على امتداد 16 عامًا، أُغرقت الأسواق المحلية العراقية بالمنتج المستورد، وعُطلت مصانع ضخمة لها ثقلها في اقتصاد العراق، مخلّفة جيوشًا من العاطلين عن العمل نتيجة إغلاق السلطات العراقية تلك المصانع أو خروجها عن الخدمة بقرار سياسي.
في العراق، يوجد أكثر من 45 ألف معمل تابع للقطاع الخاص، ما بين معمل صغير يشغل من 3 – 10 عمال، ومتوسط يشغل من 10 – 50 عاملًا، وكبير يشغل أكثر من 50 عاملًا، لكن هنالك نحو 34 ألف معمل منها معطل بالكامل.
أما في القطاع العام فيملك العراق أكثر من 188 مصنعًا كبيرًا، يضمون آلاف العاملين، متوزعون على المحافظات، لكن أكثر من 100 خرجوا عن الخدمة، دمروا وخربوا بعد عام 2003 وهربت قطع غيارهم إلى دول الجوار.
وعلى مدى سنوات طويلة تغول المنتج المستورد في السوق العراقية، لكن المحتجين الذين يخوضون حربًا سياسية واجتماعية في ساحات الاحتجاج، يخوضون حربًا أخرى اقتصادية، تتمثل في حملة شعبية اقتصادية لـ”دعم المنتج المحلي”، انتشرت سريعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتضامن معها كذلك عدد كبير جدًا من العراقيين.
يقول علي ناجي أحد أعضاء حملة دعم المنتج المحلي: “وسائلنا للتعريف بالمنتج تعتمد على الإعلام التطوعي في وسائل التواصل الاجتماعي، أنشأنا صفحات ومجموعات للتعريف به، لكن ذلك جوبه بالتجاهل من السلطات العراقية والتعتيم أيضًا”.
شوق للمنتج المحلي
“ناجي” طالبَ عبر”نون بوست” بإعادة افتتاح المصانع المغلقة التي تقدر بالآلاف منذ عام 2003، لأن افتتاحها سيشكل نهضة اقتصادية وسيخلق آلاف فرص العمل للشباب، وسيسهم أيضًا في القضاء على البطالة، فيما دعا أصحاب رؤس الأموال للاستثمار في السوق العراقية باعتبارها سوقًا خصبة واستهلاكية وواسعة، وبإمكانهم أن يستثمروا أموالهم فيها.
ويوضح الناشط قائلًا “التجاوب من العراقيين مع حملة دعم المنتج المحلي كان كبيرًا جدًا ولافتًا ومبهرًا، ومنذ انطلاق الحملة لم نكن نتوقع كل هذا الإقبال على المنتجات الوطنية، الشارع العراقي يشتاق اليوم إلى المنتج المحلي، ولم يعد يتقبل فكرة الاستيراد وهدر العملة الصعبة على منتجات بسيطة بالإمكان صناعتها محليًا”.
شركة الخياطة والنسيج في العاصمة بغداد
تعطيل بقرار سياسي!
شركة الخياطة والنسيج إحدى الشركات الحكومية التي تتبع وزارة الصناعة والمعادن، وكانت أضخم شركة في الشرق الأوسط، تضم أكثر من 1500 ماكينة متوقفة عن العمل، عمل بها سابقًا أكثر من 4 آلاف عامل، لكن حاليًّا يعمل بها 50 عاملًا فقط، بخط إنتاج واحد من أصل سبعة خطوط، عطلت ستة منها بفعل قرارات سياسية.
نتيجة الفساد، اختفى المنتج المحلي بصورة عامة من المنافسة، وانتشر الاستيراد من الدول المجاورة، وكذلك الصين، في صفقات مشبوهة ورشاوى من أجل منع تطوير الصناعة واستمرار الاستيراد بحسب مختصين.
يقول مدير شركة الخياطة محمد سعد لـ”نون بوست”: “الشركة كانت متوقفة عن العمل لكن الإدارة الجديدة لها بالتزامن مع الحملة الشعبية عادت إلى العمل، لكن عددًا من الوزارات الحكومية ترفض التوقيع مع الشركة وتفضل المنتج المستورد القادم من الصين”.
عاملات في شركة الخياطة والنسيج العراقية
الشركة التي كانت تنتج في السابق بذلات عسكرية وأمنية وكذلك طبية ورجالية رسمية، تطالب بدعم حكومي وشعبي لرفد الوطن بالمنتج الوطني، بالإضافة إلى تشغيل أكثر من 3 آلاف عامل، وتناشد أيضًا الحكومة المركزية بدعم منتجها وتخصيص درجات وظيفية وعقود لها.
