فتح اعتلاء عبد المجيد تبون سدة الحكم بالجزائر بابًا أمام احتمال بقاء العلاقات طي الجمود مع المغرب المجاور، خاصة وأن الرجل كان قريبًا من دواليب القرار في عهد نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وابنًا مخلصًا للمؤسسة العسكرية التي ترفض التنازل عن أدنى هامش من صلاحياتها.
فقصة الجفاء الحدودي ما تزال مستمرة بين البلدين، منذ تفجيرات العاصمة السياحية الأولى للمغرب مراكش (وسط البلاد) عام 1994، وهي من أعنف المحطات الإرهابية التي هزت المملكة، حين قام عدد من الملثمين الجزائريين من جنسية فرنسية ومعهم مغاربة بالهجوم المسلح وتفجير فندق “أطلس أسني” الشهير، مخلفًا مقتل ما لا يقل عن ثلاثة سياح أجانب، وتوجهت الأصابع جميعها آنذاك إلى جهات مرتبطة بالمخابرات الجزائرية، تورطت في تمويل وتخطيط وتنفيذ هذه العملية الإرهابية.
إثر ذلك؛ فرض الملك الراحل الحسن الثاني التأشيرة على الجزائريين من أجل دخول المغرب، فردت عليه الجزائر بإغلاق الحدود البرية بحجة أن فرض التأشيرة كان قرارًا أحادي الجانب، ومنذ ذلك الحين تعمل الدولتان على تشديد الحماية العسكرية على الحدود البرية، إضافة إلى إنشاء أسوار عالية لمنع التسلل، لكن الغاية من ذلك تبدو أمنية أكثر مما هي سياسية.
عائلات تفرق شملها بين الحدود
على الرغم من تراجع البلدين عن فرض التأشيرة على موطني البلدين عام 2005، لازالت العائلات التي تفرق شملها بين حدود المغرب والجزائر تدفع ضريبة النزاع السياسي، ولا تستطيع صلة الرحم، إلا من خلال حل وحيد.
ويتمثل هذا الحل بالنسبة للمغاربة بالتنقل البرّي من وجدة إلى مطار الدار البيضاء، ثم من هذا المطار في رحلة أخرى إلى وهران، وبعدها الانتقال برًا إلى المدن الحدودية القريبة كتلمسان، وتتكرر نفس الحكاية مع العائلات فبالنسبة لسُكان تلمسان مثلا، يضطرون للتنقل برًا إلى وهران أو الجزائر العاصمة، حيث تقلهم الطائرة إلى الدار البيضاء، وبعدها إلى مدينة وجدة، في رحلة تستغرق حتى 48 ساعة وتناهز تكلفتها 600 دولار للفرد الواحد.
وعلى الرغم من التقدم الذي أُحرز على مستوى مكافحة الاتجار غير المشروع على مستوى الحدود المغلقة، إلا أن المهربين يجدون في كل مرة حيلًا وأساليب جديدة لتجاوز التحصينات الأمنية، ليصبح التهريب شكلًا من التوظيف الذي ساهم في خفض معدل البطالة، حيث ساهم في إنعاش البلدات الحدودية المغربية مثل وجدة وأحفير وبلدات زويا وباب العسا ومغنية على الجانب الجزائري، إذ تحولت إلى مراكز لتجارة البنزين المهرب والسلع الاستهلاكية والمخدرات.
فتح الحدود رهين بشرط
أثناء الدعاية الانتخابية صرح عبد المجيد تبون بأن فتح الحدود بين الجزائر والمغرب ممكن في يوم من الأيام، ولكن يبقى هذا رهينًا بشرط وهو: “أن تعتذر السلطات المغربية للشعب الجزائري لأنه أهين آنذاك” مشددًا على أن بلاده لم يكن لها أي دخل في العمل الإرهابي بمراكش، “لكن المملكة قامت بفرض التأشيرة في الوقت الذي كانت حدود فرنسا مغلقة في وجهنا كما هو الشأن لباقي الحدود الأخرى”، واستطرد تبون في تصريحه الذي بدا وكأنه يحمل كثيرًا من أحقاد الماضي، أن “العلاقات بين البلدين تعود لتاريخ طويل.. والعلاقات الاقتصادية كانت قوية جدًا، ولم تكن الجزائر بالضرورة هي المستفيد الأكبر منها”.
لعل تبون كان يعزف على وتر نبرة العتاب خلال مرحلة الدعاية الانتخابية من أجل نيل مزيد من رضا المؤسسة العسكرية، ومن المستحيل اليوم أن يتحدث بنفس النبرة تجاه البلد المجاور، أو أي بلد آخر، لأنه أصبح في موقع قيادة دولة، وأخطاء من هذا القبيل من شأنها أن تؤدي إلى أزمة دبلوماسية.
وفي أول تعليق على العلاقات بين الجارتين، قال تبون “أنا حساس لأقصى درجة عندما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية.. لن أغفر لأحد ولا أسمح له بالتدخل في السيادة”، وفق جواب الرئيس الجزائري على سؤال حول تطبيع العلاقات مع المغرب وفتح الحدود البرية، مضيفًا: “أعرف أن الشعب المغربي يحب الجزائر، والجزائريين يحبون المغرب.. في ظروف ما أغلقت هذه الحدود، وزوال العلة لا يكون إلا بزوال أسبابها”.
