فصل جديد من التصعيد المتبادل بين أنقرة وواشنطن، لكنه يأخذ هذه المرة منحا أخر، ربما يُدخل العلاقات بين البلدين في نفق مظلم، فبينما تواصل الإدارة الأمريكية تهديداتها المتتالية بفرض عقوبات على الجانب التركي بسبب صفقة منظومة “إس 400” الصاروخية الروسية، يتمسك الرئيس رجب طيب أردوغان بإتمامها رغم تجميد الأمريكان صفقة بيع مقاتلة “إف 35” كرد فعل على هذه الخطوة.
ورغم التزام أنقرة الهدوء والصمت حيال الحرب الكلامية الأمريكية التي يشنها صقور البيت الأبيض بين الحين والأخر، إلا أنه يبدو أن تلك الاستراتيجية لم تعد تؤت ثمارها مع استمرار تلك التهديدات والتي كان أخرها في الـ10 من ديسمبر الجاري، الأمر الذي دفع الأتراك للتخلي عن صمتهم.
وسرعان ما جاء الرد على لسان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الذي هدد بغلق قاعدتي “أنجيرليك” و”كورجيك” الأمريكيتين، في حال فرضت واشنطن العقوبات التي تلوح بها، قائلًا “إذا أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على خطوة سلبية ضد تركيا، فإن أنقرة سترد عليها”.
وتابع أوغلو:” “ينبغي على أعضاء الكونغرس الأمريكي أن يدركوا بأنهم لن يصلوا إلى نتيجة عبر الإملاءات ، إذا تعاملت الولايات المتحدة معنا على نحو إيجابي فسوف نرد على نفس النحو، لكن إذا اتخذوا خطوات سلبية ضدنا فسوف نرد عليها”، مستدركًا :”تركيا منفتحة على بدائل لمقاتلات “إف 35″ الأمريكية، بما في ذلك من روسيا”.
لأول مرة تتخلى أنقرة عن سياسة غض الطرف حيال التهديدات الأمريكية، لكن الرد هذه المرة ربما يكون مؤلمًا حال تنفيذه، كونه من المتوقع أن يزيد نار التوتر اشتعالًا، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول أهمية هاتين القاعدتين بالنسبة للأمريكان ودول حلف شمال الأطلسي.
تصعيد أمريكي
منذ إعلان وزارة الدفاع التركية عن تسلمها الأجزاء الأولى من منظومة الصواريخ الروسية في 12 يوليو 2019 لم تتوقف واشنطن عن التلويح بفرض عقوبات اقتصادية ضد أنقرة، وهي التهديدات التي كشفت عن حجم القلق الكبير لدى الأمريكان من هذه الصفقة التي بات من الواضح أنها أكبر من مجرد ضياع حفنة من المليارات كانوا في طريقهم للخزانة الأمريكية حال شراء هذه الصفقة من البنتاجون.
واليوم أقر الكونجرس الأمريكي سلسلة جديدة من العقوبات على تركيا، في تحرك هو الأحدث والأخطر لحث الرئيس الأمريكي على اتخاذ نهج أكثر صرامة تجاه أنقرة، حيث جاء تصويت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ على فرض عقوبات على السلطات التركية، بعد حظر ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية نقل وبيع طائرات “إف35” إليها.
وقد صوتت اللجنة بواقع 18 صوتًا لفرض هذا التشريع مقابل أربعة أصوات لصالح طرح “قانون تعزيز الأمن القومي الأمريكي ومنع ظهور تنظيم “الدولة ” من جديد لعام 2019″ للتصويت في المجلس بكامل هيئته، ويُذكر أن هذه المرة ليست الأولى التي يتصدى لها الكونغرس. ففي أكتوبر الماضي أقر مجلس النواب تشريعًا خاصًا لفرض عقوبات على تركيا بأغلبية 403 أصوات مقابل 16 صوتًا في أكتوبر، وفي انتظار توقيع دونالد ترامب عليه حتى يصبح ساريًا، وهي الورقة التي تضغط بها واشنطن على أنقرة حتى كتابة هذه السطور.
علق السيناتور الجمهوري، جيم ريش، رئيس اللجنة بمجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون على هذا التصويت قائلًا:” لقد حان الوقت ليتحد مجلس الشيوخ ويستغل هذه الفرصة لتغيير سلوك تركيا”، فيما أوضح السيناتور الجمهوري راند بول في مقابلة له “أن إدارة ترامب عارضت القانون بشده لأنه سيحد من قوة الرئيس وقد يجعل من الأصعب التفاوض مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أمور مثل شراء تركيا للمنظومة الصاروخية والقتال في سوريا”.
