الدراسة الأكاديمية بحد ذاتها مرحلة شاقة، إذ إن قضاء 4 سنوات أو أكثر في الحرم الجامعي بين ضغط المحاضرات والواجبات والمشاريع والأبحاث يعد تجربة مروعة للبعض، ولكنها في الوقت ذاته، قد تكون تجربة رائعة من التعلم والتطور المعرفي والشخصي، بحسب التجربة الشخصية لكل طالب.
على أن الدراسة مختلفة تمامًا للذين قرروا أن يدرسوا في الخارج، في بلد أجنبي لا يألفون ثقافته ولا عاداته ولا لغته المحلية، لأن ذلك يعني المزيد من أوقات المذاكرة والمراجعة والترجمة، إضافة إلى الكثير من المرونة الاجتماعية والنفسية في التعامل مع هذا العالم الجديد الذي يتطلب التجاوب معه بلغته الأم وبنظامه الخاص حصرًا.
في آخر 10 سنوات، ظهرت تركيا كإحدى أكثر الوجهات جاذبية للطلاب الأجانب، وبذلك أصبحت جامعاتها مراكزًا إقليمية للطلاب، حيث زاد عددهم في الجامعات التركية بنسبة 300% تقريبًا، نتيجة للجهود التي بذلتها الحكومة التركية في استقطاب الطلاب إلى فصول مؤسساتها التعليمية. من جانب آخر، يأتي هذا النمو الملحوظ والمتزايد مع تحديات متعددة، على الصعيد المؤسسي الذي يسعى لاستيعاب المزيد من الطلاب بإمكانيات محدودة، وعلى المستوى الشخصي للطلاب الذين يواجهون الاختلاف الثقافي واللغوي ويفتقرون إلى التوجيه والمعلومات الكافية حول نظام التعليم التركي.
زيادة في عدد الطلاب ولكن..
على مدار العقدين الماضيين، تقلب عدد الطلاب الدوليين بشكل ملفتٍ، ففي البداية ارتبطت زيادة أعدادهم بين عامي 1993 و1997 في تأسيس برنامج المنح (YTP) الذي تم إطلاقه عام 1993، بنية استهداف الطلاب من الجمهوريات والمجتمعات التركية والمعروفة سابقًا بالاتحاد السوفيتي، من أجل بناء جسور صداقة دائمة مع تلك العرقية وتعزيز اللغة والثقافة التركية بينها، وبالفعل استجابت هذه الشعوب مع الفرص التعليمية في تركيا وتوجهت إليها بأعداد كبيرة.
ثم، لوحظ انخفاض تدريجي من عام 1997 حتى عام 2003 بسبب ارتفاع معدلات التسرب الدراسي، على سبيل المثال، بين عامي 1992 و2009، تم توزيع حوالي 32 منحة دراسية وألغيت منها لاحقًا أكثر من 16 ألف منحة، لأسباب مختلفة منها الفشل الأكاديمي والانسحاب وعدم الحضور والقدرة على إتمام المرحلة التعليمية في الوقت المحدد، ما يعني أن معدل النجاح كان أقل من 50٪ للمنح الدراسية.
ونظرًا لذلك، اعتقد البعض أن نقص التخطيط الحكومي وغياب الرعاية والدعم للطلاب ساعد في تدني نسبة النجاح. وفي محاولة لحل هذه الأزمة، رأت الحكومة التركية، التي أطلقت برنامج المنح لأهداف اجتماعية وسياسية، بأن تدويل البرنامج وتوسيع نطاق أجندته سوف يساعدها في تخطي هذه المشكلة، كما سعت لإدخال عدد من الترتيبات والتعديلات على مؤسسات التعليم، فعلى سبيل التغيير ألغت امتحان القبول المخصص للطلاب الأجانب (YÖS)، وشجعت الجامعات على إنشاء مكاتب لإدارة شؤون الطلبة الأجانب، ولكن رغم التحسينات، استمرت معدلات النجاح في الانخفاض، بكلمات أخرى، نجحت تركيا في استقطاب أعداد كبيرة من الطلاب الدوليين ولكنها لم تستطيع تحسين جودة خدماتها التعليمية.
