ترجمة وتحرير: نون بوست
في سنة 2012، قدّم تقرير للأمم المتحدة صورة كئيبة لقطاع غزة والظروف التي يواجهها سكانها الفلسطينيون. فقد كان اقتصاد المنطقة بطيئًا، ونظام الرعاية الصحية محاصرا، ومواردها الطبيعية في تراجع. وفي الواقع، تتوقّع الأمم المتّحدة قدوم أيام أكثر قسوة. ووفقا للتقرير، سيتجاوز عدد سكان غزة مليوني نسمة، بحلول سنة 2020، بالتالي، من المتوقع أن يرتفع الطلب على الكهرباء بأكثر من 50 بالمئة. ومن المرجح أن تتعرض طبقة المياه الجوفية الساحلية في الإقليم لأضرار لا يمكن إصلاحها. ومن جهتها، دعت الأمم المتحدة إلى ضخ كميات هائلة من الموارد، بما في ذلك الآلاف من الأطباء والممرضين، ومضاعفة إمدادات الطاقة الكهربائية وبناء ما لا يقل عن 440 مدرسة جديدة.
شارفت سنة 2020 على الدخول، وتبيّن أن توقعات الأمم المتحدة بشأن مطالب غزة المتضخمة كانت دقيقة إلى حد كبير، لكن نسق توفير الخدمات الأساسية فشل في اللحاق بالركب. وفي الحقيقة، بلغت البطالة حوالي 50 بالمئة، وانخفضت نسبة الأطباء والممرضين للشخص الواحد، كما أن أكثر من ثلثي الأسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي، ناهيك عن أن ثلاثة بالمئة فقط من المياه الجوفية في غزة آمنة للشرب، وذلك وفقا للإحصاءات الرسمية ووكالات الإغاثة.
في هذا الإطار، أخبر مايكل لينك، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، موقع ميدل إيست آي أن “التنبؤ باستحالة العيش في غزة تحقق بالفعل. كما أن المقياس الشائع الذي تستخدمه الأمم المتحدة أو أي منظمة دولية أخرى لتقييم كيفية عيش الناس هي الكرامة الانسانية، التي حُرمت منها غزة لسنوات حتى الآن”.
البقاء على قيد الحياة في غزة
منذ أن تولت حماس زمام السلطة في غزة سنة 2007، فرضت إسرائيل حصارًا على القطاع الساحلي، وقيودا صارمة على تنقّل الأشخاص والبضائع. بالإضافة إلى ذلك، تضاعف نقص الوقود وانقطاع الكهرباء وتلوث المياه وتهالك البنية التحتية بسبب الهجمات الإسرائيلية المتكررة، حيث أسفرت الحرب الأخيرة، في صيف سنة 2014، عن مقتل أكثر من 2200 فلسطيني وتدمير عشرات الآلاف من المنازل.
خلال سنوات الحصار الأولى، حسبت إسرائيل الحد الأدنى لعدد السعرات الحرارية التي يحتاجها الفلسطينيون في غزة للبقاء على قيد الحياة. وظهرت هذه المعلومات بعد معركة قانونية ناجحة من قبل منظمة غيشا الإسرائيلية غير الحكومية. بعد ذلك، استُخدمت هذه الأرقام لتحديد مقدار المساعدات الغذائية التي ينبغي نقلها بالشاحنات، وإبقاء المنطقة بالكاد على قيد الحياة.
علاوة على ذلك، قال لينك إنه “كان من المفترض أن تبقى غزة جائعة ولكن لا تتضور جوعا، وهو ما يمثل الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه غزة. وطالما أن غزة لا تثور، ولم يكن هناك قصف دوري آخر لغزة، باستخدام أكثر الأسلحة تطورا في العالم، وطالما بقيت غزة خارج العناوين الرئيسية، لن يفعل العالم الكثير لتغيير هذا الواقع”.
