يعتبر دارسو الشرق الأوسط، أن حركة التاريخ والحكم في سلطنة عمان، ما هي إلّا تداعٍ لدورة الاستعمار الخارجيّ في منطقة الخليج، خاصّة بعد اكتشاف المسارات البحريّة، واستخراج النّفط، حيث دأب الحال أن تتعرضَ السلطنة إلى تهديداتٍ خارجيّة نوعيّة، تتزامن مع حالة ضعفٍ في البُنى الداخليّة، لا يستطيعُ إنهاءها إلّا قائد عسكريّ، تتوحّد القبائل خلفه؛ فتدين له – ولعائلته – البلاد والعباد.
في مطلع القرن السادس عشر، عرف الأوروبيون ما يُطلق عليه “طريق رأس الرجاء الصالح”، وهو الطريق الذي يمكنه أن يربطَ القارة المسيحية ببلاد القارة الآسيوية، عبر القارّة السمراء، وتحديدًا جنوب أفريقيا. فكان ذلك – على أهميته – وبالًا على السلطنة المزدهرة تجاريًا، والتي كانت حلقة الوصل بين كثير من المعابر البحرية الإستراتيجية حينها.
قررت الإمبراطورية البرتغالية غزو عُمان، التي كانت محكومةً من الدولة النبهانيّة (أزد اليمن) آنذاك. وكعادة كلّ احتلالٍ، دمر الأسطول البرتغاليّ ساحلَ عمان وموانئها عام 1507، تمهيدًا لإحكام السيطرة على تلك البلاد التي طالما كان البحر متنفسًا لها، ولا تذكر إلا مقرونةً ببحارتها العظام، كأحمد بن ماجد.
جذور البوسعيدية
وبعد نحو سبعين عامًا من الاحتلال البرتغاليّ وتهاوي بُنيان الحكم النبهانيّ، أفرزت عُمان – كعادتها – بطلًا أخذ على عاتقِه تحرير البلاد؛ فكان “ناصر بن مرشد اليعربيّ”، الذي نجح في استعادة عدد من الموانئ والمدن المسلوبة، على رأسها “صحار”، وأجبر البرتغاليين على دفع الجزية مقابل ما يستخدمونه من الموانئ والقِلاع، فيما يشبه “عقود الانتفاع” في العصر الحديث. ولكنه مات، قبل أن يطرد الحملة البرتغالية عن بلاده، مسلّمًا الراية لابن عمه البطل، سلطان بن سيف اليعربيّ، الذي سار على نهج “ناصر”، وأكمل المَهمّة، معلنًا قيامَ دولة “اليعاربة” 1642، وطردَ آخر البرتغاليين في معركة “طوي الرولة” 1648.
وفي خضم استقرارٍ طويل وحالةٍ من الرّاحة والدّعة، فوجئ العُمانيون بمُحتَلّ جديد، لم يكن منهم ببعيد (الفرس)، الذين كادوا يستحوذون على الدولة اليعربيّة بأكملها، مستغلين ضعفَ الحالة الداخليّة، لولا حنكةُ أحد مُساعدي الإمام سلطان بن سيف، الذي وصل إلى اتفاقٍ سياسيّ معهم، يقضي باستغلالهم بعضَ المقدرات العُمانيّة في مسقط الساحليّة، ودفعِ الخراج السنويّ، نظير عدم الدخول في حربٍ، كان العمانيون يعلمون أن عواقبها ستكون وخيمةً. كان هذا الشابّ تاجرًا من صحار، يدعى “أحمد بن سعيد البوسعيديّ”.
نشأة الدولة البوسعيدية
استشعر وجهاء القبائل العُمانيّة أنهم في حاجةٍ إلى قائدٍ يعيد توحيد البلاد، الّتي سرعان ما تتشظّى، بين الداخل والساحل، كلّما تعرضت لضغوطٍ خارجيّة. وإذا كان مناط الحكمُ بيعةً واتّفاقا، وما دامتِ الدولة اليعربيّة غير قادرةٍ على دفع المحتلّ، فلِم لا نتحد خلف رجلٍ، قد يخلّصنا من المحتلّ، ولو كان اتحادًا مؤقتًا؛ خاصّة أننا عرفنا ذكاءه في التجارة، وخبرته في السياسة، حينما جنّبنا قتال الفرس في أضعف حالاتنا؟
استغلّ السلطان الجديد أحمد بن سعيد وقوف القبائل العمانية خلفه، وبدأ يكرّس هذه الحالة عبر إرسال الوفود السلطانيّة لتلك القبائل التي لا ترحّب بقدومه، مستخدمًا “المصاهرة” أداةً لتذويب الضغائن
كان هذا لسان حال المكوّن القبليّ العمانيّ، قبل أن يهبّ لبيعة البوسعيدي المؤسس، والي صحار، أحمد بن سعيد. فبايعهم وبايعوه عام ١٧٤١ م؛ حيث يعتبر هذا العامّ تاريخًا فاصلًا في عمر السلطنة.
