منذ أول عملية زرع جهاز منظم ضربات القلب الاصطناعي عام 1958، انبهر العالم بالجهود العلمية والطبية التي توصلت إلى هذا الاختراع العظيم، ومع التقدم التكنولوجي الهائل في السنوات الأخيرة وزيادة عدد المسنين في كل من المناطق المتقدمة والنامية زاد الطلب على هذه المنتجات حتى باتت واحدة من أكثر الحلول الطبية شيوعًا، حيث يعيش عشرات الملايين من الأشخاص حول العالم بأجهزة طبية مزروعة، مع ما يقدر بنحو 25 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها.
كما ساعدت العديد من الأمراض المتعلقة بالقلب والأوعية الدموية وغيرها مثل باركنسون والصرع وضعف السمع أو البصر على ظهور أجهزة تعويضية مختلفة مثل القوقعة السمعية ومضخات إفراز هرمون الأنسولين ومنبهات النخاع الشوكي والمنشطات العصبية، ومن ناحية أخرى، شجعت العمليات الجراحية التجميلية أيضًا على نمو هذا المجال، مثل عمليات زراعة الأسنان والثدي.
وهو عمل مربح، إذ تكلف مثلًا منبهات النخاع الشوكي والجراحة اللازمة لزرعها ما بين 32000 دولار و50.000 دولار، ويتراوح كذلك سعر الجهاز نفسه من 20 إلى 25.000 دولار من هذا المبلغ. وفي سياق آخر، من المتوقع أن ينمو سوق هذه الصناعة من 15.21 مليار دولار أمريكي عام 2017 إلى 30.42 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025، بمعدل سنوي مركب نسبته 9.24%، مما جعل الشركات المصنعة لهذه السلع أحد أكثر الصناعات ربحًا وأسرعها نموًا في قطاع الرعاية الصحية، إذ تجني هذه الشركات أكثر من 85 مليار دولار سنويًا.
لكن، رغم اكتسابها صيت الدواء الشافي من الآلام والانتكاسات الصحية، كشف تحقيق استقصائي عمل عليه أكثر من 250 صحفيًا استقصائيًا، من 36 دولة حول العالم، يعملون في 60 مؤسسة صحفية، منها لوموند الفرنسية والغارديان البريطانية، أن الأجهزة الطبية التي توجد في أجسام ملايين المرضى حول العالم، تسببت في تفاقم حالات البعض الصحية، كما أدت إلى وفاة آخرين وسط تعامي مقصود من الجهات المختصة.
فشل رقابي
اكتشف الباحثون أن الأجهزة الطبية التي تستخدم التيارات الكهربائية خصوصًا لمنع إشارات الألم قبل وصولها إلى الدماغ هي معدات شديدة الخطورة، حيث تمثل التقارير المتعلقة بمشاكلها ثالث أكبر عدد من التقارير الموجهة إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، كما تم الإبلاغ عن أكثر من 1.7 مليون إصابة وأكثر من 80 ألف حادث منذ عام 2008، تفيد جميعها بأن المرضى أصيبوا بالصدمة أو الحرق أو عانوا من تلف في النخاع الشوكي يتراوح من ضعف العضلات إلى الشلل النصفي.
ومن بين 4000 نوع من الأجهزة التي تراقبها إدارة الأغذية والعقاقير، سجلت بدائل الورك المعدنية ومضخات الأنسولين المزيد من تقارير الإصابة، كما لاحظت الهيئة أن أكثر من 500 شخص من الذين زرعوا منبهات في النخاع الشوكي ماتوا، لكن تفاصيل وفاتهم ضئيلة وغير دقيقة، الأمر الذي لم يمكن الأطباء من تحديد ما إذا كانت هذه الوفيات مرتبطة بالمنبهات المزروعة أو بعمليات الزرع نفسها.
لا سيما أن مصنعي الأجهزة الطبية يصرون على أن منبهات النخاع الشوكي آمنة – حيث يُزرع نحو 60.000 منبه سنويًا – ويضيف الأطباء المتخصصون في هذه العمليات الجراحية بأنهم ساعدوا في تخفيف الألم للعديد من مرضاهم، عدا عن أنهم حصلوا على موافقة الهيئة على غالبية هذه الأجهزة مع إجراء اختبارات سريرية قليلة.
لكن، في هذا الخصوص، أشارت ديانا زوكرمان، مديرة في المركز الوطني للبحوث الصحية، أن الدراسات التي تسوق لمحفزات النخاع الشوكي وتعتبرها آمنة وفعالة وملائمة لجميع المعايير الطبية غير صحيحة تمامًا، لأن بعض هذه التجارب السريرية تُجرى على “خنازير في دولة غينيا الإفريقية”، وليس على مرضى بشريين.
وكذلك وجد التحقيق أيضًا أن إدارة الأغذية والعقاقير – التي تعتبرها البلدان الأخرى المعيار الذهبي في مراقبة الأجهزة الطبية – تُعرض حياة الأشخاص للخطر من خلال موافقتها على هذه الأجهزة واستجابتها ببطء عندما يتعلق الأمر بإجبار الشركات على تصحيح بعض النواحي التي تهدد حياة المرضى، كما أنها نادرًا ما تسحب الأجهزة المسببة لمشاكل كبيرة من السوق، عدا أنها لا تكشف عن عدد الأجهزة المزروعة في كل عام، وهي معلومات مهمة لاستخدامها في حساب معدلات النجاح والفشل، ولكنها ترفض التعامل مع هذه المسألة خوفًا من الاعتراف بفشل رقابتها.
