لازالت الأحداث حبلى بالمفآجات والجو الثوري مليء بالمتغيرات وأصبحت البرجماتية والمصالح والانتهازية السياسية هي التي تحكم العلاقات وتوحد بين المتناقضات وتؤجل الصراعات وتربط بين الفصائل الثورية المتناحرة والأنظمة المستبدة المجرمة والتي فرقتها الأيدولوجيات وسالت بينهما الدماء ودفعت ضريبتها المجتمعات المسكينة والشعوب المنكسرة الذليلة للقوة والسلاح وسطوة شبق السلطة وطوباوية الأحلام والأهداف.
فمن مظاهر هذه البرجماتية ومن صور هذه الانتهازية السياسية وكما يقول الأستاذ “نواف القديمي” الكاتب والباحث السعودي فى مقال بعنوان كيف تشكلت داعش؟ ومع كل هذه الصلابة العقائدية، نحن أمام تنظيم (يقصد تنظيم داعش) يمثل حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية السياسية، في سلوكه على الأرض، وفي اختياره معاركه، وفي تقديره الأوزان العسكرية للدول والقوى المحيطة به، والتعامل معها وفق ذلك، ولهذا السلوك البراغماتي شواهد كثيرة منها ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، حين بقي، أكثر من عام، يخوض معارك شرسة ضد الفصائل الثورية في سورية، وكثيرٌ منها منتمٍ بشكل ما، يزيد أو ينقص، للسلفية الجهادية، في حين أن جبهاته الواسعة مع النظام – الذي يعتبره نُصيريًا كافرًا – هادئة، ومعاركه معه لا تكاد تُذكر.
ولو نظرنا إلى خريطة المساحات التي يهيمن عليها تنظيم داعش في سورية، لوجدنا أن جميعها مساحات مُنتزعة من الفصائل الثورية، لا من النظام السوري، ورأينا مقدار تشدد تنظيم الدولة الإسلامية في هدم كل المراقد والمزارات والأضرحة، حتى تلك التي تُنسب إلى الأنبياء والصحابة، باعتبارها مظاهر شركيّة، لكن، حين تعلق الأمر بضريح جد العثمانيين “سليمان باشا” الموجود داخل سورية، وفي المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فلم يكتفِ التنظيم بالامتناع عن هدمه، بل سهّل دخول القوات التركية للضريح وحماها، وحتى الآن، تقوم قوات داعش بحمايته، ولم تتعرض له بالهدم.
أيضًا، فيما يخص علاقة تنظيم الدولة الإسلامية بالفصائل المسلحة في سورية، ففي وقت تخوض فيه داعش معارك شرسة لا تخلو من نزعات انتقامية وإعدامات ميدانية وقطع رؤوس أسرى وخطاب تكفيري حاد مع فصائل محسوبة على السلفية الجهادية مثل جبهة النصرة وأحرار الشام وسواهما، فإن التنظيم، في المقابل، قَبِل بمبايعة فصائل مسلحة وولائها، هم أقرب لقطاع طرق وجباة أموال ومليشيات ارتزاق، وكثيرٌ من هذه الفصائل بايعت تنظيم الدولة الإسلامية لدوافع مادية، أو للاحتماء بها من العقاب الذي فرضته عليها الهيئات الشرعية (كما تكرر ذلك مرارًا في ريفي حلب ودير الزور وسواهما، فضلاً عن عدم فتح هذا التنظيم جبهات مع قوات النظام السوري، سوى باستثناءات محدودة، على الرغم من الحدود الواسعة بينهما، لذلك، تجد أن كل المدن التي تخضع الآن لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، هي مدن مُنتزعة من الفصائل الثورية، ولم تنتزع داعش أي مدينة من النظام السوري، لأنها في الأصل، لا تخوض معارك معه.
ومن صور البرجماتية المقيتة والتي ظهرت كنتاج لظهور تنظيم الدولة على الساحة العالمية والذي أحدث ظهوره تقارب بين السعودية وإيران من جهة وبين أمريكا وإيران من جهة أخرى وبين أمريكا والنظام الأسدي من جهة ثالثة وهذا منطقي ومقبول في ظل منطقية هدفهم المرحلي وهو القضاء على تنظيم الدولة.
ولكن المفأجاة المدوية غير المتوقعة من البرجماتية والانتهازية السياسية هذا التماهي الجديد والمصالحة التي دخلت حيز التنفيذ يوم الخميس الماضي في حيين من أحياء دمشق وهما القدم والعسالي بين النظام الأسدي وبعض فصائل المعارضة المسلحة كالجيش الحر.
فالآن أصبح لدينا نموذجان من البرجماتية: نموذج متساهل مفرط كالجيش الحر ونموذج متطرف مغال كتنظيم داعش.
والجهاد ضاعت رساليته ووسطيته وجماله بين هذين النموذجين القبيحين.