التهديد بغلق قاعدتي “إنجرليك” و”كورجيك” ليس الأول من نوعه، إذ تعلم أنقرة جيدًا أهميتهما بالنسبة للجانب الأمريكي، ومن ثم تلجأ إليهما كورقة ضغط قوية في يدها بين الحين والأخر ردًا على تجاوزات واشنطن في حقها
وكانت واشنطن قد أمهلت تركيا حتى نهاية يوليو الماضي للعدول عن شراء المنظومة الصاروخية الروسية، وإلا فإن الطيارين الأتراك الذين يتدربون حالياً في الولايات المتحدة على طائرات “إف 35” سيطردون، وهو ما حدث لاحقاً في إيقاف الطيارين الأتراك عن التدرب.
وأعلنت حينها وزارة الخارجية التركية، في بيان، أن “هذه الخطوة الأحادية لا تتوافق مع روحية التحالف، وغير قائمة على أسباب مشروعة”، مضيفة أنه “من المجحف إخراج تركيا، أحد الشركاء في برنامج إف 35″، رافضة الادعاءات بأن منظومة صواريخ إس 400 الروسية ستشكل خطراً على المقاتلات.
أنقرة ترد
لم ينتظر الأتراك كثيرًا للرد على هذا القرار، حيث جاء التهديد بالرد بالمثل على أي عقوبات تفرضها أمريكا سريعًا، وعلى لسان المتحدث الرئاسي التركي، إبراهيم كالين، الذي أكد أن هذا التشريع لن يؤثر على استخدام أنقرة لمنظومة إس-400 الروسية حتى إذا أقره الكونغرس.
أما وزير الخارجية التركي، فأكد أن أي عقوبات أمريكية ستضر بالعلاقات بين البلدين متوعدًا بالرد، مضيفًا “يتعين على النواب الأمريكيين أن يدركوا أنهم لن يحققوا شيئًا بفرض عقوبات. إذا تعاملت الولايات المتحدة معنا على نحو إيجابي فسوف نرد على نفس النحو، لكن إذا اتخذوا خطوات سلبية ضدنا فسوف نرد عليها”.
وأضاف أن بلاده حصلت على منظومة أس 400 الروسية لأغراض دفاعية، مشددًا على أن هذه الخطوة لا تستهدف الولايات المتحدة، وحث أعضاء الكونغرس الأميركي على إدراك “أنهم لن يصلوا إلى نتيجة عبر سياسة الإملاءات”، محذرًا أن بلاده تملك خيارات للرد على أي خطوة أميركية ضدها ومن بينها إمكانية بحث الوجود الأميركي في قاعدة إنجرليك العسكرية التركية.
وفي إطار سياسة الردع التي تتبناها أنقرة ضد أي تحركات تراها تشكل تهديدًا لأمنها القومي والاقتصادي، حذر أوغلو من أن تركيا ستمنع دولا أخرى من القيام بعمليات استكشاف وتنقيب عن الغاز في مناطق تقول إنها تابعة لها في شرق المتوسط، موضحًا -في مقابلة مع شبكة خبر التلفزيونية- أنه “لا أحد يمكنه القيام بهذه الأنواع من الأنشطة في جرفنا القاري من دون إذننا”، مؤكدًا أنه لا حق لليونان ولا الاتحاد الأوروبي في إصدار أي قرارات بشأن الاتفاق الموقع مع ليبيا.
قاعدتي “إنجرليك” و”كورجيك”
التهديد بغلق قاعدتي “إنجرليك” و”كورجيك” ليس الأول من نوعه، إذ تعلم أنقرة جيدًا أهميتهما بالنسبة للجانب الأمريكي، ومن ثم تلجأ إليهما كورقة ضغط قوية في يدها بين الحين والأخر ردًا على تجاوزات واشنطن في حق تركيا، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية التركي أكثر من مرة.
ففي مايو 2018 هدد أوغلو بإمكانية أن تغلق بلاده أبواب قاعدة إنجرليك أمام الولايات المتحدة بسبب “سياسة واشنطن غير الودية”، مضيفًا خلال لقاء تلفزيوني له : “نحن نسعى إلى تسوية العلاقات مع الولايات المتحدة، ويتعين عليها من أجل تطبيع هذه العلاقات أن تتخذ خطوات بشأن موضوع منبج، وتسليم غولن، ومشاكل أخرى (عالقة)”.
