بعد ماراثون من الجدل على منصات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تنطلق اليوم فعاليات قمة كوالالمبور الإسلامية المصغرة، والتي ستعقد على مدار 3 أيام خلال الفترة بين 18 و21 ديسمبر الجاري، وتضم ماليزيا، وتركيا، وباكستان، وإيران، وقطر، فضلاً عن ما يقرب من 450 شخصية عامة من العديد من الدول.
منذ أن طرح الرئيس الماليزي، مهاتير محمد، مبادرته التي تقضي بتشكيل تحالف إسلامي مع تركيا وباكستان من أجل تحقيق النهضة الإسلامية، وأعين قادة العالم العربي والإسلامي على وجه التحديد تترقب ما يمكن أن تسفر عنه في ظل تعدد الآراء والتأويلات بشأن أهدافها الحقيقية ومدى تقديم نفسها كبديل لمنظمة التعاون الإسلامي.
ورغم التأكيد مرارًا وتكرارًا على أن القمة لا تهدف إلى تقويض دور المنظمة الإقليمية كما جاء على لسان مسؤولين أتراك وماليزيين، إلا أن حالة من القلق خيمت على بعض العواصم العربية، التي سلطت أجهزتها الإعلامية لتشويه القمة والتقليل من شأنها ورميها بسهام عدة من الاتهامات على رأسها أنها تسعى لتفتيت اللحمة الإسلامية وتدشين كيان إسلامي بديل.
القلق الذي فرضته تلك القمة لدى الكيانات العربية والإسلامية الحالية لم يتوقف عند حاجز الانتقادات فحسب، بل وظفت تلك القوى ما لديها من نفوذ وإمكانيات لإفشالها بشتى السبل مهما كلفها الأمر، وهو الأمر الذي جسده موقف رئيس وزراء باكستان، عمران خان، الذي أعلن عدم مشاركته في تلك القمة، ليصبح الزعيم الثاني الذي يتراجع عن المشاركة بعد الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو.
جدير بالذكر أن القمة الحالية ليست الأولى من نوعها، فهي الخامسة منذ تأسيس نسختها الأولى في 2014 بدعوة من مهاتير محمد أيضًا، وبحضور مجموعة من مفكرين مسلمين، بهدف إنتاج منظومةً فكريةً سياسية إسلامية جديدة، ثم أتت القمة الثانية تحت عنوان “دور الحرية والديمقراطية في تحقيق الاستقرار والتنمية”، وأقيمت كذلك في كوالالمبور، أما الثالثة في الخرطوم بعنوان “الحكم الرشيد”، والرابعة باسم “الانتقال الديمقراطي” في إسطنبول.. ومع ذلك لم تشهد القمم السابقة كل هذا الجدل التي تشهده القمة الحالية… ليبقى السؤال: لماذا كل هذا القلق؟
تخوفات وتطمينات
عدد من التخوفات خيمت على أرجاء القوى العربية والإسلامية غير المشاركة في القمة منذ الإعلان رسميًا عند تدشينها وتحديد الخارطة الزمنية والجغرافية لعقدها، كان على رأسها وفق ما روجت له الآلة الإعلامية لتلك القوى أنها ترسخ فكرة الاستقطاب وتسعى لكسر الوحدة العربية والإسلامية المتمثلة في منظمة المؤتمر الإسلامي.
وردًا على تلك التخوفات قال رئيس الوزراء الماليزي إن عقد قمة كوالالمبور ليس القصد منه تولي دور منظمة التعاون الإسلامي، مضيفًا أنه “انتهز فرصة لتوضيح ذلك أثناء مكالمته المرئية مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في مركز مؤتمرات كوالالمبور موقع فعاليات القمة”.
