يعيش الكويت حالة من الغليان الشديد، بسبب المواقف المتباينة بين معارضي ومؤيدي قانون العفو العام، عن عشرات النواب والنشطاء السابقين، الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن لاقتحام مبنى الجمعية الوطنية عام 2011، خلال توهج احتجاجات الربيع العربي، للمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية، وأصبح هؤلاء بعد تراجع موجة الحريات في المنطقة، محل تشكيك كبير في ولائهم للنظام الأميري، وتتصاعد بين حين وآخر حملات ضدهم، في الوقت الذي تطالب فيه المعارضة بإصدار قرار العفو عنهم، وتشهر في وجه الحكومة، كل ما تملك من أدوات رقابية لإجبارها على هذه الخطوة التي طال انتظارها.
الربيع الكويتي .. ماذا حدث في 2011 ؟
في 16 نوفمبر عام 2011، وبعد خمسة أيام فقط من إجبار الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على التنحي عن السلطة، ونجاح أولى موجات ثورة 25 يناير، اندفع آلاف المتظاهرين الكويتيين، يرافقهم نواب من المعارضة، واقتحموا مبنى مجلس الأمة فى العاصمة الكويتية، ودخلوا إلى القاعة الرئيسية، وهم يرددون النشيد الوطنى، قبل أن يغادروا المكان بعد ذلك بدقائق، في مشهد غير مسبوق فى تاريخ الكويت.
كان دخول مجلس الأمة بهذه الطريقة، موقفًا سياسيًا ورمزيًا للمطالبة، من وجهة نظرتهم، في اللحاق بركب الحداثة السياسية التي تجتاح المنطقة، وإصلاح النظام السياسي في البلاد، وحل مجلس الأمة، إضافة إلى إقالة رئيس الوزراء آنذاك، الشيخ ناصر الأحمد الصباح، بسبب مزاعم بالفساد.
ولكن الأجهزة الأمنية اعترضتهم على الفور، واستخدمت الهراوات لمنعهم من التوجه إلى مقر «الصباح» في الحكومة، وسط غضب شديد من أمير الكويت، صباح الأحمد، مؤكدًا أن اقتحام بيت الأمة وانتهاك حرمته، مساس بالثوابت الكويتية، وخطوة غير مسبوقة على طريق الفوضى والانفلات، بما يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار وللنظام العام فى البلاد.
تعاملت السلطات الكويتية مع الأزمة بحكمة شديدة، من حيث تبريدها سياسيًا وتنفيذ مطالبها، بخلافِ الكثير من أنظمة المنطقة العتيقة، التي لجأت للقمع والأساليب الاستفزازية، ولم تهتز أمام تسونامي الثورات العربية، ولو كان نصيبها الهلاك، لكن الأمير وافق على استقالة الشيخ ناصر بعد أسبوعين من الاحتجاجات ضده، ثم تشكلت حكومة جديدة، كما أصدر الأمير أمراً بحل مجلس الأمة، ودعا إلى انتخابات جديدة، ولكنه في الوقت نفسه كلف وزارة الداخلية والجهات الأخرى المعنية بمباشرة الإجراءات القانونية المناسبة بحق عمليات الاقتحام.
أمام السيرك السياسي المنصوب من رجل يتمتع بدهاء سياسي كبير لم يجد نواب المعارضة حلاً مناسبًا إلا مقاطعة جلسات البرلمان
أصر «الصباح» وهو ينفذ عمليًا المطالب المرفوعة من الثائرين في الشارع، على عدم الرضوخ لمطالب المعارضين بإقالة رئيس الوزراء وحل البرلمان، خاصةً أن ناصر الصباح، عضو بارز في الأسرة الحاكمة، والرضوخ لإقالته وتصديق المزاعم المرفوعة ضده بسبب الفساد وسوء استغلال الحكم والسلطة، سيعني الانتقال مباشرة لما هو أبعد، حيث تعديل الدستور، وتقويض سلطة الأمير المطلقة، في تعيين وإقالة أعضاء مجلس الوزراء وحل البرلمان.
