الثالث من يوليو/ تموز 2013، يطيح عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري ومدير المخابرات الحربية في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، بالرئيس المصري محمد مرسي، الذي جاء بانتخاباتٍ شهد السيسي نفسه بنزاهتها، عقب ثورة يناير/ كانون 2012.
اعتبر كثير من المراقبين أن ما جرى في الثالث من يوليو كان انقلابًا توافرت فيه كلّ الشروط الموضوعية للنجاح؛ فقد استطاعت “الدولة العميقة” عزل جماعة الإخوان المسلمين عن حاضنتها الشعبية التي اختارتها في أربعة استحقاقات انتخابيّة، ونجحت في حشد قوى المعارضة غير الدينية والمؤسسات الوطنيّة كالأزهر والكنيسة، داعيةً الملايين للنزول إلى الشارع، بعد التنسيق مع الداعمين الإقليميين؛ ليبدو المشهد كما لو كان الجميع ضد هذه الجماعة.
ومع ذلك، فقد كان ثمّة عنصرٌ، ربما لولا استعداده وكفاءته ما نجح الأمر، وهو الفاعل “الوطنيّ”، الذي نظر إلى هذا المشهد على طريقة الروايات الشعبية المبشرة بصعود المخلّص؛ فبالنسبة له، فقد هيأت المقاديرُ الساحة لتحقيق حُلمٍ قديم طالما راوده في الصغر، ومن هنا طرأ على المعادلة المصريّة الّتي يفترض أن تكونَ حالةً اجتماعيّة عاملٌ جديد، وهو الذاتيّة.
الحلم
يَعتبر الرئيس المصريّ أن وصوله إلى قصر الاتحادية كان حلم الطفولة، وربما لا يكاد يترك مناسبةً إلا ويؤكد من خلالها على هذا المعنى بهذا المصطلح. فهو الذي كان يدرس الحالة المصريّة ويعرف تفاصيلها وتشخيصها، بينما ينشغل زملاؤه بتفاصيل أخرى تناسب أعمارهم. وهو الذي حَلم برؤية بعض المدن الصناعيّة المتخصصة في الأثاث والجلود والنسيج، كما كان حلم بافتتاح حقل الغاز العملاق “ظهر”.
ربما كانت هذه الأحلام التي قصّها علينا السيسي “أحلامَ اليقظة” التي تحدث عنها علم النفس ويعيشها جميع الناس في عمر الشباب؛ ولكن ماذا عن الرؤى؟ روى السيسي بعد الانقلاب مباشرة وقبل تصديره رئيسًا محتملًا للبلاد للكاتب الصحفيّ ياسر رزق رؤيةً قديمة، تخبره أنه سيكون رئيسًا للبلاد، وأنه سيصبح من “الأغنياء”، إذ سيكون بمقدوره ارتداء واحدة أفخم أنواع الساعات العالمية “أوميجا”.
ويبدو أن هذه الأحلام والرؤى التي تنتمي إلى “اللا وعي”، قد أثرت على “وعي” السيسي إلى الحدّ الذي جعله يُعدّ العدة لـ”مشروعاته الشخصية” بعد توليه حقيبة الدفاع مباشرة، فبالبحث والتنقيب في أنشطته خلال هذه الفترة، نجد أنه قد تواصل مع أهالي “مطروح” للحصول على أرض المحطة النووية (الضبعة)، التي سيأتي صديقه الشخصي فلاديمير بوتين لوضع حجر أساسها خلال الأيام القليلة القادمة. كما يخبرنا الصحفي الأمريكي ديفيد كيركباتريك مراسل “نيويورك تايمر” السابق في القاهرة، أن الرئيس الأسبق محمد مرسي كان يطلب من السيسي جديًا العمل على تطهير “سيناء” من المتطرفين، إلا أن الرجل الذي كان يدعي أن الجيش يبذل قصارى جهده من أجل ذلك، لم يكن جادًا وقتها في المضي إلى هذا الأمر.
وبحسب المصادر الإعلاميّة المقربة من دوائر صنع القرار وقتها، فقد صعّد السيسي مرشحًا إلى منصب وزير الدفاع “أبوه الروحيّ” في المؤسسة العسكرية، والذي كان يعلم ما يضمره في نفسه من أحلام وطموحات؛ المشير محمد حسين طنطاوي، ذلك الرجل الذي لا يكاد السيسي يترك مناسبةً إلا ويقوم خلالها بتكريمه والثناء عليه، حتى أنه استدعاه للجلوس بجواره رسميًا بعد الإطاحة برفيق دربه، الفريق عنان.
رغم كلّ الشواهد، ظلّت الشكوك حيال نية السيسي قيادة البلاد إلى هذا المسار قائمة، حتى جاءت انتخابات الرئاسة الثانية عام 2018
الدولة في مخيال السيسي
من هذه الزاوية الكاشفة، يمكن لنا تفسير مقولات السيسي التي تحمل تناقضًا ظاهريًا عن نظرته إلى الذات، والجيش، والدولة، باعتبارهم جميعًا معادلًا لشخص واحد، وهو رئيس الجمهورية، الذي لن يسمحَ لأحدٍ بالاقتراب من كرسيه أبداً، تصريحًا أو تلميحًا، على حدّ قوله.
