يقولون في أنطولوجيا العربيّة إنّ الأفعال قد لا يمتدّ أثرها على مفاعيل معينة، ولكنّ المقطوعٌ به أنّ الأفعال لابدّ لها من فاعلين. وبالمثل، في علوم السّياسة والاجتماع، فإن المشاريع والتصوّرات لا تنشأ من فراغ أبداً، وإنّما تنشأ لتبنّيها من قبل بعض الفاعلين، الذين يرون إمكانية تطبيقها وإنزالها على الواقع.
ومن هذا المنظور، بات من الضروري تسليط الضوء على التجربة الإماراتيّة، الفاعلين والجذور والمخيال والمقوّمات، وإخضاعها للدراسة والنقد والتمحيص، خاصّة بعد أن ألقت هذه التجربة بظلالها على المنطقة جمعاء في الآونة الأخيرة.
الجذور: بين الموارد وتاريخ الاستعمار
يُعزى تاريخ الإمارات المعاصرة إلى ذلك المكوّن الاجتماعيّ القبليّ، الّذي قسّمته الجغرافيا الاقتصادية منذ القرون الوسطى إلى قبيلتين أساسيّتين، تبلورتا عند السواحل (القواسم) حيث يمكن العمل في الصيد والتجارة، والواحات الداخليّة حيث يمكن العمل في الرعي والزراعة (بني ياس). ثم تفرّع من هذا المكوّن القبليّ الداخليّ – البالغ حينئذ ٨٠٠ شخصًا – عددٌ من العشائر الّتي أعادت اكتشاف موارد الإمارات القديمة، فوضعت عشيرة “آل بو فلاح”، التي تتفرّع منها عائلة “زايد آل نهيان” موطئ قدم لها في “أبو ظبي” عام ١٧٦١، وعرفت عشيرة “ال بو فلاسة”، التي تنحدر عنها عائلة “آل مكتوم” مدينةَ دبيّ الساحليّة الّتي نعرفها اليوم.
ولكنّ هذه الموارد المبشرة كان يتربّص بها “الجيوبولوتيك” ممثلا في العدوّ الأكبر حينها: “بريطانيا العظمى”، والّتي شنّت بالفعل سلسلةً من الغارات البحريّة على امتداد السّاحل (القواسم) لمدّة عشرة أعوام منذ نهاية العقد الأول من القرن التّاسع عشر، بهدف إخضاع هذا الخليج الواعد لسيطرتها السّياسيّة، وتأمين رحلاتها البحريّة من أوروبّا إلى مستعمراتها الهنديّة جنوب آسيا؛ وهو ما حدث بالفعل.
مقابل نيلهم الحماية البريطانيّة.. حيث رضيت هذه القبائل المهزومة ببعض التجارة المحدودة في الزراعات الساحلية وصيد الأسماك؛ فأطلقت عليهم بريطانيا اسم “الساحل المتهادن” أو “الإمارات المتصالحة”.
وقد ارتأت بريطانيا العظمى – بعد إلحاق الهزيمة العسكريّة بالساحل الإماراتيّ – أن تقومَ بتنظيم العلاقة السياسيّة والإداريّة مع هذه المدن البحريّة عبر عددٍ من الاتفاقيات والمعاهدات الّتي أُبرمت مطلع القرن العشرين، بهدف ضمان أمن الملاحة البريطانيّة، ومنع القبائل الإماراتيّة المرابطة على امتداد السّاحل من التّحالف مع أيٍ من القوى الأخرى، وتحجيم القدرات العسكريّة لهذه القبائل، بل وقصّ ريش أبنائها الطامحين للاستقلال؛ مقابل نيلهم الحماية البريطانيّة.. حيث رضيت هذه القبائل المهزومة ببعض التجارة المحدودة في الزراعات الساحلية وصيد الأسماك؛ فأطلقت عليهم بريطانيا اسم “الساحل المتهادن” أو “الإمارات المتصالحة”.
وخلال هذا القرن الذي فرضت فيه بريطانيا سيطرتها على الساحل بالقوّة تارةٍ وبالسياسة تارة أخرى (١٨)، كان هذا الساحل الخاضع يتلظى بنار الطّمع في السلطة الداخلية، حيث انحسر التزام بريطانيا تجاهه في ضمان عدم وصول أيٍ من أعدائها إلى الحُكم أو تمدد آثار حكمه إلى تهديد مصالحها الإستراتيجية في المنطقة؛ فرأينا عشرات الاغتيالات، بين أبناء الأسرة الواحدة، وفي المدينة الواحدة، من أجل الاستيلاء على السلطة، بمجرّد اكتشاف المدينتين الجديدتين.
