ترجمة وتحرير نون بوست
تعد شوارع أجيغونل المزدحمة، التي تعد من أحد أكبر الأحياء الفقيرة في مدينة لاغوس النيجيرية غير معبدة ومملوءة بالقمامة. وعندما تهطل الأمطار، تتحول شوارعها إلى أنهار صغيرة بسبب سوء شبكات الصرف الصحي. وعلى الرغم من أن عدد سكان أجيغونل يتراوح بين مليونين وخمسة ملايين، إلا أنهم يستفيدون من الطاقة الكهربائية والمياه الجارية والخدمات الأمنية بشكل محدود. وتجدر الإشارة إلى أن حي أجيغونل لا يعدَ حيا منعزلا عن بقية الأحياء.
منذ أكثر من نصف قرن، شهدت منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا تحضرًا أسرع من أي منطقة أخرى في العالم. وبحلول سنة 2040، ستصبح القارة ذات أغلبية حضرية. وقبل عقد من الزمن من ذلك التاريخ، من المتوقع أن يصل عدد سكان أفريقيا إلى 2.1 مليار، أو ضعف ما هي عليه اليوم، وهو ما يعني أنه سيكون هناك أكثر من مليار شخص في المدن التي تعاني من ضعف التمويل والبنية التحتية المتهالكة أو المتهاوية.
غالبًا ما يُتجاهل الدور الذي تلعبه السياسة الانتخابية في تشكيل مستقبل المدن الأفريقية
أثارت هذه التوقعات مجموعة من التحذيرات حول حدوث كارثة وشيكة. وفي مقالة كتبها سنة 1994 بعنوان “الفوضى القادمة”، تنبأ المؤلف روبرت كابلان بأن أفريقيا في القرن الحادي والعشرين ستعاني من الفوضى والبطالة، ناهيك عن أوجه القصور الإدارية والاضطرابات العرقية الدينية وانتشار التلوث بشكل كبير. وعموما، رأى المراقبون الأكثر تفاؤلا في ذلك فرصة، مشيرين إلى أن التوسع الحضري يمكن أن يعود بالنفع على القارة إذا وقع التخفيف من حدة المخاطر المرتبطة به، على غرار التلوث والازدحام. في المقابل، يعترف حتى المتفائلون يعترفون بأن هناك تحديات كبيرة تنتظر القارة السمراء.
عند الحديث عما ينتظر أفريقيا في المستقبل المنظور، غالبًا ما يُتجاهل الدور الذي ستلعبه السياسة الانتخابية في تشكيل مستقبل المدن الأفريقية. ومع انتقال الناس من الريف إلى المدن، ستنتقل السلطة السياسية معهم، مما سيساهم في تغير أنظمة الحكم في البلدان الديمقراطية في القارة. وعلى المستوى التاريخي، كان التحضر من إحدى العوامل التي ساهمت في ارتفاع الأصوات المطالبة بالمساءلة السياسية. وعلى سبيل المثال، كانت حركة الحقوق المدني التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية نتاج هجرة الأمريكيين ذوي البشرة السوداء إلى المدن، حيث سهلّت الكثافة السكانية تنظيم الاحتجاجات.
والجدير بالذكر أن الانتفاضات، التي شهدها العالم العربي بين كل من سنة 2010 و2011، تزامنت مع تنامي المناطق الحضرية في بلدان شمال أفريقيا، بحيث أضحت تشكل أغلبية ساحقة. وقريبا، ستعبر أفريقيا جنوب الصحراء، العتبة ذاتها. ومن المحتمل، ستجلب هذه النقلة النوعية في طياتها مجموعة من المشاكل الاجتماعية والسياسية والبيئية، غير أن ذلك من شأنه أن يساعد على تحسين أنظمة الحكم في جميع أنحاء القارة الأفريقية.
