نجح رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، في تحطيم الرقم القياسي لعدد الزيارات التي قام بها مسؤول باكستاني للسعودية، ففي أقل من عام واحد فقط زار الرجل الرياض 4 مرات، كان أخرها الزيارة الخاطفة التي قام بها السبت الماضي والتي استغرقت يومًا واحدًا.
الزيارة تأتي وفق ما نُقل عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الباكستانية، محمد فيصل، “ضمن التعاون الثنائي والتواصل المنتظم بين قيادة البلدين” في محاولة لتعزيز أوجه التنسيق في عدد من الملفات الإقليمية الساخنة.
العنوان الأبرز للزيارة التي لم تستغرق سوى 24 ساعة فقط كان استمرار جهود الوساطة بين السعودية وإيران في محاولة لتخفيف حدة التوتر بينهما ومحاولة الجلوس على مائدة المفاوضات لتقريب وجهات النظر.
كما أنها تأتي بعد أقل من شهرين من زيارة رئيس الوزراء الباكستاني لطهران والتي كانت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وذلك بعد محادثات أجراها مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في سبتمبر/ أيلول الماضي في الرياض، وأخرى مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في نيويورك.
وسبق أن أجرى خان ثلاث زيارات للسعودية في مايو/أيار وسبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2019 وإن خيم عليهم جميعًا سحب الوساطة إلا أن مآرب أخرى كانت حاضرة وبقوة في ظل ما تعاني منه الدولة الباكستانية من ازمات اقتصادية طاحنة دفعت الحكومة الجديدة إلى إعادة النظر في خارطة تحالفاتها وأبجديات سياستها الخارجية التي تغيرت بشكل كبير منذ تولي رئيس الوزراء الحالي مقاليد الأمور في 18 أغسطس 2018.
الوساطة بين الرياض وطهران
حملت إسلام أباد على عاتقها مهمة التوسط لتخفيف التوتر بين طهران والرياض على خلفية التصعيد الأخير بين البلدين الذي أعقب فرض الولايات المتحدة الأمريكية مزيدًا من العقوبات على طهران (صفر صادرات نفطية)؛ ثم تبعه بعد ذلك استهداف ناقلات نفط تابعة للإمارات والسعودية في الخليج العربي، تعمق بصورة أكبر مع تعرض منشأتي أرامكو في بقيق لهجمات كبدت السعودية خسائر مليارية.
الحماس الباكستاني للقيام بهذا الدور يرجع في الأساس لأكثر من سبب في مقدمتها أن إسلام أباد تهدف إلى النأي بنفسها وعدم التورط في الصراع الناشب في الخليج العربي، كما أنها لا ترغب في الانحياز لطرف دون الآخر وتبني روايته؛ وهو ما يعني خسارتها لطرف من الاثنين.
الباكستانيون لديهم ملفات كبرى أهم وأعمق من الصراع الناشب بين إيران والسعودية فهي توظف ما تتبناه من سياسات وتوجهات ومواقف سياسية لقطع الطريق على نيودلهي من تحقيق أي مكاسب سياسية أو اقتصادية أو أمنية من هذا التوتر، إذ يرون أن بلعبهم دور الوسيط سيقوض من النفوذ والتمدد الهندي.
التحرك الباكستاني كُشف عنه حين أعلن رئيس الوزراء قبل عدة أشهر عن طلب الرياض من بلاده التوسط لتخفيض التوتر بينها وبين طهران؛ خاصة بعد رد الفعل السلبي الأمريكي حيال ما تعرضت له المنشآت النفطية السعودية من هجمات، ورغم نفي الخارجية السعودية طلبها الرسمي لتلك الوساطة إلا أنها أكدت أن دولة شقيقة طلبت منها القيام بوساطة وأن المملكة لم تمانع في ذلك بشرط أن توقف إيران نشاطاتها المعادية للسعودية.