وأمام السيرك السياسي المنصوب من رجل يتمتع بدهاء سياسي كبير مثل أمير الكويت، لم يجد نواب المعارضة حلاً مناسبًا إلا مقاطعة جلسات البرلمان، بعد التوسع في إدانة أكثر من ربع أعضائه، البالغ عددهم 50 عضوًا على خليفة الأزمة الدائرة في البلاد.
منذ عام 2011 وحتى 2018، تخضع الأزمة للموائمات السياسية، المرتبطة بصعود وهبوط التيارات الثورية في جميع بلدان المنطقة، واقتضى ذلك إطالة أمد الفصل في القضية حتى الآن، بدأتها محكمة الاستئناف في شهر نوفمبر عام 2017، بإلغاء حكم سابق ببراءة عدد كبير من المتهمين في القضية، وأمرت بحبس عدد من النواب الحاليين والسابقين ومواطنين آخرين بلغ عددهم 67 متهمًا، بعقوبات متفاوتة من سنة إلى 5 و7 و9 سنوات عن تهم عدة ولم تحكم سوى ببراءة عضوين فقط.
لجأت المعارضة إلى أعلى محكمة في البلاد “محكمة التمييز الكويتية”، في محاولة منها للحصول على حكم بالعفو الشامل عن المتهمين في القضية، إلا أنها انتهت إلى مسار آخر، وأصدرت حكمها بالحبس 3 سنوات ونصف مع الشغل والنفاذ لجميع النواب السابقين والحاليين المتهمين في القضية، كما أيدت براءة اثنين من المتهمين، وقضت في الوقت نفسه بالحبس عامين، لعدد من المتهمين مع وقف النفاذ.
كان من اللافت فرض أشد العقوبات على أشرس المعارضين في البلاد، بدايةً من النائب السابق والعضو في كتلة العمل الشعبي مسلم البراك، الذي امطره القضاء بالسجن لمدة 7 سنوات، كما حُكم بالسجن 5 سنوات على كل من الدبلوماسي والنائب السابق مبارك الوعلان، والنائب السابق سالم النملان، وجمعان الحربش النائب عن الحركة الدستورية الإسلامية ــ الذراع السياسي لجماعة الإخوان في الكويت ــ والكاتب الصحفي والنائب في البرلمان وليد الطبطبائي، والمحاضر في التاريخ السياسي النائب السابق فيصل المسلم.
القوميون الجدد
كما هو الحال في جميع البلدان العربية، التي تعرضت لرياح ثورية شديدة، تشكل في الكويت تيار قومي متصرف للأمير، ونظام الحكم، والعادات والتقاليد الراسخ في البلاد، وهؤلاء ضد منطق العفو، وأصبحوا يربطون للناس بشعبوية مفرطة بين منطق العفو الشامل في قضية سياسية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مثل هذا السلوك، وبين إخلاء السجون كلها ممن فيها دون استثناء، بمن فيهم مغتصبو الأطفال، والقتلة، وتجار المخدرات ومن على شاكلتهم، الذين صدرت ضدهم أحكام مشددة.
يُصر التيار القومي على قصف القانون، ويعتبره مُفصل على قياس “نخبة” من المطلوبين للعدالة، بعضهم لجأ للخارج، والعفو سيمكنهم من العودة الى البلاد، والترشح للانتخابات المقبلة، كما ينظرون للقضية بكبرياء شديد، ويصرون على إصدار العفو على شكل «قانون» يجعله في المستقبل بين يدي نواب الشعب، وهي طريقة التيار القومي الذي يعتبر مثل هذه المطالبات تجاوزًا في حق صاحب «المقام السامي» الذي يملك وحده حق إصدار العفو، بموجب صلاحيات مطلقة منحها له الدستور، ويهدد القوميون في البرلمان والصحف، بإحالة القانون حال تمكن المعارضة من فرضه إلى المحكمة الدستورية .