ولكي نعرف كيف نحن أمة خلقت وجعلت لتكون أمة وسطًا لابد أن نعرف معنى الوسطية لغة وإصطلاحًا ومعناها السياسي والجهادي المنشود؟
فالوسطية لغة:
– وسط الشيء بين طرفيه كوسط البيت ووسط القوس ووسط الحبل.
– أفضل الشيء وأحسنه كوسط الزرع أفضل وأحسن من طرفيه
– كما فى لسان العرب لابن منظور وعند الجوهري في الصحاح: أوسط الشيء أعدله وأصوبه
– بين الجيد والردىء كما في المصباح المنير.
ويتضح من المعنى اللغوي أن الوسطية هي أفضل وأعدل وأصوب الأمر وأحسنه، فليس في الوسطية رداءة أو تفاهة أو صغار أو غلو وتطرف.
الوسطية اصطلاحًا:
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: الوسطية الاعتدال في العقيدة والموقف والسلوك والمعاملة والأخلاق، فالإسلام لا يعرف الإفراط أو التفريط ولا يعرف الغلو والجنوح إليه ولا التساهل ولا الركون عليه.
فكيف بمن يقطع الرؤوس ويمثل بالجثث ويجعلها لعبة في أيدي صبيانه من حدثاء السن وسفهاء الأحلام.
لكن كثير من العلماء المعاصرين اشترطوا للوسطية حتى تكون اعتدالاًً، لابد لها من شروط خمس:
– الخيرية حيث الإيمان الكامل التام متزملاً برداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كجزء رسالي تبشيري.
– البينية أي لاجنوح فيها، فهي بين شيئين كصراط الذين أنعم عليهم من غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
– اليسر ودفع الحرج عن الناس بلا إفراط ولا تفريط.
– العدل والحكمة بين كل شيء فهو النهج والسبيل به يعرف سبيل المؤمنين من غيرهم.
– الاستقامة على نهج الربانية وسنة خير البرية بلا تهويل أو تهوين.
يتضح من المعنى الاصطلاحي قيمة عظيمة للوسطية حيث الصدع بالمرجعية والحفاظ على الهوية أساس الوسطية وأعمدة الحفاظ عليها دون غلو فيها أو تقزيم وتهوين لها.
الوسطية السياسية:
الوسطية في المفهوم السياسي الإسلامي المعاصر منهج ينطلق من القواعد السياسية الأصيلة، ويتعايش مع الوقائع السياسية الراهنة بلا إفراط أو تفريط، وهو بذلك فرع من أصل كبير هو الوسطية، لكنه يختص بأكثر الجوانب تعرضًا لمتغيرات الزمان، ألا وهي السياسة التي باتت محكومة بواقع جديد مختلف تمامًا عما كان عليه في السابق.
فالمرتكز الرئيسي الذي تقوم عليه هذه النظرية (الوسطية السياسية) الاجتهاد العلمي المنضبط وفق القران والسنة لمواكبة المتغيرات السياسية المعاصرة استنادًا إلى أن الدولة في الإسلام مدنية تراعي مصالح الرعية وتضمن حقوقهم وتنظم أمورهم المعيشية؛ وبالتالي فإن الوسطية السياسية تعبير عن حالة التوازن بين الحفاظ على هوية الدولة الإسلامية (الحاكمية) وبين سلطة الشعب في اختيار الحكام ومراقبتهم وابتداع القوانين الازمة لتسيير شئونهم برزت الحاجة لمثل هذه النظرية من أجل تحقيق التوازن بين الهوية الإسلامية للدولة (الفكرة والرسالة) وبين الحاجات البشرية المعاصرة في ظل واقع متغير جديد.
وأن الوسطية الإسلامية الجامعة والوسطية السياسية كفرع من فروعها تعبران عن روح أصيلة ونهج تقليدى ميزا المشروع الإسلامي منذ النشأة وأن الانحراف والخروج عن هذه الروح يمثلان شذوذًا عن خط الإسلام المستقيم.
والوسطية الجهادية أن لا تكون داعشيًا تقطع الرؤوس وتسفك الدماء وتقتل المخالف بدون جريمة، وأيضًا ألا تكون من الجيش الحر الذي يبيع مبادئه وقيمه من أجل مصالحة مرحلية مع نظام مجرم قامت ضده ثورة من شعب مظلوم مقهور.
رسالة أخيرة من محب مشفق يعشق الحلم بحكم إسلامي رشيد إلى إخواني وأحبابي من أبناء الحركة الإسلامية، فليعلم الجميع أن الوسطية منة من الله ونعمة وفضل منه أن جعلنا أمة وسطا.
وليست الوسطية هي التمييع والترهل والإفراط والتهوين من شباب الأمة ورجالها ولا هي غلو وتنطع وتطرف.
وليس أن تكون نقطة التقاء تعني الذوبان في هؤلاء أو هؤلاء .. أنت متفرد بحلمك بفهمك بمرجعيتك وهويتك إعلنها صراحة ولا تخشاها .. أنت لست داعشيًا ولا من الجيش الحر!