ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما كان التقرير السنوي الذي تصدره وكالة يوروبول الأوروبية حول اتجاهات الإرهاب يعتبر عملية مفيدة للتأكد من مصداقية الحقائق، إذ أنه يساعد على تبديد الدعاية للمعلومات المضللة حول “الحرب على الإرهاب”، ويبرز التهديد السخيف المبالغ فيه الذي يميّز خطابنا العام حول الإرهاب. ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، نجحت جميع المؤسسات الكبرى، بما في ذلك وسائل الإعلام المهيمنة والحكومات والشرطة والجيش والمؤسسات الجامعية في زرع هستيريا جنون الارتياب حول “التطرف الإسلامي” و”التهديد الجهادي”. ونتيجة لذلك، لا تتناسب التصورات الشعبية لمستوى التهديد، فضلا عن سياسات “مكافحة الإرهاب”، تمامًا مع واقع هذه الظاهرة.
المبالغة في وصف التهديد
يتمثل الدافع الرئيسي للمبالغة في وصف التهديد، من خلال تقديمه كتهديد وجودي للحضارة الغربية، في أن مثل هذه الأساليب المخيفة تخدم مصالح القوى الغربية، بما في ذلك مجمع الأمن العسكري الآخذ في التوسع، والميزانيات الضخمة المخصصة “للحرب على الإرهاب “. كما كتب مارك سيجمان، وهو أحد كبار الباحثين في شؤون الإرهاب في العالم، في كتابه الذي يحمل عنوان “إساءة فهم الإرهاب”، دفع التلاعب المدفوع سياسيا لوصف خطر الإرهاب الأمريكيين والأوروبيين على حد السواء إلى “الارتجاف خوفا وإنفاق الكثير من الأموال في مجال الأمن” لمواجهة تهديد أصغر بكثير مما كانوا يعتقدون.
لن يتمكن أحد أبدا من حساب التكاليف، بما في ذلك تكاليف حياة البشر، التي ساهمت في حرمانهم من الأموال التي كانوا في أمس الحاجة إليها لاستثمارها في مجال الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات العامة
من بين بيانات أخرى، لم يذكر سيجمان سوى 66 مخططا جهاديا حدث في جميع البلدان الغربية في الفترة الممتدة بين سنتي 2002 و2012، وشمل 220 من المعتدين من بين 700 مليون نسمة. وبسبب المبالغة المستمرة في وصف التهديد، أُعيد توجيه مليارات من الدولارات من الموارد العامة لتشكيل المؤسسات الأمنية والدول المُراقبة للتصدي لما كان يمثل دائمًا خطرًا بسيطا. ومع ذلك، يُقدّم هذا التهديد البسيط بشكل حماسي من قبل حكامنا ومنابرهم الإعلامية على أنه “شر” إسلامي متجذر على وشك ابتلاعنا جميعًا.
في الواقع، لن يتمكن أحد أبدا من حساب التكاليف، بما في ذلك تكاليف حياة البشر، التي ساهمت في حرمانهم من الأموال التي كانوا في أمس الحاجة إليها لاستثمارها في مجال الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات العامة. في المقابل، تعدّ التكاليف المترتبة على هذا الشعور غير المنطقي بتحديد الأولويات هائلة بكل تأكيد. وعلى سبيل المثال، نذكر الحالة المؤسفة لنظام المستشفيات في فرنسا، الذي يعاني من الانهيار في الوقت الراهن بسبب نقص الاستثمارات.
الخطاب المفجع
سمحت مثل هذه الخيارات السياسية الفظيعة، التي يبررها بشكل منهجي الخطاب المفجع المتعمد وترهيب الأشخاص واتهامهم “بالتساهل في التعامل مع الإرهاب” أو “الإنكار”، بإنشاء صناعة ضخمة ومتنامية باستمرار متكونة من “خبراء” و”شخصيات تحلّل هذه الأحداث في البرامج الاعلامية” و”استشاريين” (غالبًا ما يقع توظيف شخصيات عسكرية سابقة في مجال الأمن الخاص المربح) وخلايا التفكير و”مراكز البحوث”، للتنافس جميعا في خطاب الفناء من أجل تحويل الهجمات الإرهابية المهمة والقليلة التي حدثت في الغرب، على غرار الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر والسابع من تموز/ يوليو وهجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى عمل تجاري حقيقي.