المعارضة: المبادئ أولا
لا تهتم المعارضة كثيرًا بتصاعد موجات التحريض ضدها، ولا تلقى بالاً بالتحديات الإقليمية، وصعود اليمين القومي المتطرف في العديد من البلدان العربية، الذي أصبح الآن، صاحب اليد العليا، ويفرض أسلوبه على مجريات الأحداث، ولا تزال تجتهد في الحصول على العفو العام، لدرجة أنها تفاوض الحكومة على شرعيتها مقابل إصدار القانون.
يقف على رأس المطالبين بقانون العفو، رئيس مجلس الأمة السابق أحمد السعدون، وزعيم المعارضة المحنك، الذي يستطيع التعبير عن وجهة نظره، بطريقة لا تضعه تحت مقصلة القوميين، إذ يطالب السعدون المشرعين بالضغط من أجل إصدار قانون عفو عام، عن جميع الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد الفساد، خاصةً أن جميع النشطاء الذين سجنوا لمشاركتهم في الاحتجاجات، كانوا في الواقع يحتجون على الفساد في البلاد، على حد قوله.
ويربط السعدون دائمًا بين محاولات الانتقام من المعارضين المتورطين في اقتحام البرلمان، والحكم عليهم بالسجن بتهم جنائية، وسط حملات إعلامية تعزز الانقسامات الطائفية والفئوية والعنصرية في المجتمع، ما أدى إلى التنكيل بالتيار الإصلاحي، الذي وجد نفسه إما في السجن، أو أجبر على مغادرة البلاد، وبعضهم عوقب بسحب جنسيته.
وبالتالي، فإن إصدار قانون العفو العام للعفو عن جميع المسجونين في اقتحام قضية الجمعية أو المدانين في قضايا الرأي يعيد اللحمة للبلاد، ويمنع زحف القوميون الجدد من الاستمرار في وضع بيض سمومهم، والتعريض بقيم التنوع الراسخة في البلاد، والتي تُميز التجربة الكويتية الدستورية، عن غيرها من بلدان الخليج، بل وحتى أغلب البلدان العربية الكبرى في المنطقة.
بعيدًا عن هذا وذاك، يقف في المنتصف كتاب ودعاة يحاولون إيقاف حدة الاستقطاب في الكويت، منهم الداعية الشيخ أحمد القطان، الذي طالب الأمير بإصدار عفو شامل يعبر عن تسامحه ولين قلبه، بينما يقترح الدكتور طارق العلوي، المقرب من الدولة، والذي يعترف أن الأحكام «شديدة» وغير متوقعة، بإصدار عفو خاص، ويرفض اعتباره معولا لهدم تاريخ الساسة من المعارضة، وتدميرًا لشعبيتهم أمام الجماهير.
يجادل العلوي المعارضين، ويطالبهم بشيء من البراجماتية للوصول إلى حل مشترك، فهم عمليًا لايملكون أغلبية تتلاعب بشرعة الحكومة كما يلوحون، ولن تمكنهم من تمرير قانون العفو الشامل، وبالتالي لن تحضر الحكومة أي جلسة خاصة لطلب مناقشة هذا المقترح، مما يعني حتمية اللجوء لـ «العفو الخاص» إن أرد النواب إخلاء صحيفة زملاءهم الجنائية من جناية اقتحام مجلس الأمنة والتمتع بكل حقوقهم السياسية.
والعفو الخاص المقترح، بحسب الأعراف الكويتية، يُطلب ولا يُفرض، مما يعني أن النائب أو الناشط الذي اقتحم البرلمان في قضية سياسة وطنية من وجهة نظره، عليه التوجه للأمير بطلب العفو والإقرار بالخطأ، على أن ينظر «صاحب السمو» في أمره، إما بالرفض أو القبول، حيث يجب أن ينال مباركته كي يحصل على أغلبية تؤيده في المجلس، وهو ما يرفضه النواب، الذين يطالبون بتطبيق الأعراف الديمقراطية، في حسم القضية، فالعفو الخاص على هذا النحو، ليس فقط سلبًا لصلاحيتهم، ولكنه إهانة لتاريخهم ويهيل التراب على كرامتهم النيابية، ويحولهم إلى دمى غير صالحة للاستخدام في المجلس.