تنفق الحكومات والشركات مليارات الدولارات على مشاريع المدن الذكية التي من شأنها أن تجعل حياة المدينة أكثر جودةً وإنتاجيةً، وبعبارةٍ أخرى، أكثر سرعةً، فنحن نعيش في عالم يمجد السرعة ويدمنها، إذ تمر سنوات حياتنا تحت ضغط الوقت، مع أن الإنسان هو الذي صنع الساعة لخدمته، إلا أنه وقع تحت سطوتها وطغيانها، تماشيًا مع الشعار الرئيسي للإيديولوجيا الرأسمالية، “الوقت يساوي مالًا”، الذي أطلقه بنجامين فرانكلين عام 1784.
ما سبق يلخص وجهة نظر، الكاتب الكندي والناقد الأدبي، جورج وودكوك، الذي طرح هذا الموضوع لأول مرة في مارس عام 1944 ورأى أن “الساعة تمثل عصر الطغيان الميكانيكي في حياة الإنسان الحديث أقوى من أي مُستغِل أو أي آلة أخرى”. من منظور آخر، مدح الروائي التشيكي، ميلان كونديرا، الحياة البطيئة، وتساءل عن أسباب غياب الوتيرة البطيئة في حياتنا، قائلًا:
“لِم اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغانى الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية و الحقول والغابات الطبيعية؟”. مشيرًا إلى أن المرء في بحث دائم عن الحركة.
إلى جانب الشق الفلسفي والنظري، ظهرت تيارات مناقضة ومعارضة لنظام الحياة السريعة، مثل حركة الطعام البطئ والتي انبثق منها حركات شبيهة كالمدن البطيئة والسياحة البطيئة والقراءة البطيئة والمدارس البطيئة ونادي الكسل في اليابان، وغيرها من الحركات التي تبنت نفس الفلسفة والمبدأ.
ثورة ضد السرعة
في البداية، انطلقت حركة “الطعام البطيء” في الثمانينات، عام 1986 في إيطاليا، لتعيد القيمة الثقافية والاجتماعية إلى المأكولات التقليدية من جديد، وذلك بعد أن انتشرت ظاهرة الوجبات السريعة في العالم في بداية الخمسينيات وتلاعبت بمذاق الطعام وصحة المستهلك لتحقيق أهدافها التجارية.
أسسها كارلو بتريني، بعد أن افتتحت “ماكدونالدز” مطعمًا لها في قلب روما بالقرب من المدرج الروماني “الكولوسيوم”، حيث احتشد الآلاف من الناس في الساحة احتجاجًا على دخول “الهمبرغر” الأمريكي إلى أرض الباستا الإيطالية، خاصة أن المطعم افتتح في مركز تاريخي وقد يكون سببًا رئيسيًا في تغيير ملامح الشوارع الرومانية القديمة في البلاد.
ومع نمو هذا الموقف الشعبي تجاه هذه الصناعة، استغل بتريني هذه الأحداث لتأسيس حركة معارضة كرد فعل لمطاعم الوجبات السريعة التي استبدلت العشاء العائلي التقليدي وشجعت على الطعام الذي يؤكل على عجل خلال دقائق معدودة، ومن بعدها تبنت عشرات المطاعم والأفراد هذه الفكرة. وبعد أن اكتسبت الحركة شهرة وشعبية واسعة، بذل أفرادها جهودًا إضافية لإنشاء فكرة “المدن البطيئة”.
“المدن البطيئة”.. أن تعيش بعيدًا عن جنون السرعة
نشأ مصطلح “المدن البطيئة” أو كما يٌسمى بالإيطالية Cittaslow عام 1999، لتحسين جودة حياة المدينة، والحفاظ على السمات الثقافية والتراث الحضاري للمدن وتحسين الأحوال المعيشية لمواطنيها، على حساب سرعة الإيقاع والعادات الاستهلاكية، من خلال الحد من التلوث البيئي بجميع أشكاله، وتقليص الازدحام المروري والاكتظاظ السكاني، وفي المقابل، تعزيز التفاعل الاجتماعي وتوفير الساحات الخضراء والبنية التحتية التي يمكنها أن تعزز الطاقة المتجددة والنقل المستدام، مما يسمح لسكان المدينة بتجربة نمط معيشي أكثر صحةً.
