ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأيام الأولى التي تلت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وبداية تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان، كان من الشائع نسبيًا الإشارة إلى التجربة السوفيتية المروعة في ذلك البلد. كان هناك نموذج واضح لما يجب عليك تجنب فعله لتفادي الوقوع في المشاكل. بالتأكيد، سيكون القادة الأمريكيون أكثر براعة. من خلال استخدام تكنولوجيا أمريكية متطورة إلى جانب الجهود المبذولة لكسب “القلوب والعقول”، فإن طالبان – أو ما تبقى منها- سوف تتلاشى بسرعة.
لكن، قد يكون من المفيد مرة أخرى استكشاف بعض الجوانب التاريخية للحرب السوفيتية التي وقعت بين سنة 1979 و1989 في أفغانستان، وذلك من أجل تسليط بعض الضوء على المأزق الحالي للحرب الأمريكية في أفغانستان، التي بلغت بشكل مؤسف عامها السادس عشر، وربما لاكتساب بعض الأفكار حول السياسة الخارجية الروسية المعاصرة ومجتمعها أيضا.
ظهر تقييم مفصّل يغطي الجوانب العسكرية للحرب السوفيتية في منتصف نيسان/ أبريل من سنة 2018 من تحرير صحيفة “نيزافيسيمايا غزيتا” الروسية للاحتفال بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاق 14 نيسان/ أبريل لسنة 1988، والمتمحور حول سحب جميع القوات السوفيتية من أفغانستان. كان كاتب هذه المقالة المثيرة للاهتمام هو المحلل المتخصص في الدفاع الروسي والمحافظ نوعًا ما والمستقل تمامًا، أليكسندر كرامشيكين. يظهر المقال تحت عنوان “الدرس الأفغاني لروسيا: التصادم مع الجهاديين أمر لا مفر منه”.
من جهته، أورد كاتب المقال الروسي أنه كان هناك تصور خاطئ في ذلك الوقت من كلا الجانبين لأصول الحرب. ففي حين كانت القيادة السوفيتية على قناعة بأن “القوات الأمريكية ستغزو أفغانستان في المستقبل القريب”، اعتقدت واشنطن أن القوات السوفيتية مصممة على التنقل للخليج العربي من أجل التدخل في عمليات نقل إمدادات النفط إلى الغرب. كانت افتراضات كلا الطرفين خاطئة تمامًا بالطبع، لكن حسب كرامشيكين فإن التقييم الذي أصاب الأمريكيون في افتراضه يتمثل في أن القوات السوفيتية أرادت اغتنام الفرصة “لاتخاذ الترتيبات اللازمة لجعل السوفيات يكررون سيناريو الفيتنام”.
سعى السوفيات إلى الابتكار من خلال تطوير مذهب يركز على استخدام طائرات الهليكوبتر وخاصة توظيف القوات الخاصة
لوحظ أن الجيش السوفيتي لم يكن مستعدًا تمامًا لخوض حرب لمكافحة التمرد، حيث أن الحرب “كانت حربًا دون جبهات بدون منطقة خلفية مناسبة”. يمكن أن يحدث اتصال مع العدو في أي وقت وفي أي مكان، كما أن الأسلحة والتكتيكات صُممت من أجل حروب في أوروبا الوسطى أو الشرق الأقصى، وليس من أجل خوض حروب في آسيا الوسطى الجبلية. أدى “كل ذلك إلى العديد من الإخفاقات”. فقد كلّفت الهجمات التي وقعت في وادي بنجشير ضد قوات أحمد شاه مسعود الحزبية، القوات السوفيتية خسائر جسيمة مرة أخرى، “لأن مسعود علم مقدمًا بجميع الخطط حول العمليات التي كانت ستنفذ”.
بالتأكيد، حاول كبار الضباط السوفيات تصحيح الموقف من خلال تزويد مركبات النقل بدروع إضافية والتأكد من أن مدافعها الدوارة قادرة على إطلاق النار “عموديًا تقريبًا في الهواء”، وذلك للتعامل مع الكمائن التي لا تحصى ولا تعد في الأودية الضيقة في أفغانستان. ومع ذلك، يبدو أن هناك حقيقة ثابتة حول حرب مكافحة التمرد والتي تتمثل في أن المتمردين يمتلكون معلومات استخبارية متفوقة ويفهمون الصراع البري بشكل أفضل.