قد يشترك السيسي عند محاولة تفسيره مع كلّ زعماء مصر السابقين في بعض السمات الشخصية وملامح المرحلة التاريخية؛ ولكن المؤكد أنه أقرب إلى دولة “محمد علي”، الذي استدعاه السيسي بالفعل عند دفاعه عن نفسه أمام اتهامات بنائه كثيرًا من القصور الرئاسية بلا مبرر. فبعد أن تخلّص من مماليك عصره “الإخوان” في مذابحه الشهيرة، وفرغ من بناء قلاعه المحصنة في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وغيرها، وجهز جيشًا ضخمًا لمكافحة التمرد (قوات التدخل السريع)، وأعدّ مدينةً رقمية تحت أرضية لرصد كل نَفَس في البلاد (عقل الدولة)؛ سيكون كلّ شيء جاهزًا للجنرال الصغير الذي تعلّم إدارة “الجمهورية” كـ”مملكة” من أبيه خلال الفترة الماضية.
ورغم كلّ الشواهد، ظلّت الشكوك حيال نية السيسي قيادة البلاد إلى هذا المسار قائمة، حتى جاءت انتخابات الرئاسة الثانية عام 2018، والتي أطاح فيها بكلّ المرشحين الذين اعتزموا منافسته على حكم البلاد، تقييدًا أو اعتقالًا، كما فعل مع أحمد شفيق وسامي عنان وأحمد قنصوة، فيما أجاب عند سؤاله عن ترشحه بشكل منفرد تقريبًا: “أنتوا بتكلموني في موضوع أنا مليش ذنب فيه، والله العظيم أنا كنت أتمنى وجود معانا واحد واتنين وتلاتة وعشرة”. ومن بعد ذلك التعديلات الدستورية التي منح نفسه من خلالها حق تعيين نائب – أو أكثر – ليحلّ محلّه حال تعرضه إلى مانع قهريّ.
محمود السيسي
يُعتبر الحديث عن عائلة السيسي فرعًا عن نوايا السيسي السلطويّة إجمالًا، وفرعًا عن مخاوفه في نفس الوقت. فبحسب السيسي، فإن انتزاع هذه السلطة من يديه آتٍ لا محاله، ولكنه سيكون بشكل قهريّ، إما بالموت الطبيعيّ، أو غير الطبيعيّ، أو حركة الجماهير. هذه هي مخاوف السيسي الثلاثة، التي تحملها مضامين خطاباته وتسريباته، ومن ذلك ما قصّه لياسر رزق، أن نفس الرؤية التي رآها لصعوده الكبير، قد تضمنت إشارةً لنهايته، على طريقة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات. وبحسب تقارير مؤكدة، تعرض السيسي لمحاولة اغتيال واحدة على الأقل، ونحو محاولتين للانقلاب، كما ظهر في أحد العروض العسكرية خلف زجاج مضاد للرصاص.
وبخلاف مسألة نسب والدته “سعاد” التي دار حولها كثير من اللغط الذي لا يمكن تأكيده بخصوص أصولها اليهودية المغاربية وطريقة تمريرها إياه للكلية الحربية، وزوجته “انتصار” التي تطلب تعديلات هندسية فارهة في قصوره الجديدة؛ فقد كشفت أزمة سبتمبر التي فجرها المقاول المنشق محمد علي وما تلاها من تسريبات عن صعود عائلة السيسي صعودًا اجتماعيًا ومهنيًا منظمًا لا يمكن تفسيره بغير ارتباطها بصعوده نفسه إلى الحكم.
اتجه أبناء السيسي الذكور الذين سبق تعيينهم في أجهزة الأمن الداخلي، المخابرات العامة والرقابة الإدارية، محمود ومصطفى على التوالي، إلى مزيدٍ من الترقي في مناصبهم، للّدرجة التي تجعلهما مسيطريْن على هذين الجهازين السياديين (ترك محمود من رتبة رائد إلى عميد خلال حكم السيسي) كما ترك حسن، نجل السيسي الأصغر من الذكور، العمل في قطاع البترول إلى المخابرات العامة رفقة أخيه محمود، رغم فشله المستمر سابقًا في الالتحاق بالخارجية على حد قول السيسي نفسه. وقد نحى أشقاء السيسي إلى الترقي في الجهاز القضائي، حيث بات أحمد السيسي نائبًا لإحدى محاكم النقض، وحسين مستشارًا في إحدى المحاكم، بينما تعمل نجلة أخته الشقيقة كمعاونة في النيابة الإدارية. أما أبناء عمه، أحمد ومحمود، فقد ترقيا في قطاع الكهرباء، رؤساء لعدد من الشركات الحكومية.