النفي السعودي جاء من باب الإثبات كما يشير البعض، وهو ما تكشفه تصريحات المسؤولين في إسلام أباد والرياض بعد ذلك، تلك التي تعززت بتأكيد خان على طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منه لعب دور الوسيط لتخفيض التوتر في الخليج العربي أثناء لقائهما في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما لم يعلق عليه السعوديون.
يعي المسؤولون في الرياض صعوبة المأزق الذين هم فيه، لاسيما بعد التطورات الاخيرة التي شهدتها الساحة اليمنية، حيث شكّل انسحاب الإمارات، حليف الإمارات الأكبر في اليمن، من خطوط التماس مع الجيش واللجان الشعبية في الشمال اليمني عمومًا والساحل الغربي خصوصًا، وتركها إياها وحيدة في الميدان، صفعة كبيرة في وجه أمراء الحرب في الرياض. وما زاد الطين بلة أن أبو ظبي تقف، عبر وكلائها، حجر عثرة أمام تنفيذ «اتفاق الرياض»، الذي عوّلت المملكة عليه في توحيد جهود حلفائها.
يتعزز هذا المأزق بالقلق الذي بات يخيم على الأجواء السعودية بشأن استهداف عملاق النفط السعودي “أرامكو” مرة ثانية وثالثة ورابعة، وهو ما يعني أن الاقتصاد السعودي الذي يعتمد في معظمه على عائدات تلك الشركة ليس في مأمن، ومن الممكن تكبيده خسائر كبيرة إذا ما تصاعدت الأمور ، وهو ما تعيه الرياض جيدًا.
لم تكن إسلام أباد وحدها المعنية بجهود الوساطة بين السعودية وإيران، إذ يعتقد بأن روسيا ستسعى للعب هذا الدور، كذلك الهند وماليزيا؛ ولولا تورط أمريكا كطرف أساسي في الأزمة عبر العقوبات لطرحت نفسها كوسيط في المنطقة محاكية دورها في اليمن.
لا يدخر خان وحكومته جهدًا لتعزيز مباحثات الوساطة، فلعب هذا الدور يمثل واحدا من الأسلحة الدبلوماسية الفعالة لباكستان تجنبها التورط في الصراع وتفتح لها المجال للعب دور سياسي
وفي 13 أكتوبر الماضي أعلن رئيس الوزراء الباكستاني خلال زيارته لطهران أنه يقوم بمبادرة خاصة لنزع فتيل التوتر بين إيران والسعودية، الناتج خصوصًا عن الصراع المستمر في اليمن، وأكد أن الحوار كفيل بحل الأزمة بين البلدين، مضيفًا في مؤتمر صحفي له مع الرئيس الإيراني حسن روحاني “لا نريد حربًا بين السعودية وإيران ونؤمن بأن الخلاف بينهما يمكن حله عبر الحوار”.
وفي ذات السياق نقلت صحيفة “إكسبرس تريبيون” الباكستانية عن مصادر في الحكومة الباكستانية، أن زيارتي رئيس الوزراء لإيران والسعودية سبقتهما زيارة سرية مهمة لمسؤولين باكستانيين رفيعي المستوى إلى كلا البلدين، موضحة أن عمران خان قرر زيارة طهران والرياض بعد أن وجد المسؤولون الباكستانيون تجاوبًا من الجانبين، مع جهود التوصل إلى حل للصراع القائم بينهما.
وفي المقابل نفت وزارة الخارجية الإيرانية وجود أي حوار سريّ بين طهران والرياض، مؤكدة أن الحوار معها لا يتجاوز قضايا الحج والعمرة، في وقت أكد مستشار المرشد الإيراني للصناعات الدفاعية، حسين دهقان، أن موقف بلاده من التفاوض مع واشنطن لم يتغير، مشيرًا إلى أن “لا تفاوض” معها.