وأضاف محمد في تصريحات للصحفيين عقب المكالمة المرئية، “ماليزيا صغيرة للغاية لتتكلف الدور المعني.. القمة تهدف إلى إيجاد حلول جديدة للأمة الإسلامية”، وتابع: “من الأفضل أن تستمر السعودية لعب دورها”، مؤكدًا في الوقت ذاته على أنه “إذا نظمت السعودية أية قمة لمناقشة الأمر ذاته، فنحن على استعداد للحضور”.
لم تُحدد بعد هوية الدول التي مارست ضغوطا على خان لعدم المشاركة بعد أن كان أبرز الحضور الداعين للقمة، إلا أن وسائل إعلام محلية باكستانية ألمحت إلى دور سعودي إماراتي في الأمر
وعن أهداف القمة الحقيقية قال أحمد أعظم موهد شريف، عضو الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان بمنظمة التعاون الإسلامي، إنه يرى أنها “ستجد حلولًا لأزمات الأمة الإسلامية العصية على الحل منذ انهيار الخلافة العثمانية عام 1924″، مستطردًا: “منذ سنوات مع الأسف، لا توجد حلول لمشكلات المسلمين في فلسطين، وجنوب تايلاند، وأراكان، وأتراك الأويغور” وتابع “العالم الإسلامي لم يعد بحاجة إلى إلقاء خطب ونشر إعلانات، وإنما بحاجة إلى العمل”.
الأمر ذاته ذهب إليه رئيس معهد الدراسات العرقية بجامعة ماليزيا الوطنية، البروفيسور، كارتيني أبو طالب، الذي قال إنه يؤمن بأن هذه القمة ستكون مثمرة، لمشاركة رموز من بلدان كثيرة حول العالم، موضحًا أن “هناك علماء، وكتاب، وأكاديميون من البلدان الإسلامية، سيجتمعون في تلك القمة لتبادل الأفكار حول الحلول البناءة لمشكلات العالم الإسلامي”.
الرئيس التركي يصل كوالالمبور للمشاركة في القمة
ضغوط خليجية
رغم التطمينات التي قدمها المشاركون في القمة إلا أن ذلك لم يحل دون ضغوط مارستها بعض الحكومات لتقليص عدد رؤساء الدول المشاركين فيها، وهو ما كشفه موقفي الرئيس الإندونيسي ورئيس الوزراء الباكستاني حيث قدما اعتذارهما المشاركة دون إبداء أسباب.
لم تُحدد بعد هوية الدول التي مارست ضغوطًا على خان لعدم المشاركة بعد أن كان أبرز الحضور الداعين للقمة، إلا أن وسائل إعلام محلية باكستانية ألمحت إلى دور سعودي إماراتي في الأمر، حيث نقلت صحيفة “ساوث تشاينا موريننج بوست” الباكستانية، عما وصفته مصادر صحفية متعددة، أن الرياض ضغطت على رئيس الوزراء الباكستاني لحمله على عدم حضور القمة، بسبب ما ينظر إلى القمة بوصفها بديلا عن منظمة التعاون الإسلامي التي تسيطر عليها السعودية.
الرأي ذاته ذهبت إليه صحيفة “إكسبرس تريبيون” التي رأت أنّ قرار خان جاء نتيجة “تحفظات السعودية”، إذ زار الأخير المملكة الأحد الماضي، والتقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وأكّد له “أنّ المشاركة في القمة لن تكون على حساب السعودية”.
نقل موقع “ذا نيوز” عن مصادر لم يسمّها، قوله إنّ السعودية عبّرت عن “قلقها البالغ من بيان رئيس الحكومة الماليزية الذي قال إن الدول الإسلامية في كوالالمبور ستشكّل منصة جديدة لاستبدال منظمة التعاون الإسلامي، والتي فشلت في حلّ مشاكل الدول الإسلامية”. وتابعت أنّ “الإمارات أيضًا عبرت عن قلقها من البيان، وطلبت من باكستان عدم المشاركة في القمة”، وكذلك فعلت البحرين، وفق المصادر نفسها.