رغبة السيسي، ونجله محمود، في تأمين انتقال السلطة كانت واضحةً منذ البداية، حيث حرص السيسي على امتصاص الطلبات الإيطالية المتعلقة بتسليم أسماء معينة من الضباط المتورطين في مقتل الباحث الإيطالي “ريجيني” نظرًا لعلاقة هؤلاء الضباط غير المباشرة بنجله. كما أشرف محمود شخصيًا على إدارة الانتخابات البرلمانية الأولى عام 2015، والإطاحة باللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة السابق، وصياغة التعديلات الدستورية الأخيرة، والتي تضمنت الإشارة إلى إمكانية اختيار الرئيس نائبًا له.
يثق السيسي في الحليف الإماراتي، ممثلًا في بن زايد، ثقة مطلقة، نظرًا لامتلاكه جيشًا من الخبراء الإستراتيجيين ومراكز تقدير الموقف
ولكنّ الإدارة غير الراشدة من الرئيس، ونجله، لأزمة سبتمبر غير المتوقعة، عمّقت مشكلة السيسي الأساسية، التي تتعلّق بكيفية تقديم السيسي نجله الذي صنعه على عينه لتلافي مسار جمال مبارك الذي لم يكن يحظى بالقبول داخل المؤسسة العسكرية إلى الرأي العام. فبحسب ما ورد في تقرير “مدى مصر”، فقد أدى هذا الإخفاق في عدد من الملفات، على رأسها ملف الإعلام، إلى طلب الحليف الإماراتي إبعاد نجل السيسي إلى خارج البلاد مؤقتًا، ليعاود اللواء ناصر فهمي نائب مدير المخابرات العامة الاضطلاع بدوره في هذه الملفات التي سطا عليها نجل السيسي المتزوج من ابنة أحد أكبر رجال الأعمال في البلاد ومدير شركة “بيبسي مصر” سابقًا.
وبشكل عامّ، يثق السيسي في الحليف الإماراتي، ممثلًا في بن زايد، ثقة مطلقة، نظرًا لامتلاكه جيشًا من الخبراء الإستراتيجيين ومراكز تقدير الموقف، التي تُحسن إدارة المشهد والتفكير المستقبلي، وهو ما يفتقده السيسي نسبيا. كما أشارت أبوظبي، التي تعلم طموحات محمود، في السابق على والده بتشكيل قوة عسكرية احترافية لمكافحة التمرد، على غرار إدارة الحرس الرئاسي التي شكلتها عقب موجات الربيع العربي مباشرة. كما تلعب في الوقت الحالي دورا مهما في إحياء القاعدة الصناعية العسكرية المحلية في مصر استنادًا إلى خبرتها في هذا المضمار.
النائب القادم
لا تزال هواجس السيسي بخصوص ضرورة تأمين انتقال السلطة خوفًا من تعرضه إلى مكروه قائمةً لم تُحل؛ لذلك ترجح التقارير أن يقوم السيسي، في خضم عملية ترتيب المواقع بالأجهزة السيادية، بتعيين نائب له، بموجب التعديلات الدستورية الأخيرة، وفي إطار عملية التغيير الوزاري المنتظرة بعد حركة المحافظين؛ حيث تشير التكهنات إلى اسم الفريق أحمد خالد حسن.
لم ينفض السيسي يده عن نجله، فقد ظلّ طيلة الفترة الماضية “خطًا أحمر” لا يلمسه أحد إلا عوقب في أسرته، كما حدث مع وائل غنيم
الفريق أحمد خالد (61 عامًا) تدرّج في إدارة عدد من القواعد البحرية بمطروح والإسكندرية والبحر الأحمر، قبل أن يعمل مساعدًا لرئيس الأركان، ثم قائدًا للقوات البحرية منذ ٤ أعوام، وقد ترقى لرتبة فريق عام 2017، وبدأ يظهر مؤخرا في الصورة بجوار السيسي خلال افتتاح بعض المشروعات. ويتميز الفريق الذي توطدت علاقته بالسيسي بشدة منذ نحو عامين، بانتمائه إلى مدرسة “المشير طنطاوي”، واندماجه في خط العداء لتركيا في شرق المتوسط، والتزامه وجديته على المستوى المهنيّ، كما يشرف على عدد واسع من مشروعات التطوير والتجارة في سلاح البحرية وميناء “أبو قير”.
وفي كلّ الأحوال، لم ينفض السيسي يده عن نجله، فقد ظلّ طيلة الفترة الماضية “خطًا أحمر” لا يلمسه أحد إلا عوقب في أسرته، كما حدث مع وائل غنيم، ناشط يناير الذي اعتُقل أخوه بعد إشارة “وائل” لمحمود، وهيثم أبو خليل الذي اعتقلت أسرته بعد نشره صورةً تفصيلية لأبناء السيسي وزوجاتهم، وشادي زلط محرر “مدى مصر” الذي نشر خبر الإطاحة بمحمود. كما يُعتقد أن رحلته المرتقبة كمُلحق عسكري إلى روسيا، ستكون فرصة مهمة لإصقال خبراته في واحدة من أكثر الدول الأمنية التي باتت تربطها علاقات إستراتيجية مع مصر، بعد حصوله على دكتوراه الإدارة من إحدى الأكاديميات المحلية.