يبرز اسم “شرق المتوسط” مجددًا كساحة للصراع الجديد حول الطاقة في العالم، وتحاول الدول غير المطلة على البحر الأبيض المتوسط، الدخول إليه عبر بوابات متعددة للحصول على حصة من كعكته الشهيّة، تُكسبها نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولعل أبرز الأمثلة على هذا الدخول هي روسيا التي يبدو أنها حجزت مقعدًا على الشواطئ، مطمئنة على نصيبها من الثروات والخيرات الكامنة في هذا البحر الإستراتيجي، ولا يقتصر هدف التدخل الروسي هنا على قنص حصة من الغاز أو النفط، إنما أيضًا المنافسة على النفوذ في الإقليم المضطرب الذي يشرف على البحر.
وتشير نتائج مسوحات جيولوجية إلى أن حوض منطقة المتوسط يحتوي احتياطات ضخمة من الغاز والنفط، إذ تعوم المنطقة فوق مخزون غاز يقدّر بحوالى 122 تريليون قدم، وتقع هذه البحيرة داخل الحدود البحرية الإقليمية لست دول هي تركيا وسورية وقبرص ولبنان ومصر “وإسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة بما في فيها قطاع غزة. من أجل ذلك تعمل موسكو جاهدًة للدخول إلى أكبر عدد ممكن من الدول المطلة على هذه الثروات، مما يتيح لها أيضًا التوغل سياسيًا في تلك البلاد.
سوريا.. البوابة الأولى
بدأت حكاية الدخول الروسي إلى سوريا اقتصاديًا لحجز مقعدها على حوض المتوسط منذ عام 1957، حيث وقعت دمشق مع الاتحاد السوفيتي اتفاقية للتعاون الاقتصادي، يتضمن مساعدات لسوريا بقيمة بقيمة 300 مليون دولار، وفي ديسمبر/كانون الأول 1966، تم الاتفاق مع الاتحاد السوفيتي على بدء أعمال البناء في سد الفرات. وبحسب غرفة تجارة دمشق فإن قيمة الاستثمارات الروسية المتراكمة في سوريا حتى 2011 تقدر بنحو 19 مليار دولار تتركز في قطاعات عدة منها الطاقة والسياحة والنقل.
ووقّع البلدان في عام 2005 قرابة 43 اتفاقية ومذكرة تفاهم شملت الاتفاقات مجالات عدة منها الدفاع والصناعة والتجارة والسياحة والثقافة والطاقة، وقُلصت الديون السورية لروسيا بنسبة 73% من الديون المستحقة البالغة 13.4 مليار دولار مقابل موافقة الرئيس السوري تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية التي تخشى روسيا فقدانها في حال سقوط النظام.
إلا أن مايهم أكثر من ذلك كلّه، هو الوجود الروسي في ميناء طرطوس عبر قاعدة بحرية روسية أنشئت حسب اتفاقية وقعت عام 1971 بين البلدين، وتأسست القاعدة لدعم الأسطول السوڤيتي في البحر المتوسط آنذاك، فيما شهدت سنة 2018 و2019 البدء بالتنقيب عن النفط والغاز في البلاد من قبل وزارة الطاقة الروسية التي أوضحت أن شركات “زاروبيج نفط و”زاروبيج جيولوجيا” و”أس تي غه انجينيرينغ” و”تيخنوبروم أكسبورت” باشرت بتنفيذ أعمال التنقيب الجيولوجي لاستكشاف موارد الطاقة في البر والبحر في سوريا.
ووقع الطرفان الروسي والسوري “عقد عمريت” عام 2013، من أجل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، ويشمل عمليات تنقيب في مساحة 2190 كيلومترًا مربعًا ويمتد على مدى 25 عامًا، بكلفة تبلغ 100 مليون دولار، بتمويل من روسيا، وفي حال اُكتشف النفط أو الغاز بكميات تجارية، ستسترد موسكو النفقات من الإنتاج، إلى جانب هذا العقد وقعت العديد من الاتفاقيات في مجال التنقيب عن الطاقة في البحر المتوسط.
