مضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، هو من المضائق البحرية ذات الأهمية الحيوية بمركزيتها؛ وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي بين البلدان الأوروبيّة والعربيّة والأفريقيّة التي تشرف عليه، وما جرى من صراعات تاريخية كبيرة شهدتها سواحله للسيطرة عليه والتحكّم بالسفن المارّة فيه.
سبتة، المدينة العريقة في التاريخ المغربي والإسلامي، تعاني الكثير في تاريخها الحديث بسبب موقعها الاستراتيجي المطلّ على المضيق.
إذا كنّا نستذكر باستمرار فتح الأندلس خلال مرحلة الفتح الإسلامي وبطولة طارق بن زياد وعقبة بن نافع وبراعتهما في التخطيط والشجاعة، فإن استعراض تاريخ بعض سواحل هذا المضيق تقدّم فكرة عن الصراعات والعذابات التي عانت منها المدن المطلّة عليه، والتي ما تزال قائمة ومستمرّة حتى الآن، الأمر الذي أفضى إلى وجود مدن أو مناطق ضائعة بين أصولها وهويتها ومحتلّيها، وتبعيّتها السابقة أو اللاحقة، ومن هذه المدن، مدينة سبتة المغربية، التي ما تزال تشّكل حالة شاذّة من ضمن التراب المغربي مع شقيقتها مليلة، من حيث تبعيّتها للحكم الإسباني، كما هو حال منطقة جبل طارق في الجانب الإسباني من المضيق، وتبعيّته للتاج البريطاني.
تقع مدينة سبتة على الساحل المغربي للبحر المتوسّط مقابل مضيق جبل طارق، إلى جانب تطوان وطنجة، وتمثّل لسانًا برّيًا متوغّلاً في البحر الذي يحيطها من جهاتها الثلاث، بحيث تشكّل شبه جزيرة، وهو ما يمنحها مناعة خاصة من حمايةٍ بحريةٍ، وجوارٍ أخويّ صديق، يؤصّل هويّتها المغربية والإسلامية، إضافة إلى كونها أقرب نقطة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية؛ وهو ما جعل الإسبان والبرتغال يحرصون باستمرار على احتلالها حمايةً لهم، وسيطرةً على مضيق جبل طارق، فضلاً عن الحرص على إبقائها تابعة لإسبانيا حتى هذا التاريخ، على الرغم من انتهاء الأزمنة الاستعمارية، وحالة العداء المغربيّة الإسبانية.
في نظرة سريعة إلى تاريخ هذه المدينة، نقف على احتلالها من الدولة البيزنطية ومن ثمّ من قبل القوطيّين الفرنج، وصولاً إلى الفتح الإسلامي في العصر الأموي، حيث فتحت صلحًا مع أوليان، ثم تمّ تداول السلطة بين الأندلسيّين خلال دول العامرية والموحّدين والأدارسة والمرابطين، وقامت بثورتها ضدّ الموحّدين بزعامة القاضي عيّاض.
منذ القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، أصبحت سبتة مركزًا حضاريًا في الشمال المغربي، وقد انتبه الموحّدون من خلال نظرتهم الثاقبة إلى أهمية سبتة وطنجة، وفي هذا يقول ابن خلدون: “كانت هاتان المدينتان – سبتة وطنجة – منذ أوّل دولة الموحّدين، من أعظم عمالاتهم وأكبر ممالكهم، بما كانت ثغر العدوة، ومرقى الأساطيل، ودار إنشاء الآلة البحرية، وفُرضة الجواز إلى الجهاد، فكانت ولايتها مختصّة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن”.
وقد عَرِفت سبتة من أهاليها ثوراتٍ وانقلابات ضدّ ولاتها، بحكم اختلاف انتماءاتهم القبلية وسياساتهم، ومنها ثورة الحفصيّين بقيادة أبي زكرياء الحفصي وأبي القاسم العزفي، ضدّ ابن خلاص والي الرشيد سنة 640 للهجرة، بحيث أصبحتا (سبتة وطنجة) تحت حكم الحفصيّين من دون التخلّي عن الولاء للسلطة المغربية والتبعيّة للحكم الموحّدي، في ظلّ استقلالٍ ذاتي، لبقاء السيطرة الحفصيّة مستمدّة الشرعية من الخلافة الموحّدية.