من خلال استحضار بشكل مستمر عدد من الهجمات الجهادية المذهلة والمهمة التي عانت منها الدول الغربية على مدار العقدين الماضيين، يبرر حكامنا دوافعهم لإبقاء جميع السكان في حالة دائمة من القلق، وتحويل المجتمعات الديمقراطية إلى دول بوليسية. وبات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يستخدم مصطلحات جديدة، على غرار “مجتمعات اليقظة”، التي ذكرها أورويل، لمجابهة “شر” إسلامي متجذر.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتحدث خلال قمة الناتو بالقرب من لندن في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر.
تعني هذه العبارة المنمقة، في الواقع، مراقبة معادية ودائمة موجهة حصريًا إلى المشتبه بهم دائما، وهم المسلمون، بما في ذلك أولئك الذين يحترمون القانون والمسالمين، حيث تعدّ سمة أغلبهم، باستثناء حالات نادرة. وفي هذا السياق، يساعد أحدث تقرير نشرته وكالة يوروبول في وضع الأمور في منظورها الصحيح، إذا ما نظرنا إلى البيانات الفعلية، بدلاً من الخطاب المقلق الذي يمكن التنبؤ به بشأن “التهديد الرئيسي للأمن” المستمر في الاتحاد الأوروبي المستخدم لتقديم تلك البيانات. وحتى في تقرير اليوروبول، على ما يبدو، يمكن أن تساهم المبالغة القليلة في وصف التهديد في استمرار وجود ميزانيات كبيرة.
كنتيجة لذلك، تعلمنا أنه، في تناقض تام مع مقدمة التقرير التي تشير إلى وجود “تهديد رئيسي” مستمر، في سنة 2018، أدت هذه الهجمات إلى مصرع 13 شخصًا في المجموع، وإصابة عشرات آخرين طوال السنة. وتشير هذه الأرقام إلى ما حصل في 28 دولة في الاتحاد الأوروبي، التي يعيش فيها حوالي 513 مليون نسمة. ومن غير المرجح أن نسمع مثل هذه الأرقام من سياسي أو رئيس يتحدث إلى وسائل الإعلام، نظرا لأنه يخاطر بذلك بتقليص التصور العام لهذا “التهديد”.
الشر الإسلامي المتجذّر
عادة ما تكون الأرقام في أوروبا الغربية قريبة من الصفر، حتى من حيث القيمة المطلقة. كما أنه بالكاد تُسجل النسب المئوية المتعلقة بخطر الوفيات الناجم عن الإرهاب، بسبب “الشر الإسلامي المتجذّر”، الذي يشير إليه ماكرون. ولكن بالنظر إلى أن تخويف الناس باستخدام “تهديد جهادي”، يعدّ مبالغا فيه بشكل سخيف، فقد أثبت فائدته وإنتاجيته بالنسبة للطبقات الحاكمة، حيث بات بوسعنا أن نراهن بأمان على أن مليارات الدولارات من الأموال العامة ستستمر في التسرّب بعيدا عن أنظمة الرعاية الصحية والتعليم، التي تُعتبر في حاجة ماسة إليها، وتُضخ بقدر كبير في أجهزة “الأمن الوطني”.
يشير تقرير وكالة يوروبول إلى أن “جميع الهجمات الإرهابية الجهادية ارتكبت بواسطة أفراد يتصرفون على حدة” ويستخدمون أسلحة مثل السكاكين أو الأسلحة النارية الصغيرة
لهذا السبب، يتجنّب السياسيون ووسائل الإعلام الرئيسية مشاركة الحقائق حول هذا الأمر، بما في ذلك حقيقة أن الإرهاب في مختلف أنحاء العالم، ظل في انحدار لسنوات، سواء في عدد الهجمات أو عدد الوفيات. وفي الحقيقة، لا يمكن للمرء إدراك هذا الأمر من خلال الاستماع إلى الحديث المهيمن والمتواصل عن الإرهاب، الذي أصبح بالأساس ضوضاء دائمة. والواقع أن الدعاية غير المبررة التي تدور حول بعض الهجمات، التي تحظى بأسابيع من التغطية الإعلامية الهستيرية وردود الفعل السياسية، تفسّر التناقض بين واقع الإرهاب في الدول الغربية وبين التصوّر العام له.
من جهة أخرى، يشير تقرير وكالة يوروبول إلى أن “جميع الهجمات الإرهابية الجهادية ارتكبت بواسطة أفراد يتصرفون على حدة” ويستخدمون أسلحة مثل السكاكين أو الأسلحة النارية الصغيرة، مقارنة بالشبكات المنظمة التي تستخدم المتفجرات المميتة وبنادق هجومية عسكرية، وهو ما يعد دليلا آخر على النقص الشديد في القدرات الاستيعابية والقدرات اللوجستية للجماعات الإرهابية.