وفي هذا الصدد يقول “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”: “إن شركات الطاقة الروسية تتطلع إلى تجديد استثماراتها في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها، لكنها لا تسعى إلى التنقيب عن احتياطيات النفط السورية المحدودة واستخراجها، فهي تختزن كميات هائلة، بل تحاول الاضطلاع بدور فاعل في إعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها”، مضيفًا أنه من خلال هذه “الجهود الحثيثة، تأمل شركات الطاقة الروسية في التحكم بجزء كبير من خطوط الأنابيب ومنشآت التسييل والمصافي والموانئ”. وبالتالي فإن موسكو تسعى للاستفادة من موقع سوريا كنقطة عبور لنفط وغاز المنطقة المتجهين نحو أوروبا. وبذلك، لن “تنجح روسيا في توسيع نطاق هيمنتها فحسب شرق البحر المتوسط، بل ستتمكن من تشديد قبضتها على إمدادات الغاز الأوروبية”، وفقًا للمعهد.
من جهته صرح نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، في أبريل من عام 2019 الجاري، أن ميناء طرطوس في سوريا سيتم تأجيره إلى روسيا لمدة 49 عامًا للنقل والاستخدام الاقتصادي، وتسمح هذه الاتفاقية بتواجد 11 سفينة حربية مع إمكانية التجديد التلقائي لفترات لمدة 25 عامًا، وتنص اتفاقية التأجير، بأن تتولى روسيا حماية مركز الإمداد التابع لأسطولها، في البحر والجو، وبحسب الوثيقة فإن الجانب السوري يسمح لروسيا بالاستخدام المجاني طوال مدة الاتفاق، الأراضي والمياه في منطقة ميناء طرطوس، كما نصت الاتفاقية على أن جميع العقارات التي بناها الطرف الروسي على الأرض السورية هي ملك له.
المنافسة الإيرانية
دخلت روسيا وإيران السباق لتحصيل المكاسب في سوريا، إذ أنهما تسارعان لتوقيع الاتفاقيات مع النظام الذي يعتبر أن بقاءه مرتبط ببقاء دعم هذين البلدين، ووقّعت طهران ودمشق 11 اتفاقية، بما في ذلك اتفاقية تعاون اقتصادي “استراتيجي طويلة المدى” لإعادة تأهيل موانئ طرطوس واللاذقية، وكان مدير شركة خطوط سكك الحديد الإيرانية سعيد رسولي خلال لقاء سابق مع نظرائه السوري والعراقي قد أعلن أن “خط السكك الحديدية سينطلق من ميناء الإمام الخميني في إيران مرورا بشلمجة على الحدود العراقية ومدينة البصرة العراقية ليصل إلى ميناء اللاذقية”، الأمر الذي يوصل طهران إلى حوض المتوسط.
وصول طهران للأبيض المتوسط يعتبر مصدر قلق لروسيا التي تريد أن تكون صاحبة القوة الرئيسية على ذلك الساحل، خاصة بعد استيلائها على ميناء طرطوس، ورغم أن إيران حصلت على حق التشغيل التجاري الحصري لمرفأ اللاذقية، فإن “روسيا تفضّل أن يكون مرفأ اللاذقية مع الصين بدلًا من إيران” وبحسب ما قال مصدر سوري لـ”بي بي سي“.
مصر.. البوابة الخفية لروسيا
أعلنت كل من مصر و”إسرائيل” وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن وفلسطين من القاهرة في الشهر الأول من 2019 إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط”، ويأتي إنشاء المنتدى في إطار سعي مصر للتحول لمركز إقليمي للطاقة في المنطقة، ومن أهدافه وفق بيان لوفق وزارة البترول المصرية “العمل على إنشاء سوق إقليمية للغاز وترشيد تكلفة البنية التحتية وتقديم أسعار تنافسية”، هذا الأمر الذي يجعل مصر بمنافذها المتعددة على البحر الأبيض المتوسط قوةً كبيرةً في الصراع المحتمل على الطاقة في تلك المنطقة.