من جهته، وصف الأستاذ المشارك في جامعة الأقصى في غزة، حيدر عيد، سياسة “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين في المقاطعة بأنها “إبادة جماعية”. وقال عيد لموقع ميدل إيست آي إنها “تذكير دائم بالخطيئة الأصلية التي ارتُكبت سنة 1948″، في إشارة إلى النكبة، وهو الطرد الجماعي للفلسطينيين الذي صاحب تأسيس “إسرائيل”. وأضاف عيد قائلا: “تريد “إسرائيل” أن تعاقبهم على مقاومتهم، ولأنهم ليسوا رعايا خاضعين، وأن يتخلوا عن حقهم المكفول دوليًا في العودة”.
تراجع الفلسطينيّين
لاحظ مراقبون آخرون كيف خلق الحصار الإسرائيلي ظروفًا لا يمكن تحملها في جميع أنحاء غزة، قبل نهاية سنة 2020 بفترة طويلة. وفي الواقع، تعرقل القيود المفروضة على مناطق الصيد، والتي انخفضت من 15 ميلا بحريا إلى عشرة أميال بحرية في وقت سابق من هذه السنة، معيشة الناس. بالإضافة إلى ذلك، يمنع حظر الاستيراد البضائع المهمة، مثل الوقود وغاز الطهي، من دخول الإقليم. علاوة على ذلك، يجعل انقطاع التيار الكهربائي الروتيني الحياة اليومية صراعًا، مع توفر الطاقة الكهربائية في بعض الأحيان لبضع ساعات فقط في اليوم.
أما بالنسبة لبعض الفلسطينيين الأشد تضررا، تعدَ الإغاثة مستحيلة. ففي أيلول/ سبتمبر الماضي، وافقت “إسرائيل” على أقل من ثلثي طلبات المرضى لمغادرة المنطقة لأسباب طبية، إذ استُجوب بعضهم كشرط أساسي للحصول على الموافقة على التصريح، وهي ممارسة نددت بها مجموعات حقوق الإنسان، مثل أطباء من أجل حقوق الإنسان، الذين يشيرون إلى تاريخ “إسرائيل” المتمثل في إكراه المرضى على أن يصبحوا متعاونين مقابل الحصول على الرعاية الاستشفائية اللازمة.
من جانبه، أشار رئيس مكتب منظمة الصحة العالمية للأراضي الفلسطينية المحتلة، جيرالد روكينشاوب، إلى أن “تراجع تطوير” الخدمات الصحية يعني أن التكنولوجيا الأساسية غالبًا ما لا تتوفر في غزة، في حين أن هناك نقص في الأدوية والعاملين الطبيين. وقال روكينشاوب لميدل إيست آي: “إنه ليس تراجعا مفاجئًا، بل إنه تراجع مزمن، حيث لطالما كان النظام إما على وشك الانهيار أو قريبا للغاية منه”.
يلاحظ الخبراء أن المساعدات الدولية للأراضي المكتظة بالسكان أحدثت تبعية إنسانية بدلاً من تعزيز التنمية في غزة، على الرغم من أنها ساهمت في منع فناء المنطقة. وفي الوقت نفسه، أدت التخفيضات في التمويل الذي تقدّمه إدارة ترامب إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين هذه السنة إلى تعميق الأزمة.
فضلا عن ذلك، أضاف المنسق الإنساني للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جيمي ماك جولدريك، لميدل إيست آي: “توجد هوة تنمية في سياق غزة”، ويمكن ملاحظته خاصة في قطاعي الصحة والتعليم. كما تعمل المدارس بنظام المناوبة المزدوجة وحتى الثلاثية لاستيعاب عدد الشباب المتزايد. وفي الوقت نفسه، تتجاوز طاقة استيعاب المستشفيات قدرتها، خاصة وأن احتجاجات “مسيرة العودة العظيمة”، التي بدأت في سنة 2018، أسفرت عن آلاف الإصابات.