وأوضح أن “الشعب التركي حين يدور الحديث حول هذا الأمر يقول: أغلقوا قاعدتي إنجرليك وكورجيك. توجد في أيدينا أوراق أخرى مهمة، ويجب على الولايات المتحدة ألا تفقد حليفاً مثلنا، ننتظر منها أن تتراجع عن خطواتها الخاطئة”.
وتمثل قاعدة إنجرليك الجوية التي تقع مدينة أضنة على الساحل الشمالي الشرقي للبحر المتوسط، واحدة من أهم القواعد الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، إذ تشكل نقطة انطلاق للعديد من الحملات العسكرية في المنطقة والعالم طوال عقود، فضلاً عن استخدامها أمريكياً كمركز تخزين إقليمي، وتبعد 100 كيلومتر عن الحدود السورية، ما جعلها مركزاً مهماً في الحرب على “داعش”.
كل طرف يمتلك حزمة من أوراق الضغط التي يلعب بها لكسب المزيد من النقاط التفاوضية بشأن الملفات المشتركة التي تتعارض فيها مصلحة الطرفين
وتستوعب القاعدة التي بدأ العمل فيها عام 1951 بعد اعتماد قرار إقامتها على هامش مؤتمر القاهرة الثاني، في ديسمبر عام 1943، 57 مقاتلة حربية، بها مدرجان لهبوط الطائرات وإقلاعها، ويبلغ طول الأول 10 آلاف قدم، بينما يبلغ الثاني 9 آلاف قدم، ووقعت هيئة الأركان العامة التركية والقوات الجوية الأمريكية اتفاقية الاستخدام المشترك لقاعدة جديدة، في ديسمبر 1954.
القاعدة تضم إلى جانب المنشآت العسكرية مدينة متكاملة للعاملين فيها وعائلاتهم؛ وهم 7 آلاف عسكري، إضافة للموظفين المدنيين والمتعاقدين، وتتمثل المنشآت في مدرسة “إنجرليك” الأمريكية، ومركز للتعليم تديره جامعة ميريلاند، ومركز اللياقة البدنية، ومسرح تعرض به أفلام السينما، وعيادات بيطرية.
ظهرت مكانة القاعدة الاستراتيجية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، حيث كانت نقطة انطلاق الطائرات الأمريكية لقصف مواقع تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، كما تقدم الوحدة “39” المتمركزة في قاعدة إنجرليك دعماً للقوات الأمريكية الموجودة في 5 مناطق في تركيا، وفي 24 موقعاً آخر في المنطقة، هذا بخلاف استخدامها القوي في الحرب على التنظيمات الإرهابية في سوريا.
ولم تقل قاعدة كورجيك أهمية عن سابقتها، إذ ترجع مكانتها كونها أنشئت بدرجة أساسية من قبل حلف الناتو في ولاية ملاطيا التركية وسط جنوب البلاد، كما أنها ليست بعيدة عن الحدود مع سوريا والعراق وإيران، وهو ما يعطي موقعها مكانة استراتيجية كبيرة.
أقيمت تلك القاعدة على وجه الخصوص بعد التوافق عليها بين زعماء الناتو عام 2010 وهي مخصصة لأنظمة المراقبة وجمع المعلومات والدفاع، واكتسبت مزيدًا من الأهمية خلال الأونة الأخيرة كونها كانت مصدرًا هامًا لجمع المعلومات الاستراتيجية عن مناطق النزاع في سوريا والعراق، هذا بخلاف دورها المحوري فيما يتعلق بالملف الإيراني لاسيما في ظل التوتر المتصاعد بين طهران والحلف.
وفي المجمل، فإنه من المستبعد أن تلجأ أنقرة لترجمة هذا التهديد بغلق القاعدتين نظرًا لحرصها على فتح باب التفاوض مفتوحًا مع الولايات المتحدة التي وبالمنظور ذاته لا يمكنها أن تستغني عن الحليف التركي، خاصةً في ظل التنسيق الواضح في العديد من الملفات الحيوية في المنطقة.
يمتلك كل طرف حزمة من أوراق الضغط التي يلعب بها، لكسب المزيد من النقاط التفاوضية بشأن الملفات المشتركة التي تتعارض فيها مصلحة الطرفين، ويبقى هناك خط أحمر من المرجح ألا يقترب منه أي من القوتين، لكن التلويح التركي بغلق القاعدتين والذي جاء ردًا على استمرار التهديد بفرض عقوبات اقتصادية، لاشك وأنه سيزعج واشنطن كثيرًا، لاسيما في هذا التوقيت.