خطورة القمة تتجاوز مرحلة تشكيل نواة تكتل إسلامي جديد إلى تهميش الكيانات العربية الكبرى ونزع قيادتها للعالم الإسلامي لصالح مرجعية جديدة
فيما كشف صحيفة “ذا نيوز” الباكستانية، أن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، نقل قلقه من مشاركة باكستان إلى قائد القوات الباكستانية الجنرال قمر جواد بجوا في 14 من ديسمبر الحالي، لكن بدون أن تحدّد كيف نقل له هذا القلق، وهي التسريبات التي عززتها نتائج زيارة خان لدول الخليج مؤخرًا.
وفي تقرير لها الاثنين، أكدت الصحيفة الباكستانية أن إسلام أباد حصلت على ودائع بقيمة 5 مليارات دولار لمدة عام من السعودية والإمارات لمساعدتها على التغلب على أزمتها الاقتصادية، وأشارت إلى أنه الآن وبعد حصولها على الـ5 مليارات دولار، تدرس السلطات الباكستانية خيارات لتقديم طلب جديد لكلا البلدين لتحويل الودائع إلى قروض حكومية.
وأوضحت الصحيفة أنه “وفق شروط صندوق النقد الدولي، حصلت باكستان على ضمانات بقيمة 5 مليارات دولار من الودائع من السعودية والإمارات مع بنك الدولة الباكستاني (SBP) لمدة عام واحد. والآن تدرس خيارات تقديم طلب إلى البلدين لتحويل هذه الودائع إلى قروض حكومية ثنائية”، وفق ما صرحت به مصادر رسمية رفيعة المستوى، الأحد.
يذكر أن زيارة السبت الماضي التي قام بها خان للسعودية قد توجت بموافقة الرياض خلال مشاركة وفد باكستان في فعاليات منتدى مستقبل الاستثمار، على تقديم تسهيلات مؤجلة بقيمة 3 مليارات دولار لشراء النفط على مدار عام، شريطة أن يتم شراؤه من المملكة، هذا بخلاف سبعة مليارات دولار( 15 مليار وفق مصادر أخرى) قيمة استثمارات سعودية داخل البلاد خلال العامين المقبلين على هامش زيارة ولي العهد السعودي لإسلام أباد فبراير الماضي.
وفي السياق ذاته نقلت بعض المواقع الخبرية عن صحيفة “داون” الباكستانية قولها أن الرئيس الإندونيسي كان قد تعرض لضغوطات قبل عقد القمة، وهي الأسباب التي تقف وراء تراجعه عن المشاركة في محاولة لتجنب الصدام مع تلك الكيانات وخسارة المكاسب الاقتصادية الناجمة عن استمرار العلاقات مع الدول الضاغطة.
وتشهد العلاقات السعودية الإندونيسية تفاهما كبيرًا في عهد ويدودو وهو ما عبر عنه السفير الإندونيسي في الرياض، أغوس مفتوح أبي جبريل، خلال حوار صحفي له حين وصف العلاقات بين البلدين “كعلاقات الأصابع من اليد حيث لا تنفع الأصابع إلا وهي متصلة باليد كما أن اليد لا تبدو جميلة إلا بها، فكل واحد منهما جزء لا يتجزأ”
هذا بخلاف ما شهده حجم التبادل التجاري بين البلدين من نمو متطرد في أعقاب زيارة العاهل السعودية لجاكرتا مطلع 2017 حيث ارتفع من 3 مليارات دولار إلى نحو 9 مليارات دولار، وهي المكاسب التي من الصعب التضحية بها من قبل جاكرتا التي تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة.
وفي سياق أخر تشهد العلاقات السعودية الماليزية فتورًا نسبيًا بعد فوز مهاتير محمد في الانتخابات الأخيرة، على عكس ما كانت عليه في عهد سلفه نجيب رزاق (2009-2018) والذي يواجه الآن تهم فساد في القضية المعروفة بـ 1أم دي بي والتي تم فيها تحويل مليارات الدولارات إلى حساباته الشخصية.