انتهاكات واسعة
لا يقع اللوم كله على الهيئة الأمريكية، لأن الشركات المصنعة للأجهزة الطبية تلاعبت بعدة ملفات في هذا الموضوع، ويتضح ذلك في أكثر من حادثة وإحداها موقف شركة كونسيبتس الأمريكية، التي تلقت بين عامي 2008 و2010 نحو 16 ألف شكوى من المرضى بخصوص مضاعفات صحية سببها جهاز طبي من إنتاجها، يمنع الإنجاب من خلال وضعه في قناة فالوب لدى النساء، لكن الشركة لم تبلغ الهيئة إلا بأقل من 200 شكوى مما أخفى حجم الضرر الحقيقي الذي تسببت به هذه الأدوات.
في الوقت نفسه، أنفق صانعو الأجهزة الطبية مليارات الدولارات للتأثير على الهيئات التنظيمية والمستشفيات والأطباء وتغيير موقفهم تجاه منتجاتهم، حيث يُطلب من الشركات المصنعة للأدوية والأجهزة كشف مدفوعاتها للأطباء، وبحسب الباحثين، دفعت أكبر 10 شركات في هذا القطاع نحو 600 مليون دولار للأطباء أو مستشفياتهم، علاوة على ذلك، تُظهر السجلات أن أكبر أربع شركات لتصنيع محفزات النخاع الشوكي أنفقت أكثر من 22 مليون دولار مجتمعة منذ عام 2017 للتأثير على التشريعات التي تخص صناعتهم.
وجدت وكالة “أسوشيتد برس” أن الهيئة سمحت لبعض منبهات النخاع الشوكي بالوصول إلى السوق دون إجراء دراسات سريرية جديدة وبمراجعة أقل صرامة، معتمدةً على الدراسات السابقة
ووفقًا للتحقيق، فرضت غرامات على بعض الشركات لإجرائها دراسات تتحدث عن سلامة وفاعلية منتجاتها، والترويج بحماس وثقة للمنتجات بطريقة غير مشروعة من خلال رشي الأطباء بالأموال، ففي عام 2017، رُفعت دعوى قضائية ضد شركة “ميدترونيك” المُصنعة لمنبهات النخاع الشوكي، بسبب تعريض حياة المرضى للخطر وخداع برامج الرعاية الصحية الفيدرالية بواسطة الحوافز المالية.
عام 1976، أقر الكونغرس تعديلات على الأجهزة الطبية، وهو قانون يهدف إلى طمأنة الأمريكيين بأن الأجهزة التي أوصى بها أطباؤهم ستؤدي إلى خير ولن تضر، وتنفيذًا للقانون، أنشأت إدارة الأغذية والعقاقير ثلاث فئات من الأجهزة الطبية، وعليها تم تحديد المنتجات عالية الخطورة مثل منبهات النخاع الشوكي لتكون معايير الاختبارات السريرية أكثر تشددًا، لكن وجدت وكالة “أسوشيتد برس” أن الهيئة سمحت لبعض منبهات النخاع الشوكي بالوصول إلى السوق دون إجراء دراسات سريرية جديدة وبمراجعة أقل صرامة، معتمدةً على الدراسات السابقة.
على سبيل المثال، قابلت وكالة “أسوشيتد برس”، جيم تاف، واحد من 40 مريضًا آخرين قالوا إن لديهم مشكلة مع منبهات النخاع الشوكي، ليس لأنها فشلت في تخفيف حدة الألم عليهم، بل لأنها تركتهم في حالة أسوأ من السابق، ففي العام الماضي، وصفت إحدى الطبيبات المشرفة على حالة تاف الصحية الجهاز على أساس أنه حسن نوعية حياة مرضاه، لكن بعد أربع سنوات، لم يتمكن تاف البالغ من العمر 45 عامًا من السير وأصبح مشلولًا وسجين السرير بعد أن كان يعتقد أنه سيعيش حياة رائعة، بحسب وصفه.
أضافت زوكرمان قائلة إنه لا يوجد طبيب يريد التفكير في أنه يؤذي المرضى، ولكن “هناك حافزًا ماليًا هائلًا لتجاهل أو تناسي سعادة المرضى ورضاهم”، من جانب آخر، قال أكثر من نصف المرضى الذين قابلتهم وكالة أسوشييتد برس إن أطباءهم ضغطوا عليهم لاتخاذ هذا القرار.
شفافية المؤسسات الطبية لم تنقذ المرضى من الآلام التي بحثوا لها عن مخرج خارج أجسامهم، بل دفعت حياتهم إلى حافة الخطر ومع عدم وجود خيار بديل للمشكلة، ينتظر المرضى أن تتعامل الجهات المختصة مع هذا الموضوع بجدية حاسمة.
مثلًا، منذ أن وضع تاف الجهاز داخل جسمه، بدأ يشعر بصدمات عشوائية، كما أحرقت البطارية جلده، ورغم شكوته المستمرة من الآثار الجانبية، قال الأطباء إن منبهات النخاع الشوكي لا تسبب هذا النوع من المشكلات، وهذا يتعارض مع معايير بوسطن العلمية التي تقر بأن منبهات العمود الفقري وإجراءات زرعها تنطوي على العديد من المخاطر مثل التحفيز المفرط والشلل والالتهابات.
في المحصلة، أحدثت صناعة الأجهزة الطبية ثورة في الطب الحديث منذ 5 عقود، واستقبل المرضى هذا الإنجاز بكثير من الأمل والحماس، ولكن شفافية المؤسسات الطبية لم تنقذهم من الآلام التي بحثوا لها عن مخرج خارج أجسامهم، بل دفعت حياتهم إلى حافة الخطر ومع عدم وجود خيار بديل للمشكلة، ينتظر المرضى أن تتعامل الجهات المختصة مع هذا الموضوع بجدية حاسمة.