تتقلب أوراق السياسة في لبنان، تتمايل بشدة على أنغام الحراك الثائر منذ أكثر من شهرين، تتغير قواعد اللعبة كل 24 ساعة تقريبًا، لدرجة أن وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، رئيس تكتل “لبنان القوي” وصهر الرئيس الحالي ميشيل عون، و”ولي عهده” كما يُطلق عليه في الأوساط السياسية والصحافية، وأول المستهدف إزاحتهم من السلطة، يعاد تقديمه بشكل جديد للشارع الملتهب ضده، ما جعل الكثيريون يتوقعون أن يمضى الرجل في سيناريو تنصيبه رئيسًا للبنان، بعدما كانوا يضعون كل الشكوك، أمام الفرص المحتملة لتصعيده.. فما الذي حدث؟
باسيل في سطور
ولد وزير الخارجية اللبناي المثير للجدل ولد في 21 يونيو 1970 بلبنان، وهو مسيحي ماروني ، تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت (AUB) وحصل على شهادة في الهندسة المدنية عام 1992 وماجستير في الاتصالات عام 1993، وتزوج عام 1999 من شانتال ميشال عون، ابنة الجنرال السابق بالجيش ورئيس الوزراء المتنازع عليه ميشال عون، الذي كان في ذلك الوقت بالمنفى، بعد أن خاض حرب تحرير ضد القوات السورية في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.
اقتحم جبران عالم السياسية، في أواخر التسعينيات، وعرفه الشارع اللبناني، ناشطًا سياسيًا في حركة عون، التي استمدت زخمها من معارضة تواجد القوات السورية في لبنان، توهج “جبران” أكثر وأكثر، بعد تأسيس الحركة الوطنية الحرة (FPM) التي يقودها الآن، وخاصة بعد دورها في الضغط سياسيًا وإعلاميًا حتى عام 2005، الذي شهد انسحاب الجيش السوري من لبنان.
لعب باسيل دورًا بارزًا في التيار الوطني الحر، ودعم توقيع مذكرة التفاهم مع “حزب الله” في عام 2006، وهي الخطوة التي خلفت تدشين التحالف السياسي المعرفة باسم “8 آذار” بقيادة تيار المستقبل وزعامة سعد الحريري، وادى تحالفه مع حزب الله ــ لا يزال قائما حتى اليوم ــ إلى تعيينه وزيرًا للاتصالات، بعد أن دخل التيار الوطني الحر الحكومة عام 2008، وفي العام التالي أصبح وزيرا للطاقة والمياه.
تواجده في وزارة الطاقة، كانت الزلة السياسية الأسوأ في حياته السياسية، حيث اتهم خلال رئاسته لها بالفساد، ودارت حوله شبهات كثيرة وسط اتهامات بالعبث بإيرادات الوزارة بلغت ملايين الدولارات، ولكن لم تمنعه هذه الشوشرة من الصعود لتولي زعامة التيار الوطني الحر، تزامنًا مع صعود صهره ميشيل عون إلى كرسي الرئاسة، والتربع على قمة التوهج السياسي بتعيينه وزيرًا للخارجية والمغتربين منذ عام 2014.
عرف باسيل بأسلوبه المعادي للمهاجرين، وطالب السوريون بالعودة إلى ديارهم رغم الحرب المستمرة عليهم، وكان يقود ضدهم حملات دعائية شرسة، وهو صاحب مقوله “لبنان أولًا، والعمال اللبنانيين في المرتبة الأولى”، والغريب أن هذه المواقف الحادة، لم تدعه إلى فك الوثاق، وحل تحالفه مع “حزب الله”، الذي يتخذ موقفًا معاديًا لهذه الأفكار، في التعامل مع الملف السوري.
التوحد مع الخطاب المعادي للسوريين والمهاجريين في الشارع اللبناني، لم يجعل الحراك الثوري الذي اندلع فجأة، ومنذ لحظته الأولى، يستبعد “باسيل” من المفرمة السياسية التي دبرها للساسة في البلاد، حيث وضع الحراك وزير الخارجية على رأس القائمة الأولى للمسؤولين المطلوب مغادرتهم الحياة السياسية للأبد، للحد الذي أوصل الحراك إلى تأليف أغنيه من كلمات خارجه له، ورقص عليها المتظاهرون اللبنانيون طوال الشهر الماضي.