وكان تبون يتحدث في أول مؤتمر صحفي عقد مباشرة بعد فوزه بنسبة 58% من الأصوات، بالانتخابات الرئاسية الجزائرية التي جرت يوم الخميس 12 ديسمبر\ كانون الأول 2019 وأعلن يوم الجمعة الموالي أن عبد المجيد تبون، البالغ من العمر 74 عامًا، هو ثامن رئيس للجمهورية الجزائرية منذ استقلالها عن فرنسا عام 1962، وأول رئيس ينتخبه الجزائريون بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الرئيس المستقبل عبد العزيز بوتفليقة.
صفحة جديدة
من جانبه، بعث العاهل المغربي محمد السادس، برقية تهنئة لعبد المجيد تبون، بمناسبة انتخابه رئيسًا للجمهورية الجزائرية. وقال الملك إنه “على إثر انتخابكم رئيسًا للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، يطيب لي أن أعرب لكم عن أصدق التهاني، مقرونة بتمنياتي لكم بكامل التوفيق في مهامكم السامية”.
وأضاف الملك: “إذ أجدد دعوتي السابقة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين، على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء، أرجو أن تتفضلوا، صاحب الفخامة بقبول أصدق عبارت تقديري” بحسب ما جاء في البرقية التي نشرتها وكالة “المغرب العربي للأنباء” الرسمية.
امتداد لنظام سابق
تبوأ تبون منصب رئيس الوزراء في حكومة 2017، خلال الفترة الممتدة ما بين مايو وأغسطس من نفس العام حيث أنهيت مهامه من طرف الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، وكان وزيرًا للسكن والعمران في عدة حكومات كما شغل منصب وزير الاتصال وتبوأ مناصب مختلفة من الدولة، حيث كان ضمن صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، لكنه رشح نفسه كمستقل في انتخابات الرئاسة التي تثير جدلًا واسعًا، حيث شارك فيها 9 ملايين 747 ألف ناخب، أي بنسبة تصويت لم تتجاوز 41 % داخل الوطن.
وينتظر أن تشهد شوارع العاصمة ومدن جزائرية أخرى الجمعة خروج مظاهرات هي الثالثة والأربعين مند بدأ الحراك الشعبي الجزائري الذي أطاح بالرئيس بوتفليقة من الحكم، وستكون الأولى بعد إجراء هذه الانتخابات، إذ قوبل المرشحون الخمسة بالرفض وجرى النظر إليهم بمثابة امتداد للنظام السابق.
دعم “البوليساريو”.. وانحدار العلاقات
في عام 2002، شهدت العلاقات الجزائرية المغربية انحدارًا رهيبًا، بعد تقديم الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة كوفي أنان لتقريره حوول عملية التسوية الأممية بالصحراء والخيارات المستقبلية لها، وكانت الحلول المطروحة في التقرير الذي صدر في فبراير/ شباط من نفس العام؛ إجراء الاستفتاء، منح حكم ذاتي موسع في إطار السيادة المغربية، تقسيم الصحراء بين البوليساريو والمغرب، سحب “المينورسو” من الصحراء، وهي بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في المنطقة.
انفجر صدام مغربي جزائري، بعدما اتضح خلال مداولات مجلس الأمن، آنذاك، أن الجزائر هي صاحبة مقترح التقسيم، وهو موقف اعتبره المغرب يكشف الأطماع التوسعية للجزائر ونزوعاتها للهيمنة في المنطقة، واتهمتها بمحاولة إفشال الحل السياسي لقضية الصحراء ونسفه، وأن خطة التقسيم تهدد المغرب وغيره بالبلقنة؛ أي التجزئة القائمة على استغلال القوميات والتي تؤدي في النهاية إلى نشوء دول جديدة مستقلة على حساب منطقة موحدة جغرافيًا.
في خطوة لم يسبق لأي رئيس جزائري أن أقدم عليها، قام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، نهاية فبراير/ شباط 2002، بزيارة مخيمات جبهة البوليساريو بعدها ليعلن أن قضية الصحراء ليست ملفًا يطوى ومصير الاتحاد المغاربي مرهون بها، كما أكد في رسالة بعث بها إلى زعيم “البوليساريو”، مواصلة الحكومة الجزائرية دعمها للجبهة وأن الجزائر متشبثة بخيار تقرير المصير كحل لنزاع الصحراء وما يستلزمه من تطبيق لخطة التسوية.
لا يختلف موقف الرئيس الجزائري الحالي عن سابقه، حيث أشار تبون خلال الدعاية الانتخابية إلى أن “طريق استفتاء تقرير المصير هو بمثابة تصفية للاستعمار”، وبدا واضحًا أن الرجل سيسير وفق خطط قيادات الجيش التي تقبض بقوة على كل شيء، بما في ذلك مخيمات تندوف، ما يعني أن الموقف الرسمي للجزائر من قضية الصحراء المغربية لن يتزعزع عن الدعم السياسي والدبلوماسي والمادي لصالح الجبهة الانفصالية.
ما يزال الرجل في أيامه الأولى بحكم بلاده، ولمّا تترسخ أقدامه في موقع القرار ولم يحكم قبضته على أعمدة السلطة أو يعيد هيكلتها بما يضمن قدرته على اتخاذ قراراته بإرادته وفق رؤية جديدة، ربما، فلعل قادم الأيام يكشف عن تصور جديد للعلاقات بين الشقيقتين الجارتين، أكثر قربًا إلى ما يحبه ويريده شعبا البلدين.