ويرجعُ الفضل في ذلك إلى “هزاع بن زايد” الذي قصّ شريط الخيانة بإطاحته بشقيقه “ذياب بن عيسى”، أول حاكمٍ لأبو ظبي، ١٧٦١، إلا أن السلطة لم تدم له طويلا، إذ تآمر عليه نجله “شخبوط بن ذياب” ١٧٩٣، والذي أطاح به هو الآخر لاحقا نجله “محمد بن شخبوط” عام ١٨٣٦. ولم تتوقف هذه الفوضى في الإمارات غير المتصالحة إلّا بدايةً من عام ١٩٦٦، عندما ما تولى الشيخ “زايد بن سلطان آل نهيان” زمام أبو ظبي، خلفًا لأخيه الشقيق “طحنون بن سلطان آل نهيان”، الذي دعّمت بريطانيا الإطاحةَ به، بسبب توجهاته المتعارضة مع مصالحها المباشرة.
لماذا الشيخ زايد؟
توافر في حقبة الشيخ زايد ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية بـ”الشروط الموضوعية” التي ساعدته على وقفِ إنهاك هذه الإمارات، وجعلِ فترة حكمه مرحلة فاصلة بين تشرذم العصور الوسطى واستقرار التحديث. فبالإضافة إلى شخصيّته المعتدلة وقبوله بريطانيًا، كانت لندن قد رأت أن أفضل حلّ للحدّ من خسائر خروجها من الخليج بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية، ولحمايةِ الاكتشافات النفطية التي بدأت تظهر في هذه المنطقة منذ مطلع الستينيات، هو انضواء إمارات الساحل المتهادن في دولةٍ سياسية واحدة.
ولكن تخبرنا الدراسات أن أبو ظبي، رغم بداية تصدير النفط عام ١٩٦١، وحتى وصول الشيخ زايد إلى سدة الحكم، كانت “إمارة منكوبة بالفقر. مجرد قرية ساحلية يبلغ عدد سكانها ٤ آلاف نسمة، تعتبرها بريطانيا في المرتبة الثالثة بعد دبي والشارقة، وتدير علاقتها السياسية معها عبر وكيلها في دبيّ، ثم ترفعها إلى القيادة المركزية في البحرين؛ حيث كانت كل من قطر والبحرين جزءا من إمارات الساحل المتهادن آنذاك”.
لهذا السبب وأسبابٍ أخرى مشابهة، رفضت قطر والبحرين الانضواء في إطارٍ سياسيّ موحد تحت قيادة أبو ظبي، رغم انخراط الدولتين مع باقي الإمارات في اتحاد مؤقت عام ١٩٦٨ برئاسة الشيخ زايد آل نهيان ووزارة الأمير حمد بن جاسم من قطر لمدة عامين. وقرر البلدان الاستقلال عام ١٩٧١. فيما وافقت ست إمارات، هي أبو ظبي ودبي والشارقة والفجيرة وأم القيوين وعجمان، على الاتحاد معًا بموجب دستور مؤقت يعطي السلطة والعاصمة ورئاسة المجلس الأعلى لحاكم أبو ظبي لمدة ٥ أعوام، ويمنح رئاسة الوزراء للشيخ راشد آل مكتوم حاكم دبيّ، في نظام شبه فيدراليّ، بدءًا من ديسمبر ١٩٧١، حيث لم يتجاوز عدد سكان الإمارات حينها ٢٠٠ ألف نسمة. فيما انضمت “رأس الخيمة”، التي اقتطعت إيرانُ ثلاث جزر منها قبل يومين فقط من خروج بريطانيا الرسمي وإعلان الدولة، لاحقًا لهذا الاتحاد.
لم تنتهِ الخلافات بمجرّد تولّي الشيخ زايد آل نهيان حكم الاتحاد، بل يمكن القول إنها بدأت وتشعّبت، حيث كان بعضها متعلّقًا بالصراع على السلطة قبل تأسيس الدولة، على غرار محاولة الشيخ صقر بن سلطان القاسمي، أحد حكام الشارقة المعزولين أيام الإنجليز، اقتحام قصر ابن عمه خالد بن محمد القاسمي عام ١٩٧٢ بإيعاذٍ من حكام رأس الخيمة. وبعضها الآخر ارتبط بإرهاصات التأسيس ورغبة كلّ إمارةٍ في الاستئثار بالقرى الحدوديّة الغنيّة بالموارد الطبيعية مثل الاشتباكات المسلحة التي جرت بين إماراتي الشارقة والفجيرة ١٩٧٤ على ملكية قرية “دبا”. كما ظهرت صراعات جديدة بسبب رغبة زايد المؤسس في تذويبِ باقي الإمارات داخل الاتحاد واعتمادِ دستور دائم بعد نهاية فترته الأولى عام ١٩٧٦، كان أبرزها مع “دبي” التي اعترض حاكمها الشيخ راشد على إنشاء قوة مسلحة موحدة تتبع “سلطان” نجل الشيخ زايد، بدلا من وزير الدفاع “محمد بن راشد”.