استغلّ السلطان الجديد وقوف القبائل العمانية خلفه، وبدأ يكرّس هذه الحالة عبر إرسال الوفود السلطانيّة لتلك القبائل التي لا ترحّب بقدومه، مستخدمًا “المصاهرة” أداةً لتذويب الضغائن، عندما تزوّج فتاةً من “اليعاربة”، ثمّ بدأ يفعّل معادلة “التجارة بالتجارة”، استنادًا إلى حقيقةِ بُعد “الجغرافيا الاقتصادية” في تحديد الصراع مع الفرس.
فتح أحمد بن سعيد ميناء “بركاء” البحريّ، معلنًا أنه لا رسومَ على البضائع القادمة إلى الميناء من الخارج؛ فعزفت البضائع الواردة عن الرّسوّ في ميناء “مسقط” الواقع تحت سيطرة “الفرس”، فيما يشبه الحصار البحريّ، مقابل استمراره في الوفاء بوعده ودفع الخراج السنويّ.
وفي أحدِ الشهور التي ينبغي للعمانيين خلالها دفع الخراج السنويّ، قرر البوسعيديّ أنه لا خراجَ بعد اليوم. في الحقيقة، كان البوسعيديّ يعلمُ أن مضمون هذه الرّسالة هو الحرب، كما كان يعلم الفرسُ ذلك. فدخل الخصمان في حربٍ، مالت كفّتها لصالح السلطان أحمد، الذي طرد الحامية الفارسيّة بقيادة نادر شاه.
الفترة الذهبية
وبالرّغم من كونِ الوجود البريطانيّ إلى منطقة الخليج أوائل القرن التاسع عشر، كوريث شرعيّ للإمبراطورية البرتغالية، وبالا حقيقيًا. إلا أن السلطنة، كانت تعيش فترتها الذهبيّة تحت حكم سعيد بن سُلطان البوسعيدي، الذي استقرت له السلطنة بعد فترة احتراب بين عمه سعيد بن أحمد، وأبيه سلطان بن أحمد، أنجال أحمد المؤسس.
يحكي لنا التاريخ قصةً تمثّل في جوهرها تجسيدًا للهُوية العمانيّة بشكل عامّ، ولفترة حكم سعيد التي امتدت 50 عامًا من 1806 إلى 1856. ففي مايو/ آيار 1840 حطّت أوّل سفينةٍ عربية شراعيّة (السلطانة)، من أحد الموانئ العمانية في “زنجبار”، وهي سفينة بناها البرتغاليون، بإيعاذٍ عمانيّ، في الهند، بعد أن قطعت آلاف الأميال البحرية في رحلة استمرت 3 أشهر، عابرةً المحيط الأطلسي، إلى الساحل الشرقيّ للولايات المتحدة، في مرفأ نيويورك، محملةً بالخيول العربية والذهب والرقيق؛ حيث كان في استقبالها كبار رجال الدولة في الولايات المتحدة حينها.
ولكن هذه الفترة التي سيطر فيها “أسياد البحار” على معظم شرق أفريقيا، من الصومال شمالا إلى موزمبيق جنوبا، وبعض من ساحل الخليج، وأجزاء من الهند وإيران، واستقرّت علاقتهم مع العالم الخارجيّ كقوةٍ لها هيبتها – وإن كانت تميل إلى بريطانيا بطبيعة الحال – قد تبعها ما يزيد على القرن من الانحسار الشديد، والاقتتال الداخليّ، بفعل النفوذ البحريّ البريطانيّ، والتوترات العالمية، التي أثرت سلبا على عُمان، في عهد تركي “نجل سعيد”، وفيصل، وتيمور، وسعيد. ولم تستقرّ الأوضاع إلا في عهد “قابوس”، السلطان الثامن مؤسس عمان الحديثة.
سعيد بن تيمور
لا يمكن فهم اللحظة القابوسيّة بتحالفاتها السياسيّة المحيّرة أبدًا بمعزل عن ملابَسات حكم والده سعيد، كما لا يمكن – في نفس الوقت – الاعتمادُ على التاريخ الرسميّ في فَهم حقيقة انتقال السلطة من سعيد إلى قابوس 23 يوليو 1970، حيث لا يزال الأرشيف البريطانيّ يحتفظ بالكثير من أسرارها المحجوبة.