مع ذلك، لا تعد المساعدة الإنسانية أكثر من حل سريع، كما يقول المحللون، حيث سيكون التخلص منها عملية معقدة وصعبة. وفي هذا الصدد، صرّح ماكغولدريك قائلا: “لا يمكنك أن تقول حسنًا، لا مزيد من الغذاء والدعم غدًا. اذهبوا إلى مكان آخر، ولا يوجد “مكان آخر” في غزة… فالناس يعتمدون على المساعدات الإنسانية. وينبغي علينا أن نحول ذلك إلى شيء أكثر استدامة وكرامة مما لدينا الآن”.
الفلسطينيون: “أحياء بسبب نقص الموت”
أخبر كمال حواش، أستاذ بريطاني- فلسطيني مقيم في جامعة برمنغهام، موقع ميدل إيست آي أنه بالنسبة لشعب غزة، أصبح تنبؤ الأمم المتحدة لسنة 2020 حقيقة منذ فترة طويلة. وأضاف حواش أن الكثيرين يستشهدون بالقول العربي: “نحن على قيد الحياة بسبب قلة الموت”. وقال حواش إن سياسة “إسرائيل” هي سياسة الاحتواء. وفي نهاية المطاف، “تريد “إسرائيل” أن تُبقي غزة “صامتة”، فإذا حافظت حماس على هذا الهدوء، فلا بأس. وإذا لم تف بذلك، ستهاجم “إسرائيل” القطاع”.
في الواقع، شجعت “إسرائيل” الفلسطينيين على مغادرة غزة بشكل دائم، بهدف زيادة تقليص وجودهم على الأرض. وفي وقت سابق من هذه السنة، ذكر مصدر حكومي أن “محاولات بُذلت” لإقناع الدول الأخرى باستقبالهم، مضيفًا أن “إسرائيل” ستساهم في نقلهم.
لكي تخرج غزة من مأزقها الحالي، قال حواش إنه ينبغي إصلاح الخلاف الداخلي الفلسطيني بين فتح وحماس، وإنهاء الحصار الإسرائيلي، مما سيسمح للاستقرار بأن يتجذر. وأضاف حواش قائلا: “من الواضح أنه إذا كان اللاجئون الذين يشكلون 80 بالمئة من السكان سيعودون إلى منازلهم، كما يسمح لهم القانون الدولي، فيمكن أن تكون غزة صالحة للعيش والازدهار”.
من جهة أخرى، قال ماكغولدريك إن العملية السياسية الناجحة يمكن أن تمهد الطريق لاستراتيجية أكثر توجها نحو التنمية في غزة، مما يمكن أن يجذب استثمارات جديدة في أنظمة إمدادات المياه والمناطق الصناعية وخلق فرص العمل. ووصف الحصار بأنه “أكبر عقبة أمام التنمية” مع الاعتراف بأن الموعد النهائي لسنة 2020 المتمثل في عدم القابلية للإصلاح كان في حد ذاته “صنعا مزيّفا” للأمم المتحدة.
في هذا السياق، أضاف ماكغولدريك: “هذا لا يعني شيئا لأي فلسطيني … فالناس يحاولون فقط خوض مصاعب كل يوم والبقاء على قيد الحياة يوما بعد يوم”. ومع ذلك، مع استمرار النمو السكاني وتقلّص الخدمات والبطالة المتزايدة، قد تقترب غزة من نقطة اللاعودة. وفي هذا الإطار، أخبرت سارة روي، كبيرة الباحثين في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، موقع ميدل إيست آي أن: “مصطلح “غير قابل للعيش”… يُعدَ جرس إنذار للمجتمع الدولي، لكنه يدق لفترة طويلة”. وأكدت روي أن التحذير وقع تجاهله وسط اللامبالاة الدولية والتدخلات الإنسانية التي تعمل فقط كبديل لحقوق الإنسان. وأضافت روي أنه ” من دون التنقل غير المرهون للأشخاص والبضائع، سيُحكم على غزة بالخراب المستمر”.
المصدر: ميدل إيست آي