ومع ذلك، فقد نجح زايد المؤسس في إدارة هذه الصراعات المتوقعة حينها على أساس مقولته الخالدة “إصلاح ذات البين”، فكان يلجأ إلى الحلول الوسطى والسلمية. وقد اتفق مع باقي الإمارات على مشاركة تدريجية في الإدارة الاتحاديّة، حتّى استطاع تأسيس دستور دائم للبلاد عام ١٩٩٦. كما حافظ على هذا النهج في السياسية الخارجية، وهو ما أكسب البلاد في عهده سمعةً طيبةً تجوب الآفاق العربية إلى الآن. وقد ساعدت الاضطرابات الإقليمية التي اندلعت مع الثورة الإيرانية في تعزيز النزعة الاندماجية بين الإمارات السبع، حتى توفي الشيخ زايد ٢٠٠٤، وتولّى نجله خليفة، ولي عهد أبو ظبي، بانتخابٍ من المجلس الأعلى للاتحاد.
بين خليفة ومحمد بن زايد
كان وصول الشيخ خليفة، الابن الأكبر للشيخ زايد للحكم من زوجته “حصة بنت محمد”، إيذانًا بتحوّل نوعيّ في مسار السّياسة الإماراتيّة، بل وفي هوية الدولة ونظرتها إلى نفسها. حيث بدا أن هنالك رغبةً كامنة داخل البيت الإماراتيّ، خاصّة أبو ظبي، لأن تحلّ “السياسة الخشنة” محلّ شعار “إصلاح ذات البين”، وأن يحلّ مخيال “إسبرطة العصر الحديث” مكان “سويسرا الشرق”. ويعزو أحمد مولانا، الباحث في الشؤون الأمنيّة، هذه النزعة الجديدة، التي تخالف قيم الآباء المؤسسين، إلى صعود تيار ينتمي إلى مجال السياسة الواقعيّة، وينظر إلى الاقتصاد والأمن كقاطرةٍ للسياسة؛ خاصّة بعد أن استقرّت الدولة ومرّ على تأسيسها ٣٠ عامًا.
ولكنّ الغريب في الأمر، أن هذه النزعة الثورية لم يقودها الشيخ خليفة كما كان منتظرًا، وإنما بدأ فرع آخر، هو فرع السيّدة فاطمة بنت مبارك الكَتبيّ، زوجة الشيخ زايد التي أنجبت له ٨ أبناء من أصل ثلاثين، يعيد ترتيب البيت الرئاسيّ، بقيادة ابنها الأكبر “محمد بن زايد”، التي احتالت لتعيينه “نائبًا لولي العهد” قبل وفاة الشيخ زايد بأيامٍ قليلة. كما بدأت تُنسب إليه العودة إلى سياسة الاغتيالات عبر التدبير لقتل بأخوته غير الأشقاء (إخوة الشيخ خليفة)، سُلطان وأحمد وناصر، حيث يُعاقَب بالسجن ومصادرة الأموال أو بالإقامة الجبريّة كلّ من يحاول فتح ملفات موت الأشقاء الثلاثة؛ بل ووصل الأمر إلى تحييده الشيخَ خليفة، رئيس الدولة الشكليّ، الذي ترك – لسبب ما – إدارة البلاد لمحمد، ولم يظهر منذ ٥ أعوام إلا ثلاث مرات في مناسباتٍ هامشية؛ لصالح إخوته الأشقاء: عبد الله، وطحنون، ومنصور، وهزاع، وحمدان؛ الذين يتغلغلون في مفاصل الدولة.
وقد أدى عام ٢٠١١ الذي شهد اندلاع الربيع العربي إلى تسارعٍ في تنفيذ مخططات بن زايد الاستبدادية، وذلك بعد استشعاره اقترابَ وصول قطار التغيير إلى أبو ظبي؛ حيث بدأت حينها المطالبات الشعبية بالإصلاح تترى فوق رأسه، والتي كان أهمها “عريضة الإصلاحات” التي وقع عليها عشرات الأكاديميبن والباحثين والحقوقيين مارس/آذار ٢٠١١، للمطالبة بتحديثات تمنح الشعب الحق في العمل السياسي، ومراقبة السلطة، من خلال مجلس وطنيّ منتخب، له الصلاحيّة في الرقابة والتشريع، بدلًا من الترقيع الشكلي الذي حدث عام ٢٠٠٦ بالسماح بانتخاب ٢٠ من أصل ٤٠ عضوًا؛ دون السماح بتشكيل الأحزاب، أو إجراء رقابة دولية على الانتخابات.