تعدّ القاهرة من أقوى حلفاء موسكو في المنطقة، وازدهر التعاون بين البلدين بعد سيطرة عبد الفتاح السيسي على الحكم، فيما وقعت اتفاقيات عدّة في الدفاع والطاقة والزراعة وصناعات التكنولوجيا المتقدِّمة والتعليم والثقافة. واشترت مصر كميات كبيرة من الأسلحة الروسية الصنع. عام 2017 صاغت موسكو والقاهرة اتفاقيةً حول الاستخدام المشترك للقوات والقواعد الجوية من قِبل الجيشين. وعلى الرغم أن الاتفاقية لم تدخل التنفيذ، إلا أنها ستوسع نطاق وجود روسيا في شمال إفريقيا، كما أنها تفتح الباب لإجراء محادثات حول اتفاقيات من شأنها أن تسمح لموسكو بتعزيز انتشارها البحري في البحر الأبيض المتوسط.
وكانت اختتمت البحرية المصرية ونظيرتها الروسية، التدريب المشترك، الذي حمل اسم “جسر الصداقة 2019” في مياه البحر الأبيض المتوسط. يأتي ذلك في إطار تمتين موسكو لعلاقتها مع مصر، وقال المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية، العقيد تامر الرفاعي، “إن التدريب تم في نطاق الأسطول الشمالي بمسرح عمليات البحر المتوسط، ويعد من أكبر التدريبات البحرية المشتركة بمسرح عمليات المتوسط”.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن ما أسماها “العقيدة البحرية الروسية” عام 2015 التي تستمر حتى عام 2020. محددًا هدف توسيع القدرات البحرية الروسية من المنطقة “الإقليمية” إلى “المياه الزرقاء العالمية”. وتواصل موسكو ترسيخ الوجود “الدائم” لروسيا في سوريا، إلا أن ذلك لا يكفي الدولة القيصرية وأحلامها فهي تسعى إلى جانب البلد القابع في الحرب الحصول على ممرات أكثر أمنًا، فتتطلع موسكو إلى مصر التي هي بوابتها الأخرى للمتوسط ولشمال أفريقيا.
يُذكر أن شركة “روسنفط” الروسية تعمل منذ عام 2016 على تطوير واحد من أكبر الاكتشافات في العصر الحديث بمجال الغاز في حقل الغاز في المياه العميقة للبحر الأبيض المتوسط في المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر، حيث ستدفع الشركة 1.36 مليار دولار. ويعتبر هذا الحقل أكبر حقل غاز في مصر تم اكتشافه في البحر المتوسط في عام 2015 من قبل شركة “إيني” الايطالية. ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج منه في 2020، والاحتياطي المؤكد 30 تريليون قدم مكعب.
إلى ذلك، تحاول روسيا تحصيل أكبر قدر من المكاسب عبر ترسيخ وجودها في المزيد من المواقع على البحر الأبيض المتوسط، في محاكاة للدور الأمريكي في المنطقة أو منافسته أو حتى أخذ مكانه مع الانسحابات الحثيثة لواشنطن من ملفات الشرق الأوسط، وتسعى موسكو جاهدة للظهور كقطب عالمي يملك قواعد خارج أراضيه ويهيمن على بعض الطرق الهامة العالمية برًا وبحرًا وجوًا، ولعلنا في تقرير مقبل نلقي الضوء على نفوذها المتصاعد في ليبيا الذي يتخذ شكلًا رسمياً وارتزاقيًا عبر دعم غير رسمي لقوات خليفة حفتر، وهي إطلالة أخرى على المتوسط ضمن محاولاتها الحثيثة للتمدد أكثر وأكثر في مياهنا الدافئة.