الأعداد الحقيقية
خلافاً للأكاذيب المستمرة التي تشير إلى أن أي دولة لم تسلم من التهديد الجهادي، إلا أنه في سنة 2018، كما حدث في السنوات السابقة، “لم تبلّغ أغلب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن أية هجمات إرهابية جهادية”، وذلك وفقا لما يشير إليه التقرير. وينطبق الأمر نفسه على الولايات المتحدة، حيث أنه “في سنة 2018، على الرغم من دعوة تنظيم الدولة للناس في الولايات المتحدة الأمريكية للاستفادة من قوانين الأسلحة النارية في البلاد للحصول على الأسلحة وشن الهجمات، لم يتبنى تنظيم الدولة أية حوادث عنف في الولايات المتحدة الأمريكية قد يرتكبها أعضاؤه”.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد المشتبه بهم الذين اعتقلوا بسبب احتمال مشاركتهم في الإرهاب “الجهادي” هو بحد ذاته ضئيل، حيث يبلغ عددهم 511 من إجمالي عدد السكان الأوروبيين الذين يزيد عددهم عن 510 مليون نسمة، وعدد سكان أوروبا المسلمين الذي يبلغ حوالي 25 مليون نسمة. ويشير الرقم 511 إلى الاعتقالات، عوضا عن الإدانات. وقد بلغ مجموع الأحكام الصادرة بشأن الجرائم المتصلة بالإرهاب 664 حكما، سواء بالإدانة أو بالبراءة.
صورة لضباط مكافحة الإرهاب الفرنسيين في مدينة ليل في الثالث من كانون الأول/ ديسمبر.
تشمل هذه الأرقام جميع الجرائم، حتى المرتبطة ارتباطًا طفيفًا بالإرهاب، بما في ذلك تزوير المستندات و”السفر إلى منطقة تسيطر عليها جماعة إرهابية” و”تمجيد الإرهاب” واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي “لنشر المحتوى الإرهابي”، وحتى مجرد الاستعدادات للسفر إلى سوريا “للزواج من رجل يفترض أنه أحد أعضاء تنظيم الدولة”. وعلى الرغم من هذا التعريف القضائي الأوسع نطاقا “للإرهاب”، لم يصل العدد الإجمالي للأحكام، التي تتضمن البراءة، إلى 700 حكم. ويوضّح الكذبة المتعلّقة بفكرة التطرف الإسلامي العنيف الواسع النطاق الذي يُزعم أنه يؤثر على شرائح كبيرة من السكان المسلمين.
الإرهاب القومي العرقي
في الواقع، يعد الأمر الأكثر إثارة للاهتمام أنه خلافا لكل الحوارات والتصورات العامة المهيمنة، لا يعد التهديد الإرهابي الأكبر في مجتمعاتنا متأتيا من “النزعة الجهادية”. ويشير التقرير إلى أنه “مثلما حدث في السنوات السابقة، تجاوزت الهجمات الإرهابية العرقية القومية والانفصالية في الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير أشكال الهجمات الإرهابية الأخرى في سنة 2018”.
في سياق متصّل، صُنّف من بين 129 “هجوما فاشلة أو محبطا أو مكتملا” في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد، 24 هجوما على أنها “جهادية”، في حين كانت 83 هجوما، نحو ثلثي هذه الهجمات، “قومية إثنية وانفصالية”. ومرة أخرى، اسأل نفسك ما إذا كنت قد سمعت أي سياسي أو مسؤول منتخب أو “خبير” أو متحدّث إعلامي يتحدث عن أي من هذه الحقائق أثناء دعايتهم المتواصلة بشأن “التهديد الجهادي”؟ لا عجب في قمع هذه الحقائق والأرقام والاتجاهات بشكل منهجي من الخطاب العام السائد، والذي يناشد عن قصد العاطفة على الواقع.
بشكل عام، لا يقتصر هدف “الحرب على الإرهاب” على معالجة تهديد خطير، وإنما يتلخص الهدف من هذه الحرب في خدمة مختلف الأجندات السياسية والمؤسسية والاقتصادية والجغرافية السياسية لهؤلاء الذين يتلاعبون بسياسة الخطاب والسيطرة، بداية من التدخل العسكري في الشرق الأوسط لأغراض الهيمنة وقمع الأصوات المعارضة وجذب انتباه وسائل الإعلام أو تأمين ميزانية “مكافحة الإرهاب”، وصولا إلى تحويل مجتمعاتنا الحرة والديمقراطية إلى دول بوليسية و”مجتمعات اليقظة” الأورويلية.
المصدر: ميدل إيست آي