، على وجه الخصوص.
فعلى الرغم من أن عائلات هؤلاء المتقاعدين سترحب بهم على الأرجح، بصرف النظر عن وضعهم الصحي وحالتهم البدنية، فإن هذا الانخفاض غير المتوقع في معدل الوفيات سيكلف ميزانيات تلك الشركات نحو تريليون دولار، وسيحتاج أصحابها إلى زيادة أسعارهم من 5 إلى 6%، وذلك قبل أخذ معدلات التضخم في الاعتبار، لأن النظام المالي لهذه الشركات يعتمد في شكله الحاليّ على البيانات التي امتلكها قبل 50 أو 70 عامًا، أي في الوقت الذي لم يكن أحد يتخيل فيه أن متوسط العمر يمكن أن يزيد إلى الحد الذي نراه اليوم، ولذلك نراها تسعى حاليًّا إلى تجنب الركود الاقتصادي الذي يمكن أن يصيبها في غضون 10 سنوات من الآن بسبب زيادة طول عمر الإنسان.
بعبارة أخرى، يقول الأستاذ المساعد جوني لي، في جامعة “واترلو” الكندية: “إذا كنت تدير خطة معاش وكان لديك، على سبيل المثال 10 آلاف متقاعد وكل عام عليك أن تدفع معاشًا بمبلغ 20 ألف دولار لكل متقاعد، وإذا عاش هؤلاء الأشخاص لمدة أطول من المتوقع، فسوف يتعين عليك تعديل خطتك لكي تدفع في النهاية نحو 200 مليون دولار”، مضيفًا “منذ عشرين عامًا، توقع الناس أن يتوقف طول العمر البشري عن التحسن في وقت ما، أو يتباطأ على الأقل، لكن اتضح فيما بعد أن الأمور لا تسير في ذاك الاتجاه”.
وبخلاف الشركات الأخرى التي تتقاطع أنشطتها مع الشيخوخة وطول عمر الإنسان، تتأثر شركات التأمين بهذا التغير بشكل أكبر من غيرها، إذ يوجد علاقة مباشرة بين متوسط العمر المتوقع والمبلغ الذي تتحمله الشركة مقابل بوليصة التأمين، لأن طول عمر الإنسان لمدة 10 سنوات تقريبًا عن الحد المتوقع يقلص أرباحها أو يُترجم إلى المزيد من الأثقال الاقتصادية على ميزانياتها، لأنها المسؤولة عن تغطية مصروفاتك الصحية إلى أن ينتهي وقتك في هذه الحياة أو يحين موعد الوفاة.
فكلما كنت أصغر سنًا عند اشتراكك بخدمات شركة التأمين، قل الخطر على الشركة لأنك ببساطة لا تزال في مرحلة الشباب وسجلك الصحي – من المفترض – خاليًا من الأمراض التي تصيب عادة المسنين في العمر، ما يعني أنك أقل عرضة للموت في المدى القريب ونفقاتك الصحية معقولة ومحتملة نسبيًا.
وعلى العكس، كلما تأخرت في شراء بوليصة التأمين، زادت المخاطر على شركات التأمين، وفي الغالب تعوض الشركات هذه الأعباء عن طريق فرض أقساط سنوية أعلى، بكلمات أخرى، لنفترض أنك قررت شراء بوليصة تأمين على الحياة بمبلغ ألف دولار ولمدة 10 سنوات، وكان حينها عمرك 28 سنة، في الجهة الأخرى، أراد شخص آخر أكبر منك سنًا بنحو 10 أعوام شراء البوليصة ذاتها، فإنه في الغالب سوف يشتري نفس البوليصة بسعر مضاعف، مقابل ألفين دولار مثلًاK وهكذا تزداد تكلفة الاشتراك مع تقدم الشخص في السن، لأن احتمالية تدهور صحته أعلى من الشخص الذي يصغره بالعمر.
محاولة تفادي الخسائر
وظفت بعض شركات التأمين العديد من التطبيقات الصحية الرقمية لخدمتها، بهدف متابعة نمط حياة المستخدمين مثل الأنشطة الرياضية وعدد ساعات النوم والاستيقاظ، وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي تسعى من خلالها إلى تقييم متوسط العمر المتوقع لهم خلال السنوات القادمة وتقليل عواقب الشيخوخة على موازناتها، مع الأخذ بالاعتبار معدلات الوفاة الحاليّة، بهدف حد المخاطر الاقتصادية عليها وعكس تلك البيانات والاستنتاجات على أسعارها لاحقًا، وذلك ما يفسر نمو صناعة علوم الشيخوخة أو طول العمر الرقمية، أو ما يطلق عليها بالإنجليزية اسم “AgeTech”.
على سبيل المثال، إذا أظهرت النتائج بأن الإنسان سوف يعيش لمدة 6 سنوات إضافية في المستقبل، سوف تطلب شركات التأمين أقساطًا أعلى مما اعتادت فرضه في السنوات السابقة، وبذلك تتفادى الأعباء المالية غير المتوقعة وتظل تجني نفس القدر من الأرباح، بما يعود بالفائدة عليها وعلى الزبون في الوقت نفسه، أما إذا عاش الإنسان لأكثر من 10 سنوات، مثلًا، دون أن تستعد شركات التأمين لهذه الفترة ودون أن تعيد ترتيب معاييرها وسياساتها بما يتناسب مع التوقعات المستقبلية لمتوسط عمر الإنسان، فلا شك أنها ستتدهور ماليًا وتتعرض للإفلاس في أسوأ الاحتمالات.
ولذلك، تحاول هذه الشركات بناء شروطها المالية على تقييمات طول العمر بشكل صحيح، خاصةً أن عدد المتقاعدين يزداد أيضًا، فقد ارتفعت نسبتهم على مدار الـ35 سنة الماضية بمعدل النصف، حيث كان هناك 1 من بين كل 3 أشخاص والآن أصبح واحدًا من بين 2 فقط، وبحسب تقديرات أخرى، من المرجح أن يبلغ عدد الذين يصلون إلى سن التقاعد بأكثر من الضعف من عام 2010 إلى عام 2050، أي من 40.2 مليون إلى 88 مليون شخص حول العالم.
من ناحية أخرى، تخوض شركات التأمين حروبًا مختلفة مع الأطباء والمستشفيات وشركات الأدوية، إذ تحاول بشكل متواصل الاستحواذ على أكبر قدر من المؤسسات الصحية ومزودي الخدمات الطبية بشكل عام، وفي هذا الخصوص يحذر بعض المستشارين في هذا المجال من اتساع نفوذها في المجال الطبي خوفًا من تدخلها وتلاعبها في العقاقير والمستحضرات الصيدلانية التي قد تخاطر بحياة المريض وتتلاعب بعمر الإنسان.