ولكن المؤكد أن سعيد بن تيمور قد تسلّم البلاد عام 1932ممزّقة، بعد أن أنهك المتمرّدون الإباضيّة والده فيصل في معارك دعّمت فيها بريطانيا السلطان، وقد أسفرت هذه الحقبة عن تقسيم البلاد فيدراليًا، بين الداخل والساحل، بموجب اتفاقٍ رعته بريطانيا عام 1920. تولّت بريطانيا الحماية على عُمان منذ 1871. كما تسلّمها منهكةً من الديون التي أثقلتها نتيجة هذه الحماية ومشاركة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى.
ويخبرنا التاريخ الشعبيّ العمانيّ في كثير من الوقائع أن سعيد لم يكن على وفاقٍ شخصيّ مع بريطانيا، حتى أنه منح امتياز التنقيب على النفط في واحة “البريمي” الحدوديّة إلى إحدى الشركات الأمريكيّة فور وصوله إلى الحكم، عام 1933، بدلا من الشركات البريطانية.
وقد عاد التمرّد الداخليّ ضده منذ عام 1940، حينما قُتل والي “مرباط”، بظفار حيثما كان كان يقيم السلطان، على يد قبيلة تعرف بـ”آل عمر”، فتزوّج بامرأة من هذه القبيلة، المعشنيّة الكحليّة القحطانيّة، كما تزوج سيدة تدعى “ميزون بنت أحمد” أنجبت له “قابوس” في نفس العام. فيما أدّت سياساته “المحافظة” تجاه الحياة المدنية، وإصداره ما يعرف باسم “قانون الممنوعات” إلى زيادة الأزمة الاقتصادية وإشعال جذوة التمرّد الداخليّ.
وفي عام 1952، تعرضت واحة “البريمي” النفطيّة إلى غزوٍ خارجيّ، ولكن من شبه الجزيرة العربيّة هذه المرة، من السّعوديّة. ولم ينجح السلطان في إخراج السعودية التي دعّمت تمردا محليا في هذه الواحة بقيادة الشيخ “غالب بن علي الهنائي”، إلا عندما ساعدته بريطانيا 1955، فهرب “غالب” إلى السعودية لاحقًا، معلنا تشكيل حكومة منفى، بالتزامن مع خسارة السلطنة جزيرتها الإستراتيجية شرق أفريقيا، زنجبار (أندلس عمان) 1964، على يد بعض المتمردين الأفارقة المدعومين من الخارج.
ومع ظهور الحركات الشيوعية واليسارية، وتنامي تيار القومية العربية، دعمت كل من روسيا والصين ومصر واليمن والعراق وليبيا، تمردا عسكريًا واسعًا في ظفار غربيّ البلاد على الحدود مع اليمن، يهدف إلى إنهاء “الاستعمار البريطاني” واستقلال الإقليم عن السلطنة بالكامل؛ وهو ما أدى إلى إحكام الحصار على الملك المنعزل عن العالم في قصره بصلالة.
سئمت بريطانيا من السلطان الهشّ، وقررت أن تدفع بنجله الوحيد الذي خدم مع قواتها في ألمانيا الغربية بعد ما أنهى دراسته العسكرية في الأكاديمية الملكية “ساندهيرست”، فوصل “قابوس” إلى البلاد عام 1965، وبحلول 1970، كان قد رتب انقلابا ناعما على والده، الذي سافر إلى بريطانيا، ولم يُسمح له بلقاء الإعلام أو كتابة مذكراته إلى أن توفي 1972.
سُلطة مُطلقة
بحلول عام 1975، كان قابوس قد أنهى التمرّد الشيوعيّ غربي البلاد، بمعاونة أعداء الخليج التقليديين، إيران، معلنًا توحيد البلاد في سلطنة واحدة مجدداً عام 1976. كما ساهمت سياساته “الانفتاحيّة” في الداخل، وارتفاع أسعار النفط، في زيادة عدد المدارس والمستشفيات وتطوير البنى التحتية والدفع نحو التحديث الشامل؛ وذلك بعد ما تسلّم البلاد من أبيه بـ 3 مدارس ومستشفيين فقط.
ضمن موجة الربيع العربيّ؛ لا يزال قابوس مسيطرًا على الجيش والشرطة والمالية، وتعيين الحكومة، ويحظر إنشاء الأحزاب السياسية، وقد حكم الخمسين عامًا بهذه السلطة المطلقة.
ورغم دفعه تجاه بعض الإصلاحات، كإنشاء مجلس الشورى 1991، وإرساء النظام الأساسيّ (الدستور) عام 1996، ومنحه مجلس الشورى المؤلف من 88 عضوًا صلاحياتٍ تشريعية وانتخابية عقب المظاهرات التي خرجت للمطالبة بإصلاحاتٍ اقتصاديّة وسياسيّة عام 2011 ضمن موجة الربيع العربيّ؛ إلا أن قابوس لا يزال مسيطرا على الجيش والشرطة والمالية، وتعيين الحكومة، ويحظر إنشاء الأحزاب السياسية، وقد حكم الخمسين عاما بهذه السلطة المطلقة.