ورغم تأكيد موازنات البلاد الاتحادية في كل عام أن تكون الأولوية للإنتاج المحلي فإن واقع الأمر مختلف، إذ لم تلتزم أي من الوزارات بهذا القرار، مفضلين الاستيراد من دول الجوار والصين.
يؤخذ على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 أنها لم تتخذ خطوات جدية لحماية المنتج المحلي، ولم تتفاد الممارسات الضارة في سياسة إغراق البلاد بالمنتج المستورد، كل ذلك أخرج المنتج المحلي من المنافسة.
ففي عام 2010 أقر البرلمان العراقي قانون التعرفة الجمركية الذي نص على رفعها من 5% إلى 15%، لكنه لم يفعل إلا عام 2017، وكذلك لم يفعل قانون حماية المستهلك وحماية المنتج الوطني، ضمن مخطط مريب لإغراق السوق المحلية بالمنتج المستورد.
إنتاج وإقبال كبيران
الحراك الشعبي المتصاعد الآن في العراق، لا يشبه ما سبقه، كل شعار أو مطلب يُرفع له من يطبقه ويتعاطف معه، فعلى صعيد دعم المنتج المحلي مثلًا وعقب أيام من حملة شعبية يقودها المتظاهرون لدعم المنتج المحلي، ارتفعت وتيرة إنتاج معمل ألبان أبو غريب في العاصمة بغداد وزادت نسبة الطلب بشكل كبير جدًا.
يؤكد عاملون في المعمل لـ”نون بوست” أن الإنتاج اليومي بلغ من 6 إلى 7 أطنان يوميًا، لكن هذه الكمية لا تكفي لسد السوق المحلية بعد أن كان الإنتاج نحو نصف طن يوميًا ولا طلب عليه.
وطالب العاملون الذين تحدث إليهم “نون بوست” السلطات العراقية بزيادة الدعم لتوسيع إنتاج المعمل الذي جلب ماكينات جديدة وشرع بحملة واسعة لتأهيل المعطلة منها، قائلين: “قرار رفع الإنتاج جاء نتيجة دعم المواطنين لحماية الإنتاج المحلي وسد حاجة العراقيين”، فيما دعا آخرون إلى تشريع قوانين تنص على حماية المنتج المحلي وتعزز صدارته في الأسواق المحلية.
يعد العامل الاقتصادي المتردي للفرد العراقي، أحد أهم أسباب اتساع الاحتجاجات وتصاعدها
الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن المشهداني يقول: “تشغيل المصانع هو الخطوة الأولى لدوران عجلة الاقتصاد العراقي بصورة عامة وليست عجلة القطاع الصناعي فقط، فتشغيل أي معمل لا يقتصر على عدد العاملين فيه فقط، لأنه سيكون بحاجة إلى تشغيل حلقات أخرى وسيطة لتأمين المواد الأولية لأي منتج”.
ويوضح المشهداني لـ”نون بوست” قائلًا: “دورة الدخل تكون داخلية، والدولار الذي ينفق داخل البلد سيتضاعف 12 مرة موزعة على حلقات عدة، وهذه عملية اقتصادية محسوبة، ويستورد العراق بحدود 40 مليار دولار سنويًا في الأغلب، تكون إما منتجات غذائية أو صناعية”.
8 ملايين فقير
يعد العامل الاقتصادي المتردي للفرد العراقي، أحد أهم أسباب اتساع الاحتجاجات وتصاعدها، فقد عمت أغلب مدن العراق، فيعد انخفاض مستوى دخل الفرد، الذي يصل معدله إلى أقل من 600 دولار سنويًا، وارتفاع معدل الفقر إلى نحو 25%، والبطالة إلى 30% كلها عوامل أدت إلى تصاعد حدّة الاحتجاجات، فيما تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 8 ملايين فرد يعيشون دون مستوى خط الفقر في بلد يسكنه نحو أربعين مليون نسمة.
وتتمثل دوافع المحتجين في العراق أيضًا في أنها اقتصادية قبل أن تكون سياسية، فما يحتاج إليه العراق اليوم هو إصلاح الوضع الاقتصادي وإنشاء نظام اقتصادي عقلاني قائم على استغلال موارد البلاد بصورة مثلى، وقائم أيضًا على معطيات علمية اقتصادية وليس النفع والمكتسبات السياسية.