وإضافة إلى الحفاظ على الهوية المحلية للمدينة وحماية مواردها من الاستنزاف والسلوكيات السلبية، تُلزم منظمة “المدن البطيئة” المدن التي تسعى حكوماتها إلى ضمها ضمن قائمة “المدن البطيئة، بملائمة 55 تعهدًا أو معيارًا يتعلق بالسياسة البيئية والتخطيط العمراني والبنية التحتية ونوعية النسيج الحضري، وأبرزها:
تشجيع المنتجات المحلية ودعم الحرف اليدوية، وعدم افتتاح مطاعم للوجبات السريعة أو المتاجر الكبرى وتقييد استخدام السيارات والحد من السرعة القصوى في الشوارع، بما لا يزيد عن 20 كيلو متر في الساعة، وتقليل اللوحات الإعلانية وإضاءة النيون واستخدام شعار الحلزون، وألا يزيد عدد سكانها عن 500 ألف نسمة، وعند الإيفاء بتلك الشروط، يتم التحقق من ذلك بواسطة مفتشين، ثم يصدر القرار النهائي من المنظمة في إيطاليا.
أين توجد المدن البطيئة؟
نجحت المنظمة في استقطاب نحو 262 مدينة من 30 دولة مختلفة حول العالم، ، بما في ذلك إيطاليا وألمانيا والنرويج وبولندا والبرتغال والمملكة المتحدة وتركيا وبلجيكا وإسبانيا. تعد إيطاليا وألمانيا أكثر الدول اللواتي سجلن عددًا أكبر من الأعضاء، وهي المدن التي فضلت بلدياتها احترام صحة المواطنين وجودة المنتجات والأعمال الفنية والمناظر الطبيعية وتقاليد الحياة الهادئة على عجلة الإنتاج الطاحنة للإنسان وصحته النفسية والعقلية.
تُعرف مدينة “كويجييز” بخلوها من إشارات المرور وحظرها استخدام الفحم للتدفئة، فضلًا عن غناها بآثار الحضارات الأولى مثل الآشوريين والفرس والرومان والسلاجقة والعثمانيين
مثالًا على المدن البطيئة، تميزت تركيا بعدد من المدن التي يمكنك قصدها للاستمتاع بالسلام والهدوء، حيث تضم الجمهورية نحو 14 مدينة بطيئة، وكان أولها مدينة “سفري حصار” التي انضمت إلى قائمة “أكثر مدن العالم هدوءا” في عام 2009. حيث تقع في جنوب غرب مدينة إزمير على بحر “إيجة”، وتشتهر بطبيعتها الخلابة والمساحات الخضراء التي تكسو نحو 50% من مساحتها.
يضاف إليها، مدينة “كويجييز” التي تقع أيضًا على ساحل بحر إيجة في ولاية موغلا المشهورة سياحياً بسلاسل الجبال العالية ورائحة أشجار الحمضيات من البرتقال والليمون واليوسفي، كما أنها معروفة بخلوها من إشارات المرور وحظرها استخدام الفحم للتدفئة، فضلًا عن ثرائها بآثار الحضارات الأولى، مثل الآشوريين والفرس والرومان والسلاجقة والعثمانيين، وهي السمات التي أضافت لملامحها بعدًا تاريخيًا عميقًا.
ختامًا، تحاول حركة “المدن البطيئة” الترويج للبطء كنوع من الترياق للعديد من جوانب الحياة الحديثة غير الصحية أو السطحية، ولا سيما في ظل التوسع الحضري الحالي، إذ تقدر الأمم المتحدة أن 68% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول عام 2050، مما يعني انتقال نحو 2.5 مليار شخص إلى المناطق الحضرية، وبذلك تبقى “المدن البطيئة” السبيل الوحيد أمام هستيريا السرعة التي ترغمنا على العيش ضمن ساعات غير منتهية من الضوضاء والازدحام.