وتخبرنا نهى عزت، باحثة في الشأن العمانيّ من خلال ورقةٍ علمية محكمة، أن الخطّ الخارجيّ غير المفهوم للسُلطان قابوس، الذي قد يجمع بين إسرائيل وإيران في نفس الوقت، والنهج التصالحيّ للسلطنة، الذي يُعزى اعتباطًا لغلبة المكوّن الإباضيّ (لا سنة ولا شيعة)، ويُفسَر خطأ باعتباره منزوع الدسم؛ إنما يُمثل في الحقيقة أثرا لتوتر علاقتها مع الدول العربية والاتحاد السوفيتيّ منتصف القرن الماضي، وامتدادا لعلاقتها المتميزة مع الإرث البريطانيّ، الذي انتقل إلى الولايات المتحدة لاحقًا، لدرجة أنه ذهب معها إلى جنوب آسيا، حيث لا تزال السلطنة محتفظةً بعلاقة إستراتيجية مع الهند، مقابل أخرى “فاترة” مع الحليف المقرب للخليج؛ باكستان.
ما بعد قابوس
بلغ السلطان قابوس عامه الثمانين، وقد بدأت الأقاويل تتناثر حول تدهور حالته الصحيّة، حيث استمرّت رحلته العلاجية الأولى إلى ألمانيا نحو 8 شهور، فيما قضى في رحلته الثانية عام 2016 قرابة شهرين، كما عاد مؤخراً من رحلة علاجية جديدة في بلجيكا.
وتدندن التكهّنات على وتر إصابته بأحد السرطانات، الذي يُرجح أنه “سرطان القولون”.
وقد جرى العرف العمانيّ ألا يُعيّن السلطان نائبًا ولا وليا للعهد، وإنما يترك وصيةً في خزانته، لا تُفتح إلا بعد موته. ووفقًا للمادة السادسة من النظام الأساسي، فإن مجلس العائلة الحاكمة يجتمع عقب 3 أيام من وفاة السلطان، لاختيار من يخلفه. وإذا لم يستطع مجلس العائلة الاستقرار على أحد أعضائه لخلافة السلطان، فإن مجلس الدولة المؤلف من 8 أشخاص، هم قادة المؤسسات الأمنية والقضائية والتشريعية يتولى تنفيذ وصية السلطان. ويرأس هذا المجلس حاليا سلطان بن محمد النعماني، رئيس المكتب السلطاني.
ونظرًا لأن المادة الخامسة من النظام الأساسي تنص على كون الحكم وراثيًا، ذكوريًا، من ذرية تركي بن سعيد بن سلطان، وبنوّة أبوين عمانيين. وبينما لا يمتلك السلطان – الذي لم ينجب من زوجته الوحيدة – إخوة أشقاء؛ يرجح أن تؤول السلطنة إلى أحد أبناء أعمامه، حيث يبرز اسم “أسعد بن طارق بن تيمور آل سعيد” (67 عامًا) مرشحًا بقوة، بسبب مصاهرته السابقة للسلطان عبر أخته نوال (طلّقت لاحقًا)، وعمله كممثل للسلطان 2002، ونائبا لرئيس مجلس الوزراء منذ 2017، وخدمته في الجيش، ودراسته في كلية الأمراء العسكرية “ساندهيرست”، وصولًا إلى قيادته لسلاح المدرعات، وتشعّب علاقاته الخارجية، وخبرته السياسية.
ويأتي خلفه إخوة مرشحون أقلّ حظوظًا، على غرار هيثم بن طارق بن تيمور (66 عامًا)، الذي يمتلك خبرات مدنية في وزارة التراث والثقافة، وأمانة وزارة الخارجية، وقد اختصّه السلطان مبعوثا لحفل الزفاف الملكي البريطاني. وشهاب بن طارق، الذي كان قائدًا للبحرية حتى 2004، ويعمل رئيسا لمجلس البحث العلمي.
ثم يحلّ من بعيد نسبيًا كل من فهد بن محمود آل سعيد، رئيس مجلس العائلة، الذي يعتبر أكثرهم خبرة في العمل المدني، وأرفعهم تعليمًا (درس القانون في جامعة السربون)، ولكن فرصه تضعف لانحداره من فرع بعيد عن السلطان، وتزوجه من فرنسية، واقترابه من التحالف الخليجي، وكبر سنّه. كذلك، تيمور بن أسعد بن طارق (٤٠ عامًا)، أبرز مرشحي الجيل الثاني، أمين عام مجلس البحث العلميّ، ورئيس بنك العز الإسلامي وأحد المقربين من السلطان. وقد رشح السلطان شخصين لخلافته بالفعل، حسبما قال في لقاءٍ صحفيّ عام 1997.