ترجمة وتحرير: نون بوست
يمكنك لوم جيريمي كوربين على وصول بوريس جونسون إلى السلطة وهيلاري كلينتون على تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة. يمكنك انتقاد المنافسين الهنود لقدوم ناريندرا مودي، والمعارضة البرازيلية لمساهمتها في صعود جايير بولسونارو، ناهيك عن لوم أحزاب اليسار والوسط في أستراليا والفلبين والمجر وبولندا وتركيا على حدوث كوارث انتخابية مماثلة. في المقابل، يمكنك أن تدرك أن ما نشهده هو ظاهرة تتسم بطابع كوني.
يتكرر السيناريو ذاته في العديد من الدول، فقد حان الوقت للاعتراف بهذا النمط السائد، والإقرار بأن توجيه اللوم لأشخاص وأحزاب معينة لم يعد يجدي نفعا
في الحقيقة، لا يمكن إنكار الإخفاقات الفردية في كل هذه الحالات، على الرغم من أن نقاط الضعف التي كانت تتسم بها الشخصيات المنافسة لكل من كوربين وكلينتون مختلفة للغاية، ولكن عندما يتكرر السيناريو ذاته في العديد من الدول، فقد حان الوقت للاعتراف بهذا النمط السائد، والإقرار بأن توجيه اللوم لأشخاص وأحزاب معينة لم يعد يجدي نفعًا.
في هذه الدول، انتخب الأشخاص الذين لا نتوقع منهم نشر خطاب يعبر عن شواغلك واهتماماتك، إذ كانت تصرفاتهم تشبه عصابة من المخربين، قُدمت لهم مفاتيح معرض فني، حيث قاموا بتعزيز مظهر الأعمال العظيمة التي يؤمنون بها من خلال استخدام علب الرش والقواطع الحادة والمطارق الكبيرة.
في خضم حالات الطوارئ العالمية، يقوم هؤلاء الزعماء بتدمير كل الإجراءات المتخذة من أجل حماية البيئة والاتفاقيات المتعلقة بالتغير المناخي، ويضربون بعرض الحائط كل الأنظمة التي تقيد أصحاب رؤوس الأموال وتدافع عن الفقراء. فضلًا عن ذلك، يشن هؤلاء القادة الحرب على المؤسسات التي من المفترض أن تكبح جماح سلطاتهم. وفي بعض الحالات، يرتكبون اعتداءات باهظة الثمن ومتعمدة ضد سيادة القانون، كما يستخدمون الحصانة كسلاح سياسي، ويستمتعون بقدرتهم على النجاة من الفضائح اليومية، التي من شأنها أن تدمر أي سياسي عادي.
لقد تغيرت بعض الأمور ليس في المملكة المتحدة والولايات المتحدة فحسب، وإنما في أجزاء كثيرة من العالم. إذ يبدو أن صناع السياسة الجدد، الذين يحظون بتمويل من الطبقة الأوليغارشية، التي تعتمد بدورها على الأكاذيب المستفزة وغيرها من أساليب التضليل المتطورة، قد أتقنوا عن طريق نشر الإعلانات المظلمة والترويج لنظريات المؤامرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فن إقناع الفقراء بالتصويت لصالح الأغنياء.
ونتيجة لذلك، يجب أن ندرك طبيعة ما نواجهه، ونصوغ استراتيجيات جديدة لمقاومتهم، فإذا كانت هناك صيغة للغوغائية الجديدة، فيجب أن تكون هناك أيضًا صيغة لمواجهتها وإسقاطها، وفي الحقيقة، ليس لدي الطريقة المثلى لتحدي هذه الطبقة، لكنني أعتقد أن هناك بعض الخيوط التي يمكن أن نجمعها معًا لفهم ما يجب علينا فعله.
خلال الانتخابات العامة التي أجريت في فنلندا، تولت شخصية سياسية متناقضة مع مواقف ورؤى بوريس جونسون منصب رئاسة الوزراء، فقد ظفرت سانا مارين، البالغة من العمر 34 عامًا، وتتسم بدرجة من الصلابة والتواضع والتعاون، بهذا المنصب. لا يمكن تكرار سيناريو سياسات فنلندا، التي انبثقت من تاريخ هذه البلاد الفريد من نوعه. ولكن يمكننا استخلاص درس حاسم من نتائج الانتخابات الأخيرة، وهو ما حدث في سنة 2014، حين بدأت فنلندا تنفيذ برنامج يسعى إلى مواجهة الأخبار المزيفة، بهدف تعليم الفنلديين كيفية التعرف عليها ومواجهتها. وتبعًا لذلك، صُنف الفنلنديون، خلال دراسة حديثة أجريت على 35 دولة، على أنهم من أكثر الشعوب مقاومةً لسياسة تجاوز الحقائق التي تتبعها الكثير من الأنظمة الدولية في العالم.
من هذا المنطلق، لا ينبغي أن تتوقع من حكومة جونسون، أو حكومة ترامب، تحصين شعوبهما ضد أكاذيبهم. في المقابل، لا يجب بالضرورة أن تكون هذه المبادرة من جهات حكومية على وجه الخصوص. خلال هذا الأسبوع، نشر الديمقراطيون الأمريكيون دليلًا لمواجهة التضليل على الإنترنت، يشيرون فيه إلى أنهم سوف يسعون إلى محاسبة غوغل وفيسبوك وتويتر على مساهمتهم في نشر الأخبار المزيفة. من جهة أخرى، أود أن أرى الأحزاب التقدمية في جميع بلدان العالم تشكل تحالفًا عالميًا يشجع على محو الأمية الرقمية، ويضغط على مواقع التواصل الاجتماعي للتوقف عن الترويج للأكاذيب.