تقسيم الريفي الحضري
في المتوسط، يحظى سكان المناطق الحضرية بتعليم أفضل من سكان الريف. لذلك، من المحتمل أن يكونوا من الفئات المعارضة للكثير من المواقف السياسية. كما يتمتع سكان المدن بفرص وصول أفضل إلى البنية التحتية، مثل الطرق والكهرباء والمياه الصالحة للشرب والاتصال بالإنترنت، حتى في الأحياء الفقيرة التي تفتقر إلى الموارد مثل أجيغونل (مع العلم أن الكثير من النيجيريين، ولا سيما في المناطق الريفية في شمال البلاد لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من الطاقة الكهربائية.) ويعزى الاختلاف في المستوى المعيشي، بشكل نسبي، إلى أن الناخبين الحضريين يميلون إلى الاهتمام بقضايا الاقتصاد والحوكمة الهيكلية أكثر من نظرائهم الريفيين، الذين يهتمون عادة باحتياجات الرعاية الاجتماعية الأساسية.
في هذا السياق، أكدت دراسة نشرها معهد البحوث الأفريقي المستقل “أفرو بارومتر” حول جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا، التي تعد ثلاثة من أكثر الديمقراطيات اكتظاظًا بالسكان في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، هذه الاتجاهات التي تعيش على وقعها مناطق الريفية والحضرية. وتمر البلدان الثلاثة بمراحل مختلفة من التحضر، حيث تصل نسبة التحضر في جنوب أفريقيا 66 بالمئة، مع العلم أنها كانت منذ فترة طويلة من إحدى أكثر دول القارة تحضرًا. وبينما حققت نيجيريا نسبة تحضرٍ، بلغت 50 بالمئة، ولم تتمكن من تحقيق التكافؤ بين الريف والمدن سوى خلال السنة الماضية. وفي حين لا تزال كينيا، التي لم تتجاوز فيها نسبة المناطق الحضرية 27 بالمئة، تبعد حوالي ثلاثة عقود عن قدرتها على تحقيق التكافؤ بين نسبة المناطق الريفية والحضرية.
من المرجح أن تكون الشواغل الأساسية لسكان المدن في البلدان الثلاثة متعلقة بالفساد والتنظيم الاقتصادي، في حين أن اهتمامات الناس في المناطق الريفية من المتوقع أن تتمحور حول نقص الغذاء والمياه والافتقار للبنية التحتية الأساسية. ونظرًا لأن المناطق الريفية كانت تسيطر على أغلبية القارة الإفريقية، (حيث لا تزال هناك قرابة 60 بالمئة من المناطق الريفية اليوم على الرغم من نسبة التحضر السريعة التي شهدتها القارة السمراء على مدار الخمسين سنة الماضية)، استفاد السياسيون من الناحية التاريخية من سكان الريف، من خلال تقديمهم لوعود تتمحور بالأساس حول تلبية احتياجات الناخبين الأساسية الملحة بدلاً من تقديمهم لرؤى سياسية واضحة حول المستقبل.
بسبب الإرث الاستعماري، كانت المدن غير جاهزة لاستقبال القادمين الجدد، مما ترتب عنه انتشار الأحياء الفقيرة الضخمة عبر القارة
بيد أنه مع تقلص حصّة الناخبين الريفيين في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ستزداد صعوبة تجاهل مطالب تحسين أنظمة الحكم في المدن. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة أن التحضر تعد ظاهرة غير مرغوب فيها في البلدان النامية، ولا سيما في أفريقيا، تعود إلى الحقبة الاستعمارية. وخوفًا من صعوبة السيطرة على المناطق الحضرية الكثيفة، كان المسؤولون الاستعماريون الأوروبيون غالبا ما يحدّون من الاستثمار في البنية التحتية في المدن بهدف منع هجرة السكان من الريف.
كانت هذه الاستراتيجية معتمدة لا سيما في البلدان، التي تقع حكم الاستعمار غير المباشر، على غرار غانا وكينيا ونيجيريا، حيث سلّطت الإدارات الاستعمارية اهتمامها على استخراج المواد الخام. وعند حصولها على الاستقلال، كان مستوى التحضر في القارة منخفضًا للغاية. ففي سنة 1960، كان 15 بالمئة فقط من أفارقة جنوب الصحراء يعيشون في مناطق حضرية، مقارنة بحوالي 34 بالمئة على مستوى العالم.
كانت البلدان الوحيدة التي تملك بنية تحتية حضرية متطورة، على غرار جنوب أفريقيا، تميل إلى أن تكون موطنا لأعداد أكبر من المستوطنين الأوروبيين، وهو ما دفع الإدارات الاستعمارية إلى القيام بالاستثمارات اللازمة. وعلى خلفية الاستقلال، تسارعت الهجرة إلى المناطق الحضرية. في المقابل، بسبب هذا الإرث الاستعماري، كانت المدن غير جاهزة لاستقبال القادمين الجدد، مما ترتب عنه انتشار الأحياء الفقيرة الضخمة عبر القارة.
على الصعيد التاريخي، لا يعني انخفاض مستويات الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية المادية في معظم المدن أن التحضر بشكل عام لا يرتبط بالقفزات الإنتاجية نفسها في الزراعة أو على مستوى دخل الفرد، وبحسب ما شهدته آسيا والشرق الأوسط أو أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية.
في سبيل مواجهة هذا الواقع القاسي، بدأت الحكومات الأفريقية ما بعد الاستعمار تنظر بعين الشك إلى التحضر. كنتيجة لذلك، أزالت المستوطنات الحضرية غير القانونية وركزت على برامج توظيف الشباب في المناطق الريفية. وفي بعض الحالات، واصلت بعض الحكومات النهج الاستعماري المتمثل في الفشل في الاستثمار في البنية التحتية الحضرية. ووفقًا للأمم المتحدة، وضعت أكثر من نصف الحكومات الأفريقية منذ سنة 1996 سياسات رسمية تهدف إلى الحد من الهجرة إلى المناطق الحضرية. وبحلول سنة 2013، ارتفعت هذه النسبة إلى 85 بالمئة.
على هذا المنوال، تحولت النظرة المتشائمة للتحضر الأفريقي إلى نبوءة ذاتية تتحقق. مع ذلك، يمكن إصلاح التشوهات التي تعود إلى الفترة الاستعمارية عبر التدخلات السياسية الصحيحة. علاوة على ذلك، ساهم اكتساب سكان المدن المزيد من النفوذ السياسي وتشجيع السياسيين على تحديد أولوياتهم في مزيد الضغط على الحكومات للقيام بهذه التدخلات.
حدث ذلك بالفعل في لاغوس، حيث أدى تحسين الالتزام الضريبي وزيادة تدقيق الخزائن العامة إلى تحسين الخدمات العمومية والبنية التحتية مقارنة بالأماكن الأخرى في نيجيريا. وفي هذا الصدد، تعتبر ولاية لاغوس من أوائل الولايات النيجيرية التي تنشر ميزانيات مفصلة في محاولة لتسليط الضوء على المساءلة (على الرغم من توقف هذه الأنشطة). علاوة على ذلك، حافظت الدولة على خدمات الطوارئ ووحدات التمويل الخاصة بالفرع المحلي للشرطة الفيدرالية، مما أفرز تواجدا أمنيا شديد الفعالية بشكل يفوق بقية المناطق في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن التقدم كان بطيئًا وغير متساوٍ، لكنه يسير في الطريق الصحيح.
التخلي عن القديم والسير نحو التحضر
من خلال مساهمة الضغوط السياسية في زيادة التركيز على المساءلة، يسير التحضر في اتجاهين حديثين يبشران بالخير بالنسبة للحكم الأفريقي، يتمثلان في التغيير الديموغرافي السريع والمنافسة السياسية المتزايدة. وفي هذا السياق، سيطر السياسيون على الحكومات في جميع أنحاء القارة، الذين شاركوا بشكل نشط في معارك الاستقلال في بلدانهم أو تولوا زمام الأمور بعدها بوقت قصير واستمروا في الحكم لفترات طويلة. ومع مرور الوقت، تجاوز هؤلاء المحاربون القدامى سن التقاعد وبدؤوا يفقدون ببطء سيطرتهم على الهياكل السياسية المحلية، كما أخذ هذا الاتجاه في التسارع مع التحول في الأجيال بين الناخبين حيث تقل أعمار 60 بالمئة من سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى عن 25 سنة.
في الحقيقة، ساهمت هذه التغييرات بشكل مشترك في تآكل الإجماع القديم بين النخب السياسية، التي عادة ما تقوم على توحيد الطبقة السياسية ضد عدو مشترك على غرار الاستعمار والفصل العنصري أو الحكم العسكري. وحصلت الدول الأفريقية الأولى على استقلالها منذ أكثر من 60 سنة، في حين استغرق تراجع الأنظمة العسكرية عقدين الزمن. كنتيجة لذلك، تلاشت العوامل المؤدية لسيناريوهات وحدة المجموعة ضد الظلم المشترك. كما فقدت الأحزاب المهيمنة في السابق قبضتها على السلطة وأصبحت فريسة للنزاعات الداخلية، مما فتح المجال لدخول السياسيين الجدد.
تساهم الكثافة الحضرية في حشد الدعم الشعبي لدعم أو معارضة السياسات والأفكار أو الأنظمة في البلدان الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء، مما سيؤدي إلى تحسين جودة واستجابة الحوكمة
على سبيل المثال، انتُخب شاغلي المناصب في السنغال ونيجيريا لأول مرة على التوالي في سنة 2012 و2015. وفي كلتا الحالتين، أدت الخلافات الداخلية إلى انشقاق الكتل السياسية التي كانت مهيمنة في السابق. وفي سياق متصل، خسر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا، حوالي 50 مقعدًا برلمانيا في الجمعية الوطنية التي تتكون من 400 مقعد منذ سنة 2004 نظرا للنزاع بين الفصائل المتناحرة داخل الحزب. بشكل عام، حققت أكثر من 20 دولة من دول أفريقيا جنوبيَ الصحراء بما فيها الدول التي كانت تخضع للحكم الاستبدادي القديم على غرار إثيوبيا وزيمبابوي والسودان، انتقالا في السلطة نتيجة انتخابات تنافسية خلال الأربع السنوات الماضية.
وتجدر الإشارة إلى أن المنافسة الشديدة والمساءلة لا يعتبران بطبعة الحال الترياق الشافي. وعلى سبيل المثال، أظهرت تداعيات كارثة الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة والثورات في مصر وليبيا وسوريا والاضطرابات الأخيرة في العديد من الدول الغربية أن المطالبة بالمساءلة لا تحقق دائمًا الاستقرار السياسي أو الاستمرارية. وينطبق الأمر ذاته على أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تزيد الدورات الانتخابية الأكثر تنافسية من حجم الضغوطات على الأموال العامة. ومن جهتها، تعمل الإدارات على تحقيق مشاريع ملموسة لجذب الناخبين وتسعى إلى بناء وتعزيز الائتلافات السياسية للتغلب على المنافسين. في المقابل، تؤدي التحولات السريعة في الحكومة إلى تقلبات أكبر في السياسة.
مع ذلك، تعتبر هذه المخاطر بمثابة ثمن بسيط لزيادة المساءلة. وعلى المدى الطويل، من المرجح أن تساهم الكثافة الحضرية في حشد الدعم الشعبي لدعم أو معارضة السياسات والأفكار أو الأنظمة في البلدان الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء، مما سيؤدي إلى تحسين جودة واستجابة الحوكمة. وتعني كلمة” أجانغل” بلغة اليوربا، المكان الذي تتكدس فيه الثروات، وهو ما يظل حلما بالنسبة لمعظم سكان الأحياء الفقيرة. لكن، في ظل زيادة نمو المناطق الحضرية في نيجيريا، قد تتحول هذه العبارة إلى حقيقة ملموسة.
المصدر: فورين أفيرز