سعى السوفيات إلى الابتكار من خلال تطوير مذهب يركز على استخدام طائرات الهليكوبتر وخاصة توظيف القوات الخاصة. علاوة على ذلك، تمثلت “المهمة الرئيسية الجديدة في البحث عن قوافل الأسلحة القادمة من باكستان وحظرها”. هل تبدو كل هذه الاستجابات الاستراتيجية مألوفة؟
حققت القوات السوفيتية بعض النجاحات، فقد أشار كرامشيكين، مثلا، إلى حادثة وقعت في نهاية سنة 1984 قُتل فيها 220 شخص من الثوار في عملية حظر دون خسارة أي جنود سوفيات. لكن، بعد بضعة أشهر فقط قُتل 29 جنديا من جنود القوات الخاصة السوفيتية في معركة واحدة. وخلال سنة 1985، فقدت القوات السوفيتية 18 طائرة و53 مروحية، وفقًا لهذا التحليل، وكان ذلك قبل استعمال صواريخ ستينغر المحمولة على الكتف والمصممة لمكافحة الطائرات.
تسبب هذا التطور، الذي بدأ في أيلول/ سبتمبر 1986، في “ارتفاع حاد في نسبة الخسائر، خاصة فيما يتعلق بالمروحيات. وعلى الرغم من هذه الانتكاسات الكبيرة، يزعم كرامشيكين أن الكثير يعتقدون بأنه “لا يزال بإمكان الجيش السوفياتي الفوز بالكامل في الحرب” بسبب القتال الشديد الذي وقع سنة 1987.
مع تقاسم الحدود مع أفغانستان، تمكن السوفيات من نقل المعدات والإمدادات الثقيلة إلى البلاد بطريقة أسهل وأكثر اقتصادا
في النهاية، خلص كرامشيكين إلى أن الكرملين لم يتمكن من الاستمرار في الحرب بسبب “الكارثة الاقتصادية” التي تشهدها روسيا، لكنه يلقي باللوم أيضًا على ظهور سياسة الغلاسنوست، التي يقول إنها تسببت في مناهضة المجتمع السوفيتي للمجهود الحربي بشدة. أكد كرامشيكين أنه على هذا المنوال، كانت نهاية الحرب السوفيتية في أفغانستان مشابهة جدًا لنهاية الحرب في الفيتنام. كما وصف كرامشيكين اتفاق نيسان/ أبريل لسنة 1988 الذي أنهى الحرب بأنه “استسلام كامل وغير مشروط للاتحاد السوفيتي”، لأن واشنطن وإسلام آباد لم يحاولا الامتثال لوعودهما بالتوقف عن مساعدة الثوار.
بينما يسعى كرامشيكين بوضوح إلى إعفاء الجيش الروسي من الذنب، قائلاً إنهم “أكملوا واجباتهم”، فإنه يعترف بأن المنطق الكامن وراء الحرب السوفيتية في أفغانستان كان “سخيفًا بلا شك”. بل تجاوز ذلك من خلال طرح سؤال استفزازي حول ما إذا كانت القاعدة وطالبان ستنشآن لو لم يتدخل السوفيت مطلقًا في أفغانستان.
في هذا الصدد، قال كرامشيكين: “الإجابة على هذا السؤال معقدة للغاية، ولكن يمكن القول على وجه اليقين إن كلا من جيش الأربعين السوفياتي ووكالة الاستخبارات المركزية لم يساهموا في خلق التطرف الإسلامي، فظهوره يعتبر أكثر تعقيدًا من ذلك حيث أنه نشأ في ظل عوامل داخلية ضمن العالم الإسلامي نفسه”.