الدراسة بلغة أجنبية
دفعتنا البيانات السابقة إلى التساؤل عن أوضاع الطلاب العرب والتحديات التي يخوضونها والاحتياجات التي تلبيها هذه التجربة ولا تلبيها في الوقت نفسه، بشكل كافٍ، ووجدنا من خلال التجارب الحية والدراسات المتوافرة أن اللغة كانت واحدة من أكبر العوائق التي تزيد مرحلة الدراسة تعقيدًا في تركيا، فهي تحد من قدرة الطلاب على فهم المحاضرات والمشاركة في مناقشات الفصل واستكمال مهام القراءة والكتابة والبحث، لأن التدريب اللغوي الذي حصلوا عليه قبل بدء الفصل الدراسي لم يكن كافيًا في فهم الدروس والتواصل مع المعلمين.
لا تنحصر تأثيرات اللغة السلبية على الحياة الأكاديمية فقط، بل عقدت أيضًا حياتهم الاجتماعية والنفسية، فقد أشارت العديد من الدراسات أن الصعوبات اللغوية تسببت في مشاكل نفسية لدى الطلاب وساهمت في عزلهم إجتماعيًا وتنمية شعورهم بالغرابة والوحدة والارتباك، ما أعاق عملية التكيف والاندماج في المجتمع التركي عمومًا، وفي المحيط الجامعي تحديدًا، علمًا أن الاكتئاب أحد أبرز المشكلات التي يواجهها الطلاب الأجانب في تركيا.
يتعرض الطالب الأجنبي لمزيد من الضغط من أجل النجاح، لأن الفشل له عواقب وخيمة بدرجة أكبر على الطالب الأجنبي، فقد يفقد الأجنبي المساعدة المالية التي يتلقاها إذا كان أداءه الأكاديمي ضعيفًا
علاوة على ذلك، فإن عدم فهم أو معرفة النظام التعليمي في البلدان المضيفة، خاصة فيما يتعلق بالمعايير والأساليب التعليمية الأساسية، أثار مشاكل مختلفة لدى الطلاب الأجانب، ولا سيما أن العديد من الجامعات التركية لا يوجد فيها مكاتب خاصة في شؤون الطلبة الأجانب، ولا تنظم دورات توجيهية وتعريفية للتغلب على صدمة البداية، ولا يجيد طاقمها الإداري اللغة الإنجليزية للتواصل بشكل فعال مع طلبات وشكاوى الطلبة الأجانب.
وبالتالي، يتعرض الطالب الأجنبي لمزيد من الضغط من أجل النجاح، لأن الفشل له عواقب وخيمة بدرجة أكبر على الطالب الأجنبي، مقارنة مع الطالب المحلي، فقد يفقد الأجنبي المساعدة المالية التي يتلقاها إذا كان أداءه الأكاديمي ضعيفًا، وفي حالات أخرى، قد يتعين عليه دفع المزيد من المال في حال تمديد سنوات الدراسات بسبب الفشل الدراسي، مما يزيد عليه العبء المالي والنفسي، وذلك كله نتيجة لحاجز اللغة.
تجربة حية.. كيف نكسر حاجز اللغة؟
أمين دخيسي، طالب جزائري، أنهى دراسة البكالوريوس في جامعة إسطنبول، بين عامي 2015 وعام 2019، وحاليًا يُكمل رحلته التعليمية في دراسة الماجستير في إحدى الجامعات الفرنسية، ونظرًا لتجربته الإيجابية في الدراسة بتركيا، بلغة البلد الأم، حاولنا التعرف على سنوات دراسته التي دامت لـ4 سنوات، بشكل مختصر ومفيد للطلاب الآخرين الذين قرروا خوض نفس التجربة.
في البداية، يقول دخيسي: “أصعب سنوات الدراسة كانت السنة الأولى، كل شيء كان جديدًا ومختلفًا بالنسبة لي، وحينها كنت استخدم اللغة التركية الأكاديمية لأول مرة في حياتي”، ويضيف: “أصبت بالاكتئاب، وكنت أشعر بأنني غريب تمامًا عن هذه البيئة، مما زاد شعوري بالغربة والعزلة”.