وعلى عكس رزاق الذي كانت العلاقات في عهده بين بلاده والرياض في أوج قمتها، لم يزر مهاتير الرياض منذ انتخابه العام الماضي مع أنه استقبل قادة سعوديين في العاصمة الماليزية، بينما زار قطر قبل أيام بناء على دعوة من أميرها.
رئيس الوزراء الباكستاني مع ولي العهد السعودي
لماذا كل هذا القلق؟
بات من الواضح أن منظمة التعاون الإسلامي لم تعد كما كانت، ذلك الصرح الذي يعبر عن صوت المسلمين أيا كانت جنسياتهم، فالمنظمة التي تعبر عن 57 دولة إسلامية وتتحدث باسم ما يزيد عن مليار ونصف مسلم، فقدت حياديتها وموضوعيتها منذ أن انحازت إلى دولة المقر، وتحولت إلى فرع لوزارة الخارجية السعودية.
ومع ذلك تم تصدير الخوف على مستقبل هذا الكيان الذي اقتصر دوره مؤخرًا على إصدار بيانات الإدانة والشجب بعيدًا عن التعاطي بجدية مع قضايا المسلمين الحساسة، كشماعة لتبرير الهجوم على القمة وتسليط اللجان الإلكترونية لتشويهها والمشاركين فيها.. لكن يبقى السؤال: هل فعلًا هذا ما يقلق السعودية والإمارات من القمة؟
خطورة القمة تتجاوز مرحلة تشكيل نواة تكتل إسلامي جديد إلى تهميش الكيانات العربية الكبرى ونزع قيادتها للعالم الإسلامي لصالح مرجعية جديدة، وهو ما أثار حفيظة السعودية التي استشعرت هذا الخطر في ظل ما تعاني منه من تقليص لدورها في المنطقة خلال السنوات الأخيرة لحساب إيران تارة وقوى أخرى تارة أخرى.
فكيانات بحجم السعودية ومصر والجزائر والسودان بجانب سوريا والعراق، حين تستبعد من حضور هذه القمة التي من المفترض أن تناقش قضايا المسلمين الملحة وتقديم روشتة علاجية سريعة للتعامل معها بعدما فشلت كافة المبادرات الأخرى، كان لابد من القلق والبحث عن أي سبيل لإفشالها أو على الأقل التقليل من تأثيرها.
إن فكرة تدشين مؤتمر أو قمة تتناول قضايا الأمة الإسلامية بمعزل عن السعودية التي دوما ما تصدر نفسها على أنها المتحدث الرسمي باسم المسلمين هي مسألة في حقيقتها مزعجة جدًا للسعوديين، وهو أمر من الصعب أن تقبل به المملكة في وقت تشهد فيه جدرانها ثقوب عدة جراء سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء، فكيف يكون الحال بقمة تشارك فيها إيران، الخصم اللدود، وتركيا التي تشهد العلاقات معها توترًا غير مسبوق في أعقاب قضية مقتل جمال خاشقجي، بجانب قطر التي لا تزال المملكة وحلفها في قطيعة معها منذ 5 يونيو 2017.
ليس هناك من شك في أن غياب رئيس الوزراء الباكستاني والرئيس الإندونيسي من شأنه أن يضعف مستوى التمثيل في القمة ويفقدها أحد أبرز القوى النووية حتى وإن كان التمثيل رفيعًا على مستوى وزير الخارجية، إلا أن التجمع في حد ذاته جرس إنذار ورسالة تهديد شديدة اللهجة لجميع الزعامات العربية لإعادة النظر في سياساتها العامة حيال ملفات المنطقة.
بصرف النظر عن نتائج أعمال قمة كولالمبور وما يمكن أن تخرج به من قرارات إلا أنها بلا شك ستكون حجرًا يحرك المياه الراكدة في مستنقع الملفات الإسلامية المجمدة في ثلاجات المنظمات العربية والإسلامية التي تفقد تأثيرها يومًا تلو الآخر.