في المقابل، تعد هذه المهمة أقل أهمية، حيث يتمثل التغيير الأهم في التوقف عن السعي للسيطرة على الناس عن طريق اعتماد المركزية السياسية. وبالتالي، أعتقد أن أفضل علاج للغوغائية هو الثقة الجذرية إلى أقصى حد ممكن، فمن الضروري أن تثق الأحزاب والحكومات في المجتمعات لتتمكن من تحديد احتياجاتهم الخاصة واتخاذ القرارات التي تخدم مصالحهم.
رئيسة الوزراء الفنلندية الجديدة، سانا مارين، في اجتماع قمة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
على مدى السنوات القليلة الماضية، بدأت علاقتنا بالطبيعة في التحول بسبب نهج جديد يتمثل في العودة للحياة البرية. قد يبدو ذلك غريبا، وأعتقد أنه من الممكن أن يساعد هذا التفكير في الإبلاغ عن نموذج سياسي جديد.
عندما تحاول التحكم في الطبيعة بصفة تنازلية، تجد نفسك في معركة مستمرة معها. تسعى مجموعات في هذا البلد غالبًا إلى معالجة أنظمة المعيشة المعقدة كما لو أنها كانت بسيطة، من خلال الإدارة المكثفة – القطع والرعي والحرق – للتغلب على الطبيعة وإخضاعها حتى تتوافق مع الكيفية التي يريدونها أن تتصرف بها، لكن علوم البيئة، مثلها مثل جميع الأنظمة المعقدة، شديدة الحيوية وقادرة على التكيف، كما أنها تتطور (عندما يُسمح لها) بطرق ناشئة وغير متوقعة.
لكن، محاولات السيطرة هذه تعتبر في النهاية ودون أدنى شك فاشلة، حيث تميل المحميات الطبيعية المُدارة بهذه الطريقة إلى فقدان الوفرة والتنوع، كما تتطلب تدخلاً أكثر حدة من أجل تلبية المطالب غير المنطقية التي يرعاها المشرفون على هذه الطريقة، وبذلك تصبح هذه المحميات أيضًا عرضة للخطر.
سعت السياسة السائدة التي تسيطر عليها الآلات الحزبية، إلى تحويل التعقيد الهائل للمجتمع البشري إلى نموذج خطي بسيط يمكن السيطرة عليه من المركز
في جميع الأنظمة، يميل التعقيد إلى أن يكون مرنًا، في حين أن البساطة تميل إلى أن تكون هشة، يعني إن الإبقاء على الطبيعة في حالة من التطور الموقوف، الذي تفتقد فيه إلى معظم عملياتها الطبيعية وفصائلها الأساسية (الحيوانات التي تقود هذه العمليات) يجعلها عرضة بدرجة كبيرة للانهيار المناخي وظهور الفصائل الدخيلة. لكن، يمكن أن تؤدي إعادة الطبيعة البرية – السماح للمؤسسة الديناميكية التلقائية بإعادة تأكيد نفسها – إلى ازدهار مفاجئ يحدث بطرق غير متوقعة في كثير من الأحيان، مع تحسن كبير في القدرة على التكيف.
ينطبق الأمر نفسه على السياسة، ففي الواقع، سعت السياسة السائدة التي تسيطر عليها الآلات الحزبية، إلى تحويل التعقيد الهائل للمجتمع البشري إلى نموذج خطي بسيط يمكن السيطرة عليه من السلطة المركزية، حيث تُعتبر النظم السياسية والاقتصادية التي تنشئها السياسة غير مستقرة إلى حد كبير وتفتقر إلى الحيوية، كما أنها عرضة للانهيار مثلما يظهر في العديد من المدن الشمالية، تُصبح هذه الأنظمة عرضة للقوى السامة الغازِيَة للقومية الإثنية والتفوق.
في بعض أنحاء العالم، بدأت البلدات والمدن في إعادة صياغة السياسة، حيث حفزت المجالس المشاركة الجماهيرية، ثم – إلى أقصى حد ممكن – تراجعت وسمحت لها بالتطور. وتشمل الأمثلة التقليدية الميزانية التشاركية في بورتو أليغري في البرازيل، ونظام ديسيد المدريدي في إسبانيا، وبرنامج بيتر ريكيافيك في أيسلندا.
أعاد السكان المحليون احتلال المساحة السياسية التي كانت تستولي عليها أجهزة الحزب والحكومة التنازلية، حيث أنهم حددوا معا ما تحتاجه مجتمعاتهم وكيفية تحقيق هذه الاحتياجات، ورفضوا السماح للسياسيين بصياغة الأسئلة أو تحديد الإجابات. كانت النتائج غير عادية: إعادة المشاركة الواسعة في السياسة، خاصة بين الفئات المهمشة، والتحسينات الهائلة للحياة المحلية، إذ لا تتطلب السياسة التشاركية مباركة الحكومة المركزية، بل مجرد سلطة محلية واثقة ومتّسمة ببعد النظر.
هل يمثل ذلك وصفة من شأنها أن تُساعد طرفًا معينًا على استعادة السلطة؟ في الواقع، يمثل ذلك شيئا أكبر بكثير. يمثل ذلك وصفة لاستعادة السيطرة، وجعل مجتمعاتنا أكثر مرونة، وجعل مكائد أي حكومة في وستمنستر أقل أهمية، يمثل هذا التحول الجذري أفضل دفاع ضد الاستيلاء من قبل أي قوة سياسية. لنغير طبيعة السياسة في هذا البلد، ولنسمح للديناميكيات الرائعة التي لا يمكن التنبؤ بها في مجتمع فاعل بالظهور. دع الألعاب البرية تبدأ.