تكوين علاقات اجتماعية مع غيره من الطلاب الأجانب ساعده بشكل أساسي في تخطي الصعوبات اللغوية، على أساس أنهم جميعًا يعانون من المشكلة ذاتها ولديهم مهمة واحدة لإنجازها، مما خفف العبء النفسي على الجميع.
إضافة إلى صدمة اللغة الأكاديمية وحاجز الخوف، أدرك دخيسي منذ بداية الفصل الدراسي الأول أن النظام التعليمي في تركيا مختلف جدًا عما يعرفه عن بلده الجزائر، ولذلك قرر سريعًا أن يتعامل مع هذا الوضع ويتأقلم معه، وهو ما تطلب الكثير من الوقت والجهد والجرأة، بحسب كلامه، ولا سيما أن جامعة إسطنبول تقليدية وكلاسيكية، فلم تقدم الدعم اللازم، رغم أنه كان باستطاعتها الاهتمام بالطلاب الأجانب وينبغي أن تقوم بذلك، ولكنها لم تفتتح مكتبًا لإدارة شؤون الطلبة الأجانب، سوى العام الماضي، علمًا أن الجامعة تأسست من 6 قرون (1453)، فألم يدرس فيها الأجانب قط؟
ومع ذلك، استطاع دخيسي كسر حاجز الخوف من اللغة التركية، فبحسب رأيه، كونه جزائري الجنسية، فلديه تجربة سابقة في الدراسة بلغة أجنبية (اللغة الفرنسية) في السياق الأكاديمي، مما جعله أسرع من غيره في التعامل مع هذه المشكلة وتجاوزها، مشيرًا إلى أن تركيزه على تكوين علاقات اجتماعية مع غيره من الطلاب الأجانب ساعده بشكل أساسي في تخطي الصعوبات اللغوية، على أساس أنهم جميعًا يعانون من المشكلة ذاتها ولديهم مهمة واحدة لإنجازها، وبذلك كان الهم واحد ومشترك، مما خفف العبء النفسي على الجميع.
التعامل مع اللغة التركية كاستثمار جيد، بعيد المدى، وليس من منطلق إنجاز مهمة مرحلية أو مؤقتة
من جهة أخرى، يقول دخيسي:”أحيانًا، يكون الحل بأن تجلس وتتحدث معهم، تخبرهم عن ظروفك وأفكارك حول ما تمر به، وعندها ستعلم أنك لست وحيدًا، ولست الطالب الوحيد الذي يعاني من مشكلة اللغة”، مستدركًأ: “كانت تلك الأحاديث أهم من الحديث مع أخصائي نفسي، لأننا جميعنا كنا نختبر المشاعر والمخاوف ذاتها”، مشيرًا إلى أن وجوده في مدينة إسطنبول ساعده كثيرًا في إيجاد شركاء في هذا الأمر، لأنها مكتظة بالطلاب الأجانب الذين يمكنك مشاركتهم تجربتك والاستفادة من تجاربهم.
بالنهاية، يختم دخيسي حديثه لـ “نون بوست”، قائلًا: “أضيف إلى ذلك كله، نظرتي الشخصية إلى اللغة التركية التي تعاملت معها كاستثمار جيد، بعيد المدى، إذ أنني لم أتعلمها لإنجاز مهمة مرحلية أو مؤقتة، بل كنت مدركًا لأهميتها، لأن سوق العمل الحالي يتطلب رصيد لغوي غني، ولا ضير من تعلم لغة جديدة أضيفها إلى المخزون العربي والإنجليزي والفرنسي الذي أملكه، فبذلك، أصبحت سيرتي الذاتية منافسة ومميزة أكثر من ذي قبل”.
باختصار، كان واضحًا أن دخيسي اجتهد في تخفيف العبء على الصعيد النفسي أولًا، حيث وجد في نظرائه الأجانب منفذًا ووسيلة لإكمال مهمته التعليمية، الأمر الذي ساعده على التكيف الاجتماعي داخل أسوار الجامعة وخارجها، وتلقائيًا انعكس ذلك على أداءه الدراسي وتجربته بالكامل. وبطبيعة الحال، تختلف التجربة من طالب لآخر ولا يمكن إسقاطها بكل تفاصيلها على الجميع دون الأخذ بعين الاعتبار خلفياتهم الثقافية ومهاراتهم الاجتماعية والفروق الفردية عمومًا.