وهكذا بقيت سبتة ومعها طنجة في حالة متأرجحة بين سيطرة وأخرى، سواء من حكّام الأندلس أم المغرب، وقد اشتهر عن أهل سبتة، وفق ابن الخطيب، حرصهم على استقلاليّتهم الإقليمية، كما اشتهر عنهم نشاطهم الاقتصادي والتجاري بشكل خاص. فكان تجّارهم وسطاء تجاريّين أكثر منهم منتجين، بحكم الموقع، وعدم كفاية مساحة سبتة للإنتاج الزراعي، وكان أسطولها البحري ينقل البضائع المغربية والأفريقية إلى التجّار الأوربيّين، عبر تجّار الجمهوريات الإيطالية القريبة منهم بشكل خاص، أو بواسطتهم مباشرة، كما كانوا يستوردون المنتجات الأندلسية والمتوسّطية الأوروبية إلى المغرب ومنها إلى أفريقيا؛ مما ساعد على ازدهار المنطقة وتحسين دخل أهلها، وازدياد حرصهم بالتالي على المحافظة على استقلالية إدارتها وحكمها الذاتي.
يؤكّد لسان الدين بن الخطيب صفات سكّان سبتة ذاكرًا أن سكّانها يتّصفون في الاقتصاد بالنفقة والتقتير، وحبّهم الشديد لبلدهم، ويشيد باستقامتهم في التعامل بالأسواق، كما ينوّه بكثرة أسماك سواحل المدينة، بحكم لسانها الممتدّ في البحر، والذي يشكّل حماية وخليجًا لبيوض السمك وتكاثره.
كما يتحدّث عن دور المدينة ومنطقتها في استقبال قوافل الحرير والكتّان والخمر، الذي يطلق عليه العصير(ابن الخطيب، في معيار الاختيار، تحقيق د. كمال شبانهة، طبعة المحمدية، المغرب 1977).
المدارس الثقافية في سبتة
شهدت سبتة بعد دخولها الإسلام نشاطًا ثقافيًا وعلميًا واسعًا، بعدما كان نشاطها مقتصرًا على التجارة البحرية بشكل خاص، ويلاحظ أن الإسلام بثقافته المنفتحة التي حملها إلى ديار الفتح، قد أثّر تأثيرًا كبيرًا- ولاسيّما مع بداية العصر المرابطي الذي كان شيوخه أساتذة بدايات عهد الموحّدين – على مدرسة القاضي عيّاض ومعاصريه (وفق د. إبراهيم حركات في دراسته عن أوضاع سبتة أيام إمارة بني العزفي)، ولعلّ مدرسة الحديث كانت المجال الأرحب في الاهتمام عند علمائها وطلبتها وفق اتجاهاتٍ وطرائق ثلاث انتشرت في المدينة:
– مدرسة الحديث وفق الفقه المالكي، ومن أشهر علمائها ابن رشيد الفهري، وعبد المهيمن الحضرمي.
– مدرسة علوم اللسان، ويصف لسان الدين بن الخطيب سبتة بأنها: مدينة علوم اللسان، ومن أشهر أعلام هذه المدرسة محمد القلوصي، ومحمد الشريف الحسني، الذي شرح مقصورة حازم القرطاجني الأندلسي، وكذلك الجغرافي محمد بن عبد المنعم الحميري، صاحب الروض المعطار.
– أمّا المدرسة الثالثة فهي مدرسة الأدب، التي قدّمت آداب المقاومة والمولّديّات، والترسّل بأنواعه المختلفة، وأسهمت إمارة بني العزفي في تنشيطه وانتشاره (وفق د. حركات في دراسته عن إمارة بني العزفي)، ومن أشهر أدباء هذه المدرسة، مالك بن الرحل، وفق ابن الخطيب في الإحاطة بأخبار غرناطة.
اضطّلعت سبتة بدور مهمّ كمركز استقطاب حضاري وعلمي للأندلس والمغرب الكبير بسبب اهتزاز وضع الأندلس خلال ما سمّي بحروب الاسترداد الإسبانية وفقدان استقرارها في مراكز إشعاعها في قرطبة، وأشبيلية وغرناطة وغيرها؛ الأمر الذي حمّل سبتة مسئولية الإشعاع الحضاري الإسلامي، فتحمّلته بجدارة واندفاع واستطاعت أن تكون مركز استقطاب وإشعاع للمغرب الكبير كلّه، بحكم ازدهارها الاقتصادي، وأساتذتها البارزين الذين توافدوا إليها من أنحاء البلدان المغاربية، وبخاصة من تلمسان إضافة إلى الأندلس.
وما يجدر ذكره أيضًا أن الكثير من حكّام سبتة، كانوا على قدرٍ عال من التكوين الثقافي والعلمي، ويتّصفون بذوق أدبي رفيع إضافة إلى إجادة اللغة ومعرفة صحيح الحديث.