كانت الأغنية المسيئة لصهر الرئيس، الظاهرة الأبرز، والعنوان الأوضح ليس فقط لتعرية النخبة السياسية والرغبة في إزاحتها، بل ورفضًا للتحركات السرية، التي كانت تهدف لتصعيد جبران إلى أكبر موقع في البلاد، من أوسع الأبواب الخلفية، التي كانت متبعة في الأنظمة البائدة بالمنطقة.
ولي عهد الجمهورية.. كيف كان يُصنع الرئيس الجديد؟
لا يمكن القول إن الغضب الشعبي على جبران باسيل بهذه الشراسة خلفه فقط ــ اتهامات لم يفصل فيها بالفساد ــ ولكن الغضب الأكبر ضد التفاصيل التي كانت تسرب بعض للرأي العام وتدعمها الكثير من الشواهد، عن عملية صناعة “ولي عهد” يورث الحكم، من أوسع الأبواب السرية لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وهي الخطة التي كانت تثير الحنق، لدى الجماهير والنخبة والصحافة.
وعلى عكس حسني مبارك وحافظ الأسد، الذين ابتدعا قصة توريث الحكم في المنطقة، فالأول تمكن نظامه من تنفيذ المخطط، والثاني أجهض مشروعه ثورة 25 يناير المصرية، وزع الرئيس ميشال عون، على أزواج بناته الثلاثة كافة المغانم السياسية التي تتيحها له سلطات وصلاحيات ونفوذ منصب الرئيس، وكان نصيب جبران باسيل “ولاية العهد”، بحسب الصحافي اللبناني البارز فارس خشان.
يقول خشان إن توجه الرئيس نحو التوريث كان معروفًا حتى قبل انتخابه، فهندسة الصفقة الرئاسية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، وضعت جبران باسيل، حاكمًا أكثر حيوية للقصر الرئاسي، ولكن من مقام الظل، مؤكدًا أنه قبل الثورة، كان باسيل يخطو خطوات واثقة نحو توليه منصب رئاسة الجمهورية خلفًا لعمه وصهره، ويستند في ذلك إلى حديث الرئيس عون نفسه، عن ضرورة التعاطي مع أفكار باسيل، قبل حلول الذكرى السنوية الثانية لوصوله إلى قصر بعبدا، والتي أكد فيها أنه يطمح في إيصال شخصية يراها هو مناسبة إلى رئاسة الجمهورية.
استغل جبران الدفعة الرئاسية والصفقة السياسية مع الفرقاء السياسيين، ليقدم نفسه إلى اللبنانيين، على أساس أنه الرجل الأقوى في هذا العهد، وبنى سياسته اللبنانية على قاعدة أنه “الرئيس المقبل”.
وبحسب مراقبون، كانت هذه النظرة سببًا في الكثير من الأزمات، أذ أصبح رفض أي مشروع له، يعني انتقاصًا من قيمة ولي العهد المنتظر، والتصدي لأي من طروحاته يعني تطاولًا على العهد، ما جعله في النهاية يتعامل مع اللبنانيين بفوقية مقززة لهم، لدرجة أنه هاجم، سائر المكونات الطائفية في لبنان؛ الشيعة، والدرزية، والحريرية السياسية، وكان يهدف دائمًا إلى إعادة الصلاحيات والامتيازات لطائفة المارونية السياسية.
اتخذ جبران من المقايضة سلاحًا له في فرض مشروعه على الجميع، نفوذ “حزب الله”، مقابل الدفاع عنه، وتمرير مشروعات تيار المستقبل، مقابل الموافقة على بياض ودون نقاش على كل ما يقترحه من مشاريع، حتى الجيش اللبناني، طُلب منه عدم الاعتراض تمامًا على تصرفاته، مقابل اغفال دوره في الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك تعامل بنفس الحبكة مع وليد جنبلاط، فالصمت مقابل تمرير ما يريد.