لا يدخر خان وحكومته جهدًا لتعزيز مباحثات الوساطة، فلعب هذا الدور يمثل واحدًا من الأسلحة الدبلوماسية الفعالة لباكستان تجنبها التورط في الصراع وتفتح لها المجال للعب دور سياسي في الوقت ذاته؛ كما أنه يعطيها دورًا جديدًا في منطقة الخليج ويضعها على خارطة القنوات الدبلوماسية الفعالة.
إنعاش الخزانة الباكستانية
الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها باكستان والتي كنت سببًا رئيسيًا في تقويض جهود التنمية وزيادة رقعة الغضب الشعبي ضد النظام، تطل هي الأخرى برأسها لتحتل مكانة متقدمة في ترتيب أولويات إسلام أباد الخارجية لاسيما فيما يتعلق بسياسة التوزان التي تتبعها في علاقاتها مع السعودية وإيران على وجه التحديد.
فالدور الدبلوماسي الإقليمي الذي يسعى خان تعزيزه لبلاده خلال الآونة الأخيرة سواء على الملف السعودي الإيراني أو الأمريكي الأفغاني ليس نهاية المطاف بالنسبة للحكومة الباكستانية، فتوظيف هذا الدور اقتصاديًا بما ينعش خزانة البلاد ويحسن من وضع معيشة أبنائها هدفًا لا يقل أهمية هو الأخر.
وتوجت زيارة السبت اقتصاديًا بموافقة الرياض خلال مشاركة وفد باكستان في فعاليات منتدى مستقبل الاستثمار، على تقديم تسهيلات مؤجلة بقيمة 3 مليارات دولار لشراء النفط على مدار عام، شريطة أن يتم شراؤه من المملكة، هذا بخلاف سبعة مليارات دولار قيمة استثمارات سعودية داخل البلاد خلال العامين المقبلين على هامش زيارة ولي العهد السعودي لإسلام أباد فبراير الماضي.
إبقاء حكومة خان على جهود الوساطة حتى وإن لم تسفر عن أي تطورات ميدانيًا إلا انها تضع إسلام أباد على قائمة الاهتمام السعودي الإيراني على حد سواء
تلك الزيارة التي أثارت حينها جدلًا كبيرًا لما لافته من بذخ غير مسبوق منذ وصول بن سلمان وحتى مغادرته البلاد رغم التظاهرات التي خرجت تندد بتلك الزيارة التي شهدت توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية بين الطرفين، على رأسها مضاعفة الاستثمارات السعودية هناك وكان من بينها مصفاة نفطية في ميناء غوادر الاستراتيجي على بحر العرب، فيما تذهب مصادر أخرى إلى أن إجمالي الاستثمارات يتجاوز 15 مليار دولار وليس 7 كما أشارت مصادر سابقة.
جدير بالذكر أن باكستان كانت من أوائل الدول التي وقفت إلى صف الرياض أثناء الضغوط الشديدة التي تعرضت لها عقب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، إذ أعلنت دعمها الكامل للمملكة، وشارك رئيس وزرائها في المؤتمر الاستثماري بالرياض، لتعلن الحكومة السعودية بعد ذلك حزمة تمويل لباكستان بقيمة ستة مليارات دولار.
إبقاء حكومة خان على جهود الوساطة حتى وإن لم تسفر عن أي تطورات ميدانيًا إلا انها تضع إسلام أباد على قائمة الاهتمام السعودي الإيراني على حد سواء، كونها تمثل ورقة مهمة يمكن التعويل عليها إذا ما احتدت الأمور وتبقي على باب الحوار مفتوحًا وإن لم يطرقه أحد حاليًا.
وفي الوقت ذاته؛ فإن استمرار الوضع على ما هو عليه يعزز من المكاسب الباكستانية، سياسيًا واقتصاديًا، وهو ما يهدف إليه خان الذي يسعى وبشتى السبل إلى تسكين الوضع المتأزم داخليًا، خشية تمدده بالشكل الذي يصعب معه السيطرة عليه في ظل تفاقمه يومًا تلو الآخر.