سبتة تحت الاحتلال
منذ سقوط الأندلس، ومع بداية العلاقات البريطانية البرتغالية، عبر مصاهرة بين الملك تشارلز الثاني والأميرة كاتالانيا أخت الملك البرتغالي، والتي قدّمت له مدينة طنجة المغربية هدية لزواجها!، ومع التحالف الإسباني البريطاني، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين، والاتفاقية البريطانية الفرنسية، في إطار مسلسل اتفاقيات ضمان المنافع الاستعمارية، تمّ التفاهم على تبادل المنافع حول المضيق، فثبّتت بريطانيا وجودها في الجانب الإسباني من المضيق، مقابل تثبيت الوجود الإسباني في الجانب المغربي، ولاسيّما في سبتة بحكم كونها مركزًا تجاريًا وجغرافيًا استراتيجيًا مهمًّا.
إنّ سقوط الأندلس نتيجة ضعف الدولة العربية الإسلامية وتفكّك وحدتها، مع بذور الفرقة والأنانية، وفقدان قيادة ذات فكر سياسي ثاقب وحكيم، جعلت من الأطماع الاستعمارية الأوروبية، واقعًا مستمرًّا حول مضيق جبل طارق، على الرغم من انتهاء الحقب الاستعمارية، ودخول العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مرحلة تفاهم دولي جديد، عادت بفضله طنجة المدينة المغربية الساحرة، والتي كانت تحت الوصاية الدولية، إلى أحضان وطنها الأصلي، لكن سبتة ومعها مليلة، بقيتا تحت السيطرة والتبعيّة الإسبانية، كما بقيت منطقة جبل طارق في المنطقة الإسبانية تحت سيطرة التاج البريطاني.
إنّ أحدًا لا يستطيع إنكار تبعيّة سبتة المغربي وانتمائها، ليس في جانبه الجغرافي والسكّاني فحسب، وإنما في جانبه الثقافي التاريخي والحضاري أيضًا.
لقد كانت سبتة الجسر الرابط بين شقّيْ الجسد الواحد في الأندلس والمغرب الكبير، وشكّلت المثال الواضح للمدينة التي طوّرها الإسلام بانفتاح حضاري، فأنتجت تراثًا حضاريًا كبيرًا، أظهر الشخصية المغربية والأندلسية في توهّجها الثقافي، وفي خدمتها للثقافة الإسلامية، ولاسيّما في خدمة السنّة النبوية، إضافة إلى عناية علمائها وأدبائها بتنوّع المعارف والعلوم فيها، وبالجانب النقدي وبالأبحاث اللغوية، وبالشروح على المتون العلمية والأدبية، والتصرّف بألوان البديع، وإخضاع الشعر لقيوده وفنونه (وفق محمد الدبّاغ في مجلة المناهل)، إضافة إلى علاقات تجارية وتبادل وتعاون مع موانئ البحر المتوسط في جانبه الأوروبي كانت سببًا في ازدهار اقتصادي، وفي الاعتراف باستقامة تجّار سبتة وملاّحيها وصدقهم ومهاراتهم.
إذا كانت الظروف السياسية القائمة ما تزال تظلّل بخيمتها الاستعمارية السابقة الشاطئ المغربي للمضيق، فإن سبتة ومعها مليلة ستبقى مغربية بثقافة إسلامية، على الرغم من التبعيّة الحاليّة، وعلى الرغم من العلاقات المغربيّة الإسبانيّة الجيّدة في أكثر الأوقات، بحكم الجوار، وأهمّية التعاون المغاربي الأوروبي في ظلّ السياسة الدولية الجديدة أو المأمولة، وبخاصة في العلاقات المتوسطية بين دول الشمال والجنوب، مشيرين إلى المحاولة الإسبانية في احتلال جزيرة ليلى الصخريّة، والدفاع المغربي عنها، والتي كادت تدهور علاقات حسن الجوار التي يتمّ بناؤها لولا التعقّل والحكمة المتأخّرة.
إنّ حلاً سياسيًا لا بدّ من الوصول إليه، ولو أن انشغال المغرب في الإشكال الصحراوي يشكّل سبباً رئيساً في إعاقة هذا الحلّ، مع التنويه إلى أن حلّ هذا الإشكال يمكن الوصول إليه بحلٍّ تفاوضي رضائي أخويّ مغاربي، في ظلّ تفعيل دور الاتحاد المغاربي وإنعاشه، ليعطي للأسرة المغاربية قوّة وفاعلية تستطيع إثبات حضورها وفاعليتها الوطنية والإقليمية المتوسطية والأوروبية والدولية، ويعيد الأمل بحضور مغاربي لدول الشمال الأفريقي في ظلّ تفعيل العلاقات المتوسطية.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع أفق التابع لمؤسسة الفكر العربي