من خلال إشارته إلى أن القادة السوفيات اعتمدوا “المنطق الخاطئ”، فهو يدل بإيجاز على الحرب في الشيشان وسوريا للوصول إلى استنتاج مفاده أن الحرب السوفياتية في أفغانستان قد تبدو أكثر قابلية للفهم (أو حتى لا مفر منها) لأنها مرتبطة بالماضي الدفين.
تمكن الجيش السوفياتي من الوصول بشكل واسع إلى “أبناء العم” العرقيين لمختلف الجماعات الأفغانية من داخل جمهوريات آسيا الوسطى
تعتبر المقالة مثيرة للاهتمام إلى حد ما ذلك أنها تقدم مثالا على الخطاب الروسي المعاصر حول موضوع أخطاء الحقبة السوفياتية. في الحقيقة، قد يرى البعض أنها محاولة أخرى لتبييض الماضي البغيض. ولكن إذا كان هذا ما يسمى “النظام الاستبدادي” في العمل، فإنه لا يبدو متوافقا مع اعتقادات مختلفة للمنتقدين الغربيين للصحافة والسياسة الروسية.
في الواقع، يبدو أن مقال كرامشيكين كان موضوعيًا إلى حد ما خاصة مع وجود حساسية إضافية يمكن فهمها، فهو يتعلق بالعديد من قدامى المحاربين في الحرب السوفيتية في أفغانستان، الذين كان من المرجح جدًا أن يقرأوا مقالته. وليس من الغريب أن يحاول المؤلف ايجاد نوعٍ من الاستمرارية بين هذا الفشل الاستراتيجي الأكثر وضوحًا وبين الارتباطات العسكرية الأحدث على الجهة الجنوبية لروسيا، سواء كانت في الشيشان أو سوريا.
علاوة على ذلك، لا شك في أن هذه الصورة للحرب السوفيتية الكارثية في أفغانستان ستثير بعض القراء الروس، حتى لو لم ينو المؤلف القيام بذلك. وذلك بغية التساؤل حول التزام روسيا بالقتال في سوريا من جديد، وهو التزام بيّن بعض الجوانب السيئة التي كشفت احتمالات متعددة لاتخاذ استراتيجية معينة لرد الفعل.
لقد آن الأوان لكي نسمح للأفغان بتقرير مستقبل أفغانستان من دون “مساعدة أجنبية”.
الأهم من ذلك بالنسبة لقراء مجلة “ناشيونال إنتريست“ الأميركيين، هو لأن هذا المقال قد يكون بمثابة دعوة أخرى للاستيقاظ بشأن عدم الجدوى من “التجنيد” للحرب في أفغانستان. بالطبع، صحيح أن الخسائر الأمريكية تعتبر أقل بكثير حتى الآن، على الأقل في سنة 2018. ومع ذلك، من السهل أن ننسى أن الجهد السوفياتي كان له مزايا عديدة مقارنة بالحرب الأمريكية في أفغانستان.
مع تقاسم الحدود مع أفغانستان، تمكن السوفيات من نقل المعدات والإمدادات الثقيلة إلى البلاد بطريقة أسهل وأكثر اقتصادا. وبالمثل، تمكن الجيش السوفياتي من الوصول بشكل واسع إلى “أبناء العم” العرقيين لمختلف الجماعات الأفغانية من داخل جمهوريات آسيا الوسطى، حيث يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يساهموا في تهدئة الاختلافات الثقافية واللغوية.
والأهم من كل ذلك، أن السوفيات، يجادلون مع بعض الوجاهة على الأقل، بأن الأمن في أفغانستان شكّل أهمية بالنسبة للأمن الوطني للاتحاد السوفياتي، وإذا لم تكن هذه “مصلحة جوهرية” للكرملين، فيمكن اعتبارها “مصلحة كبيرة” في موسكو على أية حال. وبالكاد يمكن قول الشيء نفسه عن مهمة واشنطن المكلفة في تلك الأرض البعيدة التي نقعتها الدماء. لقد آن الأوان لكي نسمح للأفغان بتقرير مستقبل أفغانستان من دون “مساعدة أجنبية”.
المصدر: ناشيونال انترست