وبدلًا من الاستجابة إلى هذه المطالب، مضى بن زايد، المسنود من أسرته الحاكمة والمتكئ على الملايين من براميل النفط والغاز، في مشروع تحويل الإمارات إلى معقلٍ للأمن والمراقبة والتجسس، باعتقال كل الأصوات الّتي فكرت يومًا في التغيير، ودعم مخططات وأد الربيع، متشحًا بثوب محاربة الأصولية، سُنية كانت أو شيعية، ومدعومًا ببعض علماء “الوسطيّة”، معلنًا أنه ليس ثمة إلا خريف إماراتي. ومنذ عام ٢٠١١، استحدث بن زايد عددًا من القرارات والمؤسسات الداخلية التي تدين له بالولاء الشخصيّ وتُعنى بمكافحة التمرد وتوطين الخبرات الأجنبية في مجال العسكرة، مثل إدارة الحرس الرئاسي فبراير ٢٠١١، وكلية الدفاع الوطني أغسطس ٢٠١٢، حتى قرب عينه بمشهد ركوب رجله في مصر عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري يوليو ٢٠١٣، ورؤية الكوادر العسكرية المحلية بنفسها في الميدان باليمن وليبيا.
لم تنته الحكاية
لم يستتب الوضع لبن زايد بالكامل حتى الآن، ولا يبدو أن الأمور تسير في الاتجاه المأمول كليًا. فبالرغم من زجّه بكل أشقائه في مفاصل الدولة، يبدو أن النزاع القديم مع “دبي” وعائلة راشد يُطبخ على نار هادئة. يخبرنا أحمد فريد أن هذا النزاع في حقيقته “بنيويّ” وليس عائليًا أو تاريخيًا فحسب، حيث “تعدّ أبوظبي الإمارة الأكبر جغرافيا بـ٨٧٪ من مساحة الدولة، كما تمتلك ٩٥٪ من حصة الدولة النفطية، بإنتاج يومي يصل إلى ٣ مليون برميل، وصندوقا للاستثمار تتخطى أصوله ٧٧٠ مليار دولار، فيما لا يتجاوز إنتاج دبي حاجز ٧٠ ألف برميل”. ولكن يبدو أن هذه الفجوة البنيوية قد تمظهرت على هيئة خلاف عائلي لأسباب تاريخية، منها تفضيل الشيخ محمد بن راشد المصاهرة مع ملك الأردن عبر الزواج من أخته “هيا”، بعد أن وعد “اليازية” بنت زايد، شقيقة محمد بن زايد، بالزواج في مرحلة متقدمة من العمر.
وتشعر عائلة آل مكتوم، التي طالما وظّفها بن زايد كـ”مسحوق تجميل” لتحرّكاته المشبوهة عبر شعارات دعم الشباب والمرأة والاستثمار بالتكنولوجيا والبيئة والعلاقات العامّة، خاصّة حمد بن راشد الشقيق الأكبر لمحمد بن راشد حاكم دبيّ، أن أبوظبي تستفيد إثارة الأزمات الإقليمية التي تؤثر سلبًا على اقتصاد الإمارة الذي يقوم على الاستثمارات الخارجيّ في العقارات والبنوك؛ وذلك بغرض إخضاعها لهيمنتها المالية والسياسية حتى تذوب تماماً في العاصمة النفطية. وفي تقرير لها سبتمبر/ أيلول الماضي، اعتبرت “بلومبرج” أن قطاع العقارات في دبي “يعاني أسوأ موجة كساد منذ الأزمة العالمية ٢٠٠٩”، مشيرةً إلى أن “زمن النوافير والحدائق المعلقة قد ولّى بعد انسحاب كبرى الشركات من هذا القطاع”.
وبينما يحاول بن زايد تعزيز بطانته الحاكمة عبر توزيع أبنائه على المناصب التنفيذية التي تعطي مجالا لبناء خبرات الحكم، يبشر جاسم الشامسي وكيل وزارة المالية الإماراتي الأسبق وأحد المنشقين عن العائلة الحاكمة، بأن وضع كلّ النفوذ “النوعيّ” في سلّة بن زايد، يسهّل – رغم مركزيّته – الإطاحة بالسلّة لأي سبب. وقد حاول بالفعل حمدان بن زايد الانقلاب على شقيقه محمد في ذروة الحراك العربي عام ٢٠١١ محاولا تنفيذ إصلاحات سياسية، ولكن محاولته قد باءت بالفشل. وفي كل الأحوال، يقبع طحنون بن زايد، الرجل الثاني بعد محمد ومهندس الاغتيالات الخارجيّة في الظلّ متحينًا فرصته القادمة.