ماذا في جعبة “عدو المهاجرين” للعودة؟
مع تزايد الاحتجاجات ضده، والتعريض به وبسمعته السياسية والمالية في الساحات والميادين، ومحاولة إفشال تصعيده للرئاسة، اتبع جبران تكتيكًا مختلفًا، وأصبح يتجنب تمامًا الإجابة عن أي سؤال، يتعلق بما يثار عنه في الشارع، حيث لم تشهد كل مؤتمراته الصحافية التي دعا إليها منذ بداية انتفاضة تهدف للقضاء على النظام الطائفي، ــ الذي هو أحد رموزه ــ أي مساحة للحوار حوله، وكان يكتفى فقط بالدقائق التي يلقي فيها بياناته ثم ينصرف على الفور.
ورغم نجاح هذا المخطط في رد التوتر لمعارضيه، إلا أن أكثر ما يزعج وزير الخارجية ويعطل له خططه، صلابة موقف الثوار في الشارع، التي فجرت صراعات وخلافات شرسة حتى داخل التيار الوطني الحر، وتكتل لبنان القوي، اللذين يرأسهما، وأصبحت بعض الأصوات القيادية تؤيد من يفترشون الشوارع.
وصلت الأزمة في التكتل، والاختلاف على سياسة وزير الخارجية، إلى إندلاع صراع شرس ــ بالتأكيد له جذور قديمة ــ في قصر الرئاسة نفسه، بين باسيل والعميد شامل روكز، صهر الرئيس أيضًا، هو ضابط متقاعد من الجيش اللبناني، والذي يقاطع حاليًا اجتماعات التكتل، ويطالب بالانصياع لصوت الشارع.
المثير أنه رغم هذه المعطيات المعقدة، تتوقع الصحافة اللبنانية، استمرار باسيل، إما بسبب الصراع السياسي الدائر، أو لعلاقات وزير الخارجية واقترابه من الرئيس عون ودعم الأخير المفتوح له، وتحالفه مع حركة أمل و”حزب الله”، والأخير يضع “ڤيتو” لأي تحالف جديد، ويفرض عليه تواجد التيار الوطني الحر، برئاسة باسيل، ما قد يساهم في إعادة تعويمه، على أن يتم تقديمه بطرق شتى للجماهير، بعد إيجاد حل يخفف من حدة النفور الشعبي تجاهه، وكانت أول حلقاته، إعلان الوزير جبران نفسه، عزوفه عن المشاركة في الحكومة المقبلة، ما سيساهم بشكل أو بآخر بالتخفيف من حدة الفورة الشعبية تجاهه.
يظهر باسيل في خطاباته الأخيرة متعاطفًا مع الشارع، ومؤيدًافي الكثير من خططه لإزاحه الساسة عن الحكومة القادمة، سواء لدغدغة مشاعر مناصريه، في الشارع المسيحي، أو على مستوى حلفائه، خاصة أنه استغل جيدًا، الطعنة التي يشعر بها “حزب الله” والرئاسة اللبنانية من سعد الحريري، بعدما حاول تنصيب نفسه زعيمًا، يعبر عن توجهات الشارع، الرافض للقوى السياسية، وهو وحده دون غيره، الذي يمكنه إعادة تشكيل الخارطة السياسية، بما يخدم توجهاته ومصالحه، هو وتيار المسقبل.
فرغ باسيل نفسه على مدار الأسبوعين الماضيين للطعن في الحريري، وكلما خرج في الإعلام، أكد أن استمرار السياسات الاقتصادية القائمة على الاستدانة ورفع قيمة الفوائد وزيادة الدين العام، لن يستفيد منها حصرًا إلا الأثرياء والبنوك، وفي الوقت الذي يفضل وزير الخارجية عدم الرد على التهم الموجهة إليه، يعتبر أن شيوع الفساد في لبنان، يضرب ما أسماه “الحس النقدي لدى اللبنانيين” حتى صاروا غير قادرين على التمييز، فتساوى المفسدون مع غيرهم، حسب تعبيره!