“الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً يا صاحبي!”.. هكذا اختصر الشاعر الفلسطيني محمود درويش الحكاية، في قصيدته “أتذكّرُ السيّاب“، ومنح لقب شاعر لكل عراقي، فالشعر يولد على هذه الأرض. لم يبالغ درويش في وصفه كعادة الشعراء، فالعراقي والقصيدة متلازمة متعددة الوجوه ومختلفة الملامح، لكن الثابت فيها هو الريادة لهذا الفن، فقد برع شعراء العراق في الحفاظ على الكلاسيكية الجزلة السحرية في الشعر العربي، وتمكنوا من إضافة الحديث وتطوير القديم وخلق حالة فريدة خاصة بهم. وفي هذا القرير سنحاول أن نضيء على شعر وشعراء العراق الحديث.
الإضافة العراقية
لم يعرف العرب القصيدة العمودية إلى أن كسرت الشاعرة العراقية نازك الملائكة أعمدة الشعر التقليدي في قصيدتها المبتكرة “الكوليرا”، بالتزامن مع نشر بدر شاكر السياب قصيدته “هل كان حبًا؟” التي كانت أول قصائده في الشعر الحر، ورغم الصراع الذي نشب بين الإثنين منذ 1947م تاريخ نشر القصائد حيث لم يحسم إلى اليوم بين الباحثين باسم من يسجل هذا التجديد الكبير في الشعر العربي، ومن الذي سبق الآخر بهذا الإنجاز؛ إلا أنه مما لا شك فيه أنه إنجاز عراقي خالص لا ريب فيه إن كان عبر نازك أو السياب الذي يعتبر أحد أشهر الشعراء الذين أرسوا قواعد الشعر الحر.
لم يقتصر التجديد في كسر العمود بل في لون الشعر ذاته، فأبدع الشاعر العراقي أحمد مطر لونًا فنيًا جديداً في القصيدة العربية وهو شعر اللافتات الذي نشر أول قصائده “عباس وراء المتراس” في افتتاحية جريدة القبس الكويتية ليكون بذلك مؤسسًا لهذا النمط الأدبي الجديد ورائد مدرسته.
قصيدة لمن نشكو مآسينا ؟ بصوت أحمد مطر
إن التركيب الفني للافتات أحمد مطر أقرب لقصائد الهايكو اليابانية التي كانت تجسد فكرة واحدة مركزة، استخدم الشاعر من خلال هذه التقنية الأدبية طريقة لخطاب المتلقي العربي وقد نجح بذلك، فقد بيع ديوانه المطبوع كويتيًا ما يزيد عن مليون ومئتين ألف نسخة في المغرب العربي فقط.
شعراء بلا ورثة
“آخر شعراء الكلاسيكية السحرية في الشعر العربي” بهذه الكلمات يوصف شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري (1899-1997م) الذي يعتبر أبرز شعراء القرن العشرين، ويكتب الجواهري الشعر الجزل ولا يظهر فيه تأثر بشيء من التيارات الأدبية الأوروبية، وقد استمر في العطاء الشعري لحين وفاته في العاصمة السورية دمشق ودفن في مقبرة الغرباء وعلى قبرهِ نحتت خارطة العراق من حجر الجرانيت مكتوب عليها «يرقد هنا بعيدًا عن دجلة الخير»، في إشارة إلى قصيدته الشهيرة.
قصيدة “اخي جعفر” يرثي فيها الجواهري أخاه الأصغر جعفر
لم يظهر وريثًا للجواهري من الشعراء في الأجيال الحديثة، مما جعل وصفه بأخر شعراء الكلاسيكية الشعرية وصفًا دقيقيًا.
ومن الجواهري إلى عبد الرزاق عبد الواحد، الذي يشارك صاحبه غياب الورثة، فالشاعر الملقب بـ “شاعر القرنين” الذي كتب الشعر الحر والعمودي وفضل الأخير وتجاوزت قصائده النطاق العربي فترجمت للانجليزية والفرنسية والروسية والرومانية والألمانية وعدد آخر من اللغات العالمية، لم يجد الشعر العربي رديفًا له بجزالة الشعر وقوة الصورة الشعرية لذلك لقبه البعض بـ “المتنبي الأخير”.
ويعتبر الجواهري وعبد الواحد من النماذج الصارخة على الريادة العراقية للقصيدة وهذا ما يجعل مهمة الشعراء الشباب في العراق مهمة صعبة للحاق بقامات عملاقة جسدتها ألقاب مثل شاعر العرب الأكبر والمتنبي الأخير.
شعر اللهجة العراقية
لم يقتصر الشعر في العراق على العربية الفصحى بل تسلل إلى العامية العراقية فكتب العراقيون العتابة و الأبوذية والزهيري والدارمي والبدوي والعامودي وكل هذه الوجوه من الشعر الشعبي العراقي كتبت باللهجة المحكية.
وقد حمل رواد هذا الشعر الشعبي على رأسهم مظفر النواب ثم عريان السيد خلف وكاظم إسماعيل كاطع رسالة المجتمع العراقي عبر شعره الشعبي، وقد عالج الشعر الشعبي الكثير من المواضيع الاجتماعية والسياسية العراقية بشكل عميق وقريب من شخصية العراقية كونه يستخدم المفردة العامية العراقية وكذلك الصور الشعرية من الواقع العراقي فكان وقعه وتأثيره يفوق في الكثير من الأحيان القصيدة الفصحى.
وهذا الفن الأدبي المحلي الثري لا يوجد في بلد عربي آخر بهذا التنوع الشامل، فالشعر الشعبي العراقي بألوانه الست يعتبر طيف واسع يضاف للقصيدة الفصحى في بلد صدق